بعد مرور نحو عام على إبصاره النور وعرضه في أكثر من مهرجان سينمائي عربي
وأجنبي، افتتح شريط ديما الحر "كل يوم عيد" الدورة الأخيرة لمهرجان "أيام
بيروت السينمائية" في شهر أيلول/سبتمبر الفائت، وخرج قبل فترة وجيزة في
صالة "متروبوليس" أمبير - صوفيل في عرضه الجماهيري الأول محلياً. والفيلم
باكورة الحرّ الروائية التي قدّمت قبله مجموعة من الأفلام القصيرة أبرزها
"الشارع" (1997) و"أم علي للملابس الجاهزة" (2003). يشكّل الفيلم تجربة
مثيرة للإهتمام من حيث المقاربة السردية والأسلوبية ويقوم على رؤية للحرب
فيها الكثير من الطزاجة والذاتية المختبئة خلف الحكاية والسرد. بين تجربة
الحرب التي طبعت طفولتها وسنوات المراهقة الأولى وحكايات النسوة التي
تتشابه مع حكايات المرأة التي أصبحت اليوم عليها، صنعت الحر فيلماً صادقاً
وشخصياً. وإذ لا يخلو الفيلم من الدلالات السياسية والإجتماعية، إلا أنه
يدرك وجهته تماماً وإن عنى ذلك أحياناً تحوّل الحكاية سياقاً للمناخ
والإيحاء السينمائيين الأبرز في العمل على حساب النص. تدور الحكاية حول
ثلاث نساء، "هالة" و"لينا" و"تمارا" (تجسّدهن تباعاً هيام عباس ومنال خضر
وراية حيدر)، يجدن أنفسهن في منطقة جبلية مقفرة بعد تعرّض سائق الباص (بيرج
فازليان) الذي كان يفترص أن يقلّهن إلى "سجن الرجال" حيث أزواجهن (كل لسبب
مختلف) لرصاصة ترديه قتيلاً على الفور. في محاولتهن العثور على مخرج،
تتقارب النساء وتتقاطع مصائرهن بين ماضٍ شديد الوطأة وحاضر ينذر بالخطر.
من مكانٍ بعيدٍ في الذاكرة، تشيّد المخرجة ديما الحر عالماً سينمائياً في
باكورتها الروائية الطويلة "كل يوم عيد". وهو عالم يبدو موازياً لعوالم
شخصياتها، أو مسقطاً عليها بقوة خارجية، أكثر منه عالم تلك الشخصيات أو
واقعها أو حتى ذاكرتها. فالمكان في الفيلم مسكون بهواجس وذكريات، تبقيها
الحرّ على مسافة من الشخصيات، لا تُحكى ولا تُناقش ولا تبدّل فعلياً من
خياراتها، كالهواء أو الفضاء من حولها، لا يُمتلك ولا يُفطن إلى وجوده.
إنها - أي الهواجس والذكريات - انعكاسات لحالة مقيمة في مكان عميق وبعيد في
ذات المخرجة، مازالت تمتلك بعض "قدسية"، فتحضر تجلياتها موارِبة، لا تشرّع
خصوصيتها ولا تعمّمها. كأنما الحرّ بذلك لا ترمي إلى مكاشفة أو بوح بقدر ما
تشتغل على الخيط الرفيع الفاصل بين الذاتي والشخصي، إذا جاز التمييز بينهما
على قاعدة الفارق بين ما نعيشه ويحفر فينا وبين ما يعنينا. هكذا تجعل الحرب
شبحاً، يخيّم على المكان، نتحسّسه، نشعر بثقله ولكننا لا نملك الدليل الحسي
على وجوده. حتى تلك المشاهد التي يُراد منها أن ترمز إلى الحرب، قد لا تعني
الشيء نفسه في سياق مختلف أو بالنسبة إلى مُشاهد غير معني بالتاريخ
والأحداث المحليّين. بينما تفرد مساحة الأحداث لثلاث نسوة يتشاركن حكاياتهن
مع الرجال والكوابيس والأحلام. أما هي، المخرجة، فتشاركهن الأحاسيس الناتجة
من تجارب مختلفة ولكنّها تتقاطع عند عناوين العزلة والخوف والضياع.
في هذا البناء المتواري خلف تسميات وأنماط شتى - من "فيلم الطريق" إلى
"الدراما النسائية" - تلوذ المخرجة بالمناخ السوريالي وسيلة لتغريب عالم
الفيلم وشخصياته عن الحرب كتجربة جماعية حاضرة في العيش اليومي. وهي بذلك
إنما تعلن "ذاتية" الحرب بالنسبة إليها، نازعةً عن الأخيرة المنحى العمومي
والجماعي. يطال التغريب المشاهِد أيضاً الذي لا تسعى الحرّ إلى إشراكه من
خلال تيمة الحرب بقدر ما تجهد لـ"إزعاجه" بمناخٍ سينمائي قلِق، ينذر أبداً
بالخطر، وبشخصيات مسكونة بماضٍ يخفي الكثير، يحدّد حاضرها ولا ينفكّ يزورها
على شكل كوابيس وذكريات قاتمة.
لعلّ ما يحقّقه الفيلم في هذا الجانب قدرته على الإيحاء من خلال الغياب أو
التغييب. للغياب تأثير مزدوج، لاسيّما في حكاية من هذا النوع، لأنه يرمز
إلى الماضي كما إلى المقبل. فالحرب المقترحة في الشريط من خلال الأصوات
وبعض المشاهد والشخصيات كما من خلال المناخ العام، قد تكون الحرب التي مضت
أو تلك التي تلوح في الأفق. وبقدر ما قد يقترحه هذا من رؤية ناضجة نابعة من
الحاضر أو من التأمل في الماضي، إلا أن ثمة إحساس طفولي لا يفارق تلك
الرؤية. فكأن ديما الحرّ تعود إلى ذاكرة طفولتها لتستحضر مشاعر القلق
والريبة والرعب والضياع والعجز عن فهم ما يحدث. فلا يبقى أمام تلك الطفلة
سوى ذلك الإحساس العام بالخوف، الخوف من الجبال والوديان والسهول، الخوف من
الآخر والخوف من الموت. تتجلّى تلك المخاوف في مشهديات متلاحقة، يلعب
المكان فيها دوراً رئيسياً. فكما تقلب أفلام الرعب مفهومنا للشخصيات
والأمكنة عندما تحوّل أكثرها تقليدية وعادية أوكار عنف وشرور، كذلك يكسر
"كل يوم عيد" مفهومنا للطبيعة اللبنانية كملهم اساسي للموروث الشعري
والغنائي، لتصبح معقلاً للمخاطر ومصدراً للتهديد.
وسط هذا كلّه، لا بد للشخصيات وحكاياتها من أن تقول الكثير لتحقّق بعض
التوازن بين الشق الحكائي وذلك الأسلوبي. إلا أن ذلك لا يتحقّق تماماً بما
يخضع الفيلم لحركة حادّة من الصعود والهبوط. فبعض المشاهد ذروة في التأثير
والإيحاء والجماليات (كمشهد البداية على سبيل المثال) بينما يفيض بعضها
الآخر بالفراغ الدرامي والإفتعال (مونولوغ "لينا"، تجسّدها منال خضر). وإذ
يعطي المناخ السوريالي ثماره في معظم الأحيان، يُمطّ في مواضع معيّنة حتى
يفقد مرونته كما هي حال مشهد الموكب الجنائزي، أو تغلب المخرجة رغبة في
التوضيح - أو التشديد - فيخسر المشهد قوته كما يحدث حين تعود في آخر الفيلم
إلى المشهد الإفتتاحي لتظاهرة صامتة يحمل أشخاصها صوراً تدلّل على أن
أصحابها مفقودون. ولكنّ السقطة الكبرى تمثّلها النهاية المربكة التي تقرّر
الإنحياز لـ"الحكاية" بخلاصة نسوية سطحية، تعظ بسعادة لا تأتي إلا عن طريق
تحرّر النسوة من أزواجهن. والواقع أن شخصية "هالة" - والرائعة هيام عبّاس
بأدائها - كانت قد قالت الكثير، بصمتها وتقشّفها، عن تلك الزوجة المقموعة
والمقيّدة التي اكتسبت قوّة كسرت جدار ترددها وخوفها بمجرد إطلاقها النار
من مسدّس زوجها على كلب مسعور. ليس فعل القتل هو ما منحها تلك القوّة بل
قدرتها على حماية نفسها، للمرة الأولى ربّما، من أذيّة تلحق بها. لقد صنع
ذلك التحوّل منها إمرأة جديدة، يمكننا أن نتخيّلها تطلق النار على زوجها،
فيما لو وصلت إليه، انتقاماً أو دفاعاً. المثير للدهشة هنا - إنما المنتمي
إلى ذلك التفاوت في مستوى الفيلم - تلك الحساسية العالية في الكتابة التي
أملت على الكاتبين (السيناريو جهد مشترك للحر وربيع مروة) الإكتفاء
بالتحوّل في شخصية "هالة" وبجملة حوارية واحدة (تلك التي تردّ بها على
حكاية السائق - فادي أبي سمرا في ظهور قصير لافت - عن رجال القرية الذين
يخرجون من السجن لتخصيب نسائهن ومن ثم يعودون من إنها حكاية قديمة سمعت بها
من قبل) كمفتاح إلى شخصيتها، بخلاف الشخصيتين الأخريين اللتين تحظى كل
منهما بمونولغ مكاشفة. بحساسية أقل، كتبا شخصية "لينا" التي تبدو أقل من
رفيقتي رحلتها اكتمالاً ونضجاً درامياً، مثلما هو أداء منال خضر أقل عمقاً
من أداءي عباس وراية حيدر. ولكن في الحالات الثلاث، لا تبدو دراما الشخصيات
وتحوّلاتها - باستثناء "هالة" ربما - محرّك الأحداث بقدر ما هو المناخ
العام والمكان. والأخيران يعبّران عن حالات نفسية بطيئة، لعلّها تمتلك
معنىً أكبر بالنسبة إلى المخرجة.
لا شك في أن التجربة التي خاضتها ديما الحر في "كل يوم عيد" فرضت عليها
تحدّيات كثيرة بدءاً بزاوية النظر المتمرّدة إلى موضوع الحرب ووصولاً إلى
المقاربة البعيدة من الواقع. وهي بهذا المعنى تجربة من الصعب أن تكتمل. غير
أن النقص لا يطاول البتة قدرات الحر. فالمؤكّد أن خلف هذا الفيلم تقف مخرجة
ذات رؤية وأسلوب. والمؤكد أيضاً أن "كل يوم عيد"، على هنّاته وهفواته،
يرسّخ أكثر قناعتنا في أن تجربة سينمائية جريئة وطموحة لم تحقق كل مبتغاها
أفضل من أخرى متواضعة تنشد إتقاناً في إطارها المحدود.
المستقبل اللبنانية في
12/11/2010
ترافقه فرقة الموسيقى الإلكترونية "مونما" في سينما
متروبوليس
"عيادة الدكتور كاليغاري" أشهر الأفلام الصامتة يُعرض في
بيروت
تنظّم سينما متروبوليس أمبير - صوفيل يوم الأحد المقبل الرابع عشر من تشرين
الثاني/ نوفمبر (الثامنة والنصف مساءً)، بالتعاون مع "رابتشرد" (Ruptured) والمركز الثقافي الألماني "غوتيه"، حدثاً سينمائياً موسيقياً
بارزاً، يقوم على عرض الفيلم الكلاسيكي الألماني الصامت "عيادة الدكتور
كاليغاري"
The Cabinet of Dr. Caligari بنسخته السينمائية المرمّمة، مصحوباً بموسيقى أصلية حيّة لفريق
الموسيقى الإلكتروني اللبناني "مونما"
MUNMA مع جواد نوفل ووجدي اليان.
يشكّل عرض فيلم روبرت فين في صالة سينمائية لبنانية حدثاً في حد ذاته. فكيف
إذا رافقه تصميم موسيقي حي، وضعه فريق موسيقي لبناني خصيصاً بالفيلم؟ فكرة
العرض "السينيموسيقي"، إذا جاز الدمج والتعبير، ليست جديدة تماماً على
المشهد السينمائي اللبناني. فقد اعتمدها مهرجان ".. نما في بيروت" مع عروض
"الأفلام المنزلية" التي لازمت دوراته السابقة، كما قدمها في دورته الأخيرة
من خلال عرض فيلم لأكرم الزعتري، رافقه عزف حي لشريف صحناوي.
ولكن الحدث اليوم هو الفيلم نفسه الذي يمكن اعتباره الفيلم الصامت الأكثر
تأثيراً في تاريخ السينما، إلى جانب "المدرّعة بوتمبكن" لأيزنستاين ربما،
على الرغم من مرور ثمانين عاماً على إبصاره النور. لماذا؟ لأن تأثير الشريط
تجاوز التجديد الذي قام عليه في زمنه إلى ترك بصمته على أعمال وتيارات
وأنواع سينمائية منذ ثلاثينات القرن العشرين وحتى يومنا هذا. فالنقاش حول
الأفلام الصامتة غالباً ما ينتهي عند الثورة التي أحدثتها في وقت إبصارها
النور أو في أحسن الأحوال خلال السنوات القليلة التي تلتها. ولكن أن نسمع
سينمائي معاصر مثل روبرت رودريغيز يتحدّث عن تأثير "عيادة الكتور كاليغاري"
وأعمال روبرت فين الأخرى على شريطه "مدينة الخطيئة"
Sin City،
فتلك سابقة ومجد لم ينله فيلم من قبل تجاوز الثمانية عقود من الزمن.
ولكن التأثير الكبير وحده لا يكفي لإعلان عظمة هذا الفيلم. فثمّة التجديد
والابتكار والقدرة على التأسيس لمدرسة سينمائية بارزة في تاريخ السينما
الألمانية أولاً، ونقصد بها "التعبيرية"، ولنوع سينمائي ما زال حياً إلى
يومنا هذا هو "الرعب النفسي". إلى كل ذلك، يشع الفيلم بأسلبته للمكان
للتعبير عن حالة نفسية وذهنية ملتوية. ديكور غريب وأبنية طويلة مائلة
وطرقات غير مستقيمة وأبواب منحرفة التصميم هي بعض العناصر اللافتة في عالم
الفيلم. ولكن تلك الأسلبة تكتسب معناها ويتعمّق توظيفها حين تتحوّل وجهة
نظر الراوي "فرانسيس" الذي تكشف نهاية الفيلم عن اختلاله.
الحكاية
يفتتح الفيلم بمشهد لرجلين، يبدأ خلاله أحدهما، "فرانسيس"، برواية حادثة
وقعت له قبل مدة، كما يقول لمستمعه. من هناك، تُروى أحداث الفيلم من وجهة
نظر "فرانسيس" بأسلوب الفلاشباك. تبدأ الحكاية في البلدة التي يسكنها الرجل
مع وصول طبيب نفسي غامض، "الدكتور كاليغاري"، يحاول الحصول على إذن عمدة
البلدة لتقديم عرضه في التنويم المغناطيسي ولكن الأخير يهزأ منه ويصرفه.
إلا أن "الدكتور كاليغاري" يتمكن من الحصول على الإذن ويبدأ بالتحضير لعرضه
مع انتشار خبر مقتل العمدة. يرافق "فرانسيس" صديقه "ألن" الى العرض حيث
يتطوّع الأخير لاختبار قدرات "كاليغاري". يسأله "ألن" كم تبقى له من
الحياة، فيتنبأ بموته قبل صباح اليوم التالي. تثير النبوءة الرعب في الجميع
وأولهم "ألن" الذي يغادر برفقة "فرانسيس". في صباح اليوم التالي، يعثر على
"ألن" مقتولاً. مدفوعاً بشكوكه وحزنه على خسارة صديقه، يبدأ "فرانسيس"
تحقيقاً للعثور على القاتل ويصل في النهاية إلى استنتاج يؤكد شكوكه بأن
أعمال القتل إنما هي صنيعة "كاليغاري" المختل.
النهاية
ولكن نهاية الفيلم ستطيح بكل يقين حيث يتبين أن "فرانسيس" والرجل الآخر
الذي كان يستمع إلى روايته إنما مريضان في مصح للمرضى النفسيين، يشرف عليه
"الدكتور كاليغاري". وإذ تشكّل النهاية إحدى عناصر التجديد في الفيلم وأحد
الأسباب الرئيسية لمعاندة الفيلم السقوط في النسيان، إلا أنها من زاوية
أخرى تناقض رغبة كاتبي الفيلم ونواياهما. وهي في الواقع إضافة أسهم بها
منتج العمل إيريك بومر الذي يُقال أنه أراد نهاية أقل ترويعاً من الأصلية
حيث يتأكد ضلوع "كاليغاري" بجرائم القتل. بينما تشير مصادر أخرى إلى أن
تغييره النهاية كان مدفوعاً بضغط السطات الألمانية التي لمست في العمل
رسائل سياسية. هكذا اقترح على الكاتبين هانز جانوفيتز وكارل ماير نهاية
تبيّن أن الأحداث إنما هي من نسج ذهن "فرانسيس" المشوّش، من دون استبعاد
فرضيات أخرى منها أن يكون "كاليغاري" مجرماً بالفعل وأنه للتملّص من جرائمه
قام بزج "فرانسيس" في المستشفى بحجة أنه مختل. وفي مثال على تأثيره، يحضر
هنا الفيلم الأخير لمارتن سكورسيزي "جزيرة شاتر" الذي يوظّف نهاية مشابهة
تعزّز عناوين الشك والتشوّش والاختلال. بالنسبة إلى الفريق المؤيّد للترميز
السياسي في الفيلم، فإن النهاية نسفت رؤية الكاتبين لألمانيا غداة الحرب.
ففي كتابه الشهير "من كاليغاري إلى هتلر" (1947)، يشير سيغفريد كراكاور إلى
أن شخصية "كاليغاري" تمثّل الحاكم الطاغية الذي لا بديل منه سوى الفوضى
الاجتماعية المتمثلة في مشهد العرض. أما توماس إلسايسر فيرد عليه في كتابه
"سينما فيمار وبعدها" بأن التجديد الذي يقدمه الفيلم هو رغبة ثورية من صناع
الفيلم للتميّز عن الأعمال الهوليوودية المستوردة. في سياق مقترح كراكاور،
اعتبر آخرون أن الفيلم يمثل الهرمية في المجتمع الألماني من خلال تقديم
شخصياته وقوفاً أو جلوساً على كراسي مرتفعة أو على الأرض وأن النهاية
المقحمة تناقض تلك الرؤية من خلال ما تقترحه من أن التغيير قد يكون أسوأ من
استمرار الحال.
البداية
على الرغم من التحليلات الكثيرة التي تناولت شكل الفيلم ونهايته في ضوء ما
تعكسانه عن حالة المجتمع الألماني في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تبقى
الرواية الأصلية المنقولة عن كاتبي الفيلم شخصية وغنية بالتفاصيل، من دون
أن توصد الباب على التحليل والتأويل. ولعلّ الجزء المنسجم منها مع
التحليلات هو ذلك المتعلّق بإيمان الكاتبين جانوفيتز وماير بأن السينما هي
الوسيط الجديد للتعبير الفني وبقدرتها على جمع الفنون المختلفة. وذلك يترجم
أو ينسجم إلى حد ما مع التحليل القائل بأن "عيادة الدكتور كاليغاري" شكّلت
في وقته الجسر بين الثورة في الفن المعاصر من جهة وطبيعة الفيلم التجارية
من جهة ثانية. ينطلق هذا التحليل من المشهد الأكبر الذي اتسم في مطلع
العشرينات بالتجريب في مدارس الفن التشكيلي الأساسية مثل الدادائية
والتكعيبية والسوريالية معزّزاً الصورة المجزأة والمشوّهة. بالعودة إلى
انطلاق فكرة السيناريو، تعود جذور الفكرة إلى تأثر جانوفيتز وماير بأعمال
بول فيغينر التي أوحت لهما بكتابة فيلم رعب. استدعى الإثنان تجاربهما
السابقة. بنى جانوفيتز على ذكرياته الأليمة من تلك الليلة من العام 1913 في
هامبورغ عندما كان سائراً في الليل ولمح رجلاً ما لبث أن اختفى في الظلام
بين شجيرات المنتزه المجاور. في صباح اليوم التالي، انتشر خبر العثور على
امرأة مقتولة في ذلك المكان. أما ماير، فكان مسكوناً بجلساته النفسية خلال
الحرب مع طبيب نفسي عسكري. وخلال مشاويرهما معاً، صادف الاثنان ذات ليلة
عرضاً في عنوان "الرجل والآلة" حيث كان رجلاً منوماً مغناطيسياً يتنبأ
بالمستقبل. هكذا جمعا التفاصيل المتناثرة وكتبا السيناريو خلال ستة أسابيع.
ولما لم يكن أحد منهما على صلة بشركة إنتاج، حاولا الاتصال بالمنتج إيريك
بومر الذي استمع إليهما بعد تردد واشترى السيناريو على الفور من شدة إعجابه
به. توافق الثلاثة على أسلوب "التعبيرية"، جزئياً بسبب قلة الموارد. هكذا
تعاون مع فريق مصممين ورسامين تألف من هيرمان وورم ووالتر رايمان ووالتر
روهريغ، قاموا برسم الظلال والضوء مباشرة على الخلفيات والأرضية وصمموا قطع
ديكور مسطحة في خلفيات المشاهد.
في هذه المرحلة التحضيرية، حاول بومر إسناد مهام الإخراج الى سينمائي
ألماني بارز هو فريتز لانغ، الذي سيقدم بعد سنوات قليلة عملاً آخر من
علامات "التعبيرية الألمانية" هو "متروبوليس". ولكنه كان منشغلاً بتصوير
فيلمه "العنكبوت". انتقل المشروع إلى أيدي روبرت فين الذي قام بتصوير مشهد
على سبيل امتحان أفكار المصممين، فجاءت النتيجة مذهلة ودفعت ببومر إلى منح
مصمميه الحرية الإبداعية الكاملة.
الإستقبال والتأثير
بعد شهرين من التصوير، عرض "عيادة الدكتور كاليغاري" للمرة الأولى يوم 26
شباط/ فبراير 1920. استقبل الفيلم بالمديح العالي واستحث محللين كثيرين
لدراسته خلال العقود التالية، فضلاً عن كونه المرجعية التي مهّدت الطريق
لـ"الفيلم الأسود"
Film Noir في الأربعينات، وملهم مخرجين مثل ألفريد هيتشكوك من الكبار وتيم
بورتن من المعاصرين حيث نعثر في أفلامه "إدوارد ذات اليد المقص"
Edward Scissorhands
وSleepy
Hollow على لمحات من شخصية "كاليغاري".
المستقبل اللبنانية في
12/11/2010
تيسير فهمي: فلوس زوجي ليست سبب عودتي للسينما
كتب
غادة طلعت
بعد غياب ثمانية أعوام قررت الفنانة تيسير فهمي العودة إلي
السينما بعمل جديد من إنتاج زوجها أحمد
أبوبكر، الفيلم يحمل عنوان «مشروع غير
مشروع» ويشاركها البطولة عزت أبوعوف وطلعت
زكريا، وعن هذه التجربة وأعمالها
الدرامية المقبلة تحدثت تيسير في هذا
الحوار:
·
ما الذي دفعك
للعودة للسينما بعد غياب ثمانية أعوام؟
-
وجدت سيناريو الفيلم
جيدًا وظروفي قادرة علي المساهمة في إخراج مشروع سينمائي يستحق
أن أنزل من بيتي
لأقوم بتصويره.
·
وما ملامح هذه الفيلم؟
-
الفيلم بعنوان «مشروع غير مشروع» قصة محمد سميح وإخراج مؤنس الشوربجي
ويشاركني
البطولة الفنان عزت أبوعوف والفنان طلعت زكريا واللبنانية مروي وأشرف
مصيلحي..
وتتناول أحداثه المشاكل التي يمر بها البلد والظروف الاقتصادية الصعبة التي
أصبحت
تجعلنا نبيع أنفسنا، خاصة الشباب المحبط الذي أصبح مستعدًا لأن يبيع أي شيء
من أجل
تحسين وضعه وتحقيق الثروة.
·
وماذا عن دورك في الفيلم؟
-
أقدم شخصية «نور» وهي سيدة كبيرة في العمر قامت ببيع نفسها وهي
صغيرة ونتيجة لهذا أصبحت صاحبة ثروة كبيرة ومع تطور العمر التقت شابًا
صغيرًا قام
بخداعها باسم الحب وقرر أن يبيع نفسه لهذه السيدة من أجل الحصول علي ثروتها.
·
ألم تخشي من انتقاد الجمهور لك
بعد تقديمك دور شابة
صغيرة؟
-
فكرت في هذا الموضوع ولذلك قررت عدم القيام بالمرحلة
الأولي من الشخصية التي تظهر فيها في سن السادسة عشرة لأنه ليس من المنطقي
أن أظهر
أصغر من عمري لهذا الحد ولذلك سوف نقوم بالاستعانة بالممثلة الشابة ميار
الغيطي
لتقدم المرحلة الأولي من الشخصية.
·
هل سعيت لهذه التجربة أم تم
ترشيحك لها؟
-
ليست مسألة سعي ولكني كنت دائمًا أنتظر فيلمًا
جيدًا لأعود به ودائمًا كان ردي علي
الصحافة أنني إذا وجدت سيناريو مناسبًا سأعود
وبمجرد أن عرض علي المؤلف الفيلم ووجدته يناقش قضية جادة ويدور في إطار
بوليسي
كوميدي لوجود الفنان طلعت زكريا ووجدت أنه يشبه الحياة التي نعيشها وافقت
عليه
مباشرة.
·
ولكن طبيعة أحداث الفيلم وقصة
الفقر تم تناولها كثيرا
وقد لا يقبل عليها الجمهور، هل فكرت في
ذلك؟
-
لابد أن يضم الفن
كل أنواع الإبداع ولكل جمهور لون معين يسعي لمشاهدته فمن الناس
من يحب مشاهدة
الأفلام الكوميدي وآخر يحب التراجيدي ولم
أقلق من نسبة المشاهدة لأن الجمهور يسعي
لمشاهدة كل الأعمال
.
·
مؤنس الشوربجي مخرج جديد وتجربته
السابقة «لحظات أنوثة» لم تحقق نجاحًا ألم تخشي من التعامل معه؟
-
مؤنس مخرج جديد ولم يقدم سوي تجربة سينمائية وحتي إن كانت لم تحقق النجاح
فلا ينبغي
أن نحكم عليه بالاعدام وعندما جلست معه وجدت أن لديه فكرًا مختلفًا.
·
الفيلم من إنتاج زوجك «شركة
التيسير»، هل هو السبب في مشاركتك
في هذه التجربة؟
-
لم أنظر لاسم المنتج ولم يفرق معي كثيرًا ما
يهمني هو أن الفيلم أعجبني حتي وإن كان
منتجه من الفضاء فهو مجرد ممول ولم أشترط أن
يكون الفيلم من إنتاج زوجي.
روز اليوسف اليومية في
12/11/2010
أستاذان عظيمان.. محمود مرسي والرائد.. عبدالرحيم الزرقاني
كتب
سمير العصفورى
محمود مرسي
وجه غاضب وفجأة ينفجر في ضحكة مرحة عابثة
طويلة والسبب سؤاله: ماذا يقصد هذا الرجل بكلامه؟
إنه يمسك كتاب
ستانسلافسكي يعصره بيمناه عصرًا ويمد أصابع يده اليسري في وجوهنا بعد أن
يقرأ مقولة
من مقولات الكتاب ويصرخ: الله.. إيه التناقض ده يقولي ما معناه، حد يقولي..
قولوا
حلوها أنا جربتها ما نفعتش إنتم - خربوها.
أن يهبط بقداسة هذا الكتاب إلي
مستوي الكتاب القابل للبحث والقابل للمناقشة والخطأ، إنه ليس كتابًا منزلاً
ومن هنا
فهو يفتت لنا معلوماته ويجعلها قابلة للبحث والتفتيش، المادة التي كان
يدرسها
(نظريات
تمثيل) لكنه دمر كل هذه النظريات وسحقها وتركنا في حيرة البحث عن شظايا من
الوعي، بكيف نستخدم ما تبقي من هذه النظريات، إنه يبدأ بالشك ويبحث عن يقين
في صدق
الأداء وهذا الشيء العزيز لا يجده الممثل إلا (بذاته في ذاته)
مستندًا علي علامات
طرق نادي بها الآخرون، ومحمود مرسي أعطانا مساحة رحبة في البحث عن أفضل ما
يصلح لنا
من طرق وأساليب للدخول إلي مهنة الممثل، يضرب أمثلة بما نشاهده من أعمال
وينتقد
بحدة ما نشاهده أيضًا.
محمود مرسي لم يطلب من أحد منا تقليده ولا التأثر
بأسلوبه في الأداء فهو طوال فترة جهاده الفني (باحث) عن دور يفتش في كل
جانب عن
مستوي للأداء يرتفع بنجوميته من عتريس البشع إلي شفافية أبو العلا البشري
مشوار
شديد الطول، مساحة عريضة من الصدق والجودة والارتفاع بخط واضح
نحو أداء متميز
لعملاق مثقف - علمنا وأسعدنا بفنه العظيم.
الأستاذ المعلم:
عبدالرحيم الزرقاني
رغم أنه المساعد الأصلي للأستاذ الرائد زكي
طليمات فإنه طبعة مختلفة، إنه الرجل الوسطي، الذي يقف وسط التأمل الذهني
للعقل
المفكر (نبيل الألفي) والعاصفة الدموية الهائلة (حمدي غيث) إنه الرجل
الأكثر بساطة
-
والأكثر (تواضعًا) فلا زهو الثقافة والمراجع الأجنبية يشغله في
مقدماته لتعليم
الممثل ولا سعادته بقوة عضلاته تدفعه إلي (استعراض قدراته الجسدية) ولا
قوامه يسمح
له بأن (يتأنق في الحركة) قامته ونظارته وبساطة ملبسه وحرمانه من بعثة
السفر للخارج -
وتواضعه الجم (رغم تكراره لعبارة «نحن
عبدالرحيم الزرقاني») مجرد افتخار ذاتي
متواضع لذات غنية بشيء نادر فاخر إنه التراث الشديد للقيمة
والخبرة الإنسانية كثافة
المشاعر الهادئة والشجن والحنان الذي يخرج من صدره متنفسًا ويعلو صوته
ناطقًا، لا
كلمة لديه تخرج من فمه إلا إذا حملت إشارة نفسية أو دلالة درامية لا شيء
لديه مجاني
لا معني له.
إنه ليس ممثلاً عظاميًا - بل هو الرجل الإنسان البسيط، ولهذا
سجلت أعماله الإخراجية الواقعية أعلي إقبال جماهيري وأكثر
جاذبية.
لا يؤمن
كمخرج إلا (بالكلمة والممثل) ولهذا فهو يختصر المسرح في وظيفته الجذرية،
والديكور
والملحقات والإضاءة والموسيقي وغيرها مجرد إشارات دلالية، خلفية مساعدة لا
غير
الحركة لديه تؤدي وظيفة واقعية شارحة لتفصيح القصد - بلا ترميز
وبلا (بهلوانيات)
تجرح عن سيادة الهادي، أستاذ رسمي ومعلم محترم، احتاجوا إليه كثيرًا في
السينما
لجعل الجميلات الأبكمات يفتحن أفواههن ويتعلمن الكلام.
استطاع معالجة (عاهات الكثيرات والكثيرين) إنه أستاذ
الأداء الواقعي في المسرح وحتي في المسرحيات
التاريخية والنصوص الأدبية استطاع كسر نسور الأداء الفخم
المحلق وجعلها حمائم وادعة
وجميلة.
لتذكر بركان حمدي غيث (جميلة الشرقاوي) لنتذكر كيف كان الكل
كالعاصفة ما عدا الأداء الخاص الهادئ للزرقاني، رغم أنه فارس
الرياح الهوجاء حمدي
غيث كان هو مخرج العرض.
نتذكر أداء الزرقاني في دور عمدة المدينة في مسرحية
(تشيانيك)
تحت الرماد رغم أنها إخراج حمدي غيث أيضًا، الزرقاني لا يصخب عندما يعلمك
الهجوم والدفاع والغضب إنه يحول الانفعال الحاد إلي إقناع عميق يحققه في
الانفعال،
إنه يطالب المستمع أن يسمعه ويجذب آذان المستمع بنغمة خافتة
مقنعة، صوت رخيم رغم
محدودية نغماته ورتابتها أحيانًا.
لا يستعرض في الأداء نظرية فكرية ولا
يصرخ صوته بالمعرفة ولا يقدم القيمة الفكرية علي القيمة العاطفية للمشهد،
إنه يوازن
بين كل الأشياء ويكون الناتج إنسانًا يحيا الدور بكل أبعاده، لا يسبق بعد
بعدًا،
إنه الأستاذ الوسط، رمانة الميزان بين ذهنية الألفي وانفعالات
غيث، إنه المعلم الذي
لم يتكرر - كانت أيام ولسه برضه باقي في الذاكرة شوية.
روز اليوسف اليومية في
12/11/2010 |