أوروبا القرون الوسطى
عاشت أوروبا قرونا من الظلام قبل انتقالها الى عصر النهضة، واقترنت القرون
الوسطى من تاريخها بهيمنة الكنيسة على مقاليد الحكم وايغالها في ممارسات
ارهابية باسم الدين المسيحي. تلك الحقبة أفرزت هيمنة «الدين السياسي»
المطلقة على كل مظاهر الحياة. فتدخلت الكنيسة ورجالها في أدق مفاصل الحياة
العادية للناس، وقامت بإستغلالهم كما استغلت موارد الدولة، خدمة لمصالحها
ومن يمثلهم في قمم السلطة. وللحفاظ على امتيازاتهم الكبيرة، وخوفا عليها،
دأب قادة الكنيسة على توجيه تهمة الالحاد والشيطنة الى كل شخص أو مجموعة
تحاول الخروج من دائرة هيمنتهم، وكانت القسوة هي الوسيلة الأبرز لتصفية
المتمردين.
فيلم «الموت الأسود» حاول الذهاب الى تلك الأزمنة لكن من خلال حكاية مزجت
بين الاثارة والدراما والرعب والغموض.
تجنب المخرج كريستوفر سميث الخوض في تفاصيل تاريخ أوروبا الوسطي، فركز بدل
ذلك على قصص صغيرة ترافقت مع انتشار مرض الطاعون في مناطق شاسعة منها وحصده
ملايين الأرواح. ومع انتشار الوباء، في فترة معينة وخوفهم منه، أطلق الناس
عليه اسم «الموت الأسود». وقد تزعزعت خلال ظهوره الكثير من القناعات
الروحية فتوزع الناس في تعليل أسبابه بين غضب الهي أو عمل مدبر من أعمال
الشيطان. أما الكنيسة فما كان يهمها في ظل انتشاره المرعب هو الحرص على
ترسيخ فكرة ان الخلاص الحقيقي من الموت يكمن في الاقتراب من الكنيسة
والكنيسة وحدها. فكانت أي اشارة أو سلوك معاكس لهذا الاتجاه، خصوصاً في زمن
الخوف تعني نهاية قوتها، لذلك سعت وبسرعة لمعرفة حقيقة ما كان يجري في قرية
بعيدة عن مركزها ادعى سكانها انهم الوحيدون الذين لم يستطع الطاعون الدخول
الى بيوتهم ولم يقتل أحدا منهم. هذه الأنباء أغضبت الكنيسة كثيرا، فسارعت
الى تكليف الفارس المتدين أولريك (الممثل الانكليزي شين بين) معرفة حقيقة
ما يجري هناك. في المقابل كان أولريك في حاجة الى دليل يوصله الى منطقة
المستنقعات والغابات الكثيفة. خلال جولته البحثية عثر على راهب من سكان
المنطقة ذاتها فطلب منه التعاون، فما كان من الراهب الشاب أوسموند (الممثل
أيدي ريدماين) إلا الموافقة.
ايمان سوي
كان منظر الجثث المنتشرة في الطرقات والعربات التي تنقلها الى المحارق يثير
الخوف في النفوس، والغموض المريب في الطريق الى القرية يلف الحكاية
بكاملها، فلا يقين راسخ ولا دلالات ثابتة تقود الى الحقيقة، إلا قلب الراهب
أوسموند، وموافقته على العمل كدليل للحملة انطلقت من سعيه الى ملاقاة
صديقته التي رحلت الى منطقة قريبة من القرية المهددة، ومن اعتقاده أيضا أن
ظهور الوباء لا علاقة له بغضب الرب أو عمل الشيطان. كان ايمانه سويا وكان
يحيل الأشياء الى مسبباتها الحقيقية، وكان يبحث عن الحقيقة بقلب ورع، فيما
كان القلق يسري عميقا في روح قائده أولريك وأرواح جنوده المرتزقة، الذين
قابلوا الخوف بالعنف، وباراقة الدماء من دون مبرر. لهذا طغت مشاهد التعذيب
الرهيبة والاعدامات الهمجية للنساء المتهمات زورا بممارسة السحر واستحضار
الأرواح الشريرة، على المشهد العام. هذه الصورة الدموية القاتمة للعصر
الوسطي الأوروبي عبر عنها «الموت الأسود» بأعلى تجلياته التعبيرية. واكمالا
للحكاية يمضي الشريط بنا الى القرية «الغامضة» لنكتشف ألاعيب رهيبة، كانت
تدبرها امرأة سيطرت على عقول سكانها. كان الخوف يدفعها الى الابتعاد عن
هيمنة الكنيسة لكن نتائج أعمالها لم تأت بأقل مما كان يأتي من الرهبان
والقساوسة أنفسهم. لقد لوثت حيلها براءة الراهب الصغير، عندما أوحت اليه
بأنها أعادت الحياة الى صديقته بعد موتها، فما كان منه الا القيام بقتلها
ليعيد روحها البريئة الى السماء. لقد غيرت هذه اللعبة القذرة مسار حياة
الراهب تماما، وحولته من شاب مؤمن بالحب والحياة الى واحد من أشد فرسان
الكنيسة تطرفا وقسوة، وحول الانتقام قلبه الى حجر. هذه الانتقالات الغامضة
قدمها الشريط بطريقة بارعة، فيها مهارة اللعب على المفاجأة ورسم شخصيات
ديناميكية. وعلى مستوى الصورة قدم الفيلم مشاهد رائعة نقلت رعب الناس في
زمن الوباء وقسوة الحياة ودمويتها. حكايته مثلت قراءة نقدية واعية لمرحلة
مظلمة من تاريخ أوروبا، كان الجهل والتطرف الديني من أبرز عناوينها.
«المرتزقة»: حشد من دون طائل
معظم الأخبار التي نشرت قبل عرض فيلم «المرتزقة» شددت على تفصيل يتعلق
بإناطة الممثل سيلفستر ستالون مهمة نقله الى السينما الى جانب لعب دور
البطولة، ما أوحى للمتلقي بأن ثمة نقلة جديدة في عمل الممثل المشهور بأدائه
دور المغامر والبطل السوبرماني، من دون التنويه بخبرته وتجاربه السابقة في
حقل الاخراج السينمائي. فستالون أخرج أول عمل له في العام 1978 وكان بعنوان
«جنة آلي»، وبعد الجزء الأول من «روكي» الذي اخرجه جون أفيدلسن في العام
1976 أتم هو اخراج الأجزاء اللاحقة. ومع رامبو حدث الشيء نفسه. فقد تولى
ادارة جزئه الأخير في العام 2008 بعد تجربة طويلة كممثل في الأجزاء التي
سبقته. والحقيقة ان رامبو الأخير تميز بدرجة من الحفاظ على مستوى جيد لهذه
النوعية من الأفلام، أي ان ستالون ظل مخلصا لقواعدها وشروطها.
في فيلم «المرتزقة» حاول ستالون الحفاظ على روحية ومستوى رامبو الأخير،
ولهذا حشد له ممثلين كثراً عرفوا بأدائهم أفلام المغامرة والاثارة خلال
الثمانينيات، التي كثر فيها انتاج مثل هذه الافلام، من بينهم: دولف لندغرين،
ميكي روكي، داني تريو، جيت لي. حشد كبير اضطر بسببه ستالون الى اظهار بعضهم
لدقائق قليلة على الشاشة، كما الحال مع بروس ويليس وآرنولد شوارزنيغر مما
أثار تساؤلا عن سبب مشاركتهم في العمل ما دام ليس هناك ما يبرر وجودهم.
ربما كانت محاولة شخصية منه لاعادة الاعتبار الى شلة من زملائه أو لاعطاء
فيلمه زخما أكثر؟
في أي حال هذه الأسئلة سرعان ما ستنتهي بنهاية العرض. فالشريط مليء
بالشخصيات المفتعلة التي تحركت لنقل حكاية مجزأة بدأت بشلة من المغامرين
«الشرفاء» التي وضعت حدا للقرصنة الصومالية أولا، ثم اتجهت الى احدى دول
أميركا اللاتينية لانهاء الفساد الذي سببه حاكم محلي تعاون مع موظف أميركي
فاسد هو الآخر. ولوضع حد لسرقاتهم وسوء ادارتهم المؤسسة العسكرية سيعمل
فريق البطل بارني روس (سيلفستر ستالون) وزميلة القريب لي كريسميس (الممثل
جيسون ستاتهام) بالتعاون مع حفنة من المغامرين لوضع حد لهذا الوضع السيئ.
وكالعادة خاضوا من أجل ذلك معارك طاحنة لم تتوقف إلا للحظات. ومع أن أداء
الممثلين اعتمد كثيرا على حركاتهم الجسمانية أو معونة الممثلين المساعدين،
أي من دون اللجوء الى الحاسوب، فإن العمل برمته جاء باهتا، لكنه من دون شك
لبى طموحات عشاق أبطاله ومحبي هذا النوع من الأفلام، وهذا ما يفسر نجاحه
الجماهيري. لكنه على المستوى الفني لم يقدم الكثير، بل مثل تراجعا حتى عن «رامبو»
الأخير!
الأسبوعية العراقية في
19/09/2010
«وودي ألان».. «نيويورك» كمان وكمان
إيهاب التركي
بعض المخرجين يرتبطون بالمدن التي عاشوا فيها حتي إنه يصعب الحديث عنهم
بمعزل عن المدينة التي ينتمون إليها: هل يمكن الحديث عن «يوسف شاهين» دون
أن نذكر مدينة الإسكندرية؟ هل يمكن تناول سينما فيلليني دون استيعاب حبه
لروما التي يصفها بالأم المثالية؟ هؤلاء المخرجون ومعهم آخرون مثل: «وودي
ألان» و«مارتن سكورسيزي» كلما استغرقوا في صنع أفلامهم كلما وجد المشاهد
ملامح المدن التي عاشوا فيها وثقافتها واضحة، ولا شك أن المتابع لأعمال
«وودي ألان» سيجد أن الهوية النيويوركية واضحة في موضوعاته وأماكن التصوير،
بل طريقة الحديث والحس الفكاهي للمدينة، وهو الحس الذي ميز أعماله التي
تميل إلي الكوميديا والرومانسية، فهو علي سبيل المثال في عام 1989 قام
بالتعاون مع «فرانسيس فورد كوبولا» و«مارتن سكورسيزي» بإخراج فيلم «قصص
نيويورك»، وانقسم الفيلم إلي ثلاثة أفلام قصيرة منها فيلم «أوديب المحطم»
من تأليف وإخراج «وودي ألان». «وودي ألان» من مواليد حي برونكس بنيويورك،
وقد تعلق بالسينما حينما ذهب بصحبة أمه لأول مرة للسينما لمشاهدة فيلم «سنووايت»،
ولم توح بداياته بأنه سيصبح هذا المخرج العبقري والمبدع الشهير، كان فتيً
خجولاً منطوياً إلي حد ما، وحتي حينما ذهب عام 1953 لدراسة السينما في
جامعة نيويورك لم يكن متحمساً لحضور المحاضرات فحصل علي درجة ضعيف في نهاية
الفصل الدراسي الأول، ولم يتحمس الأساتذة لمقالاته الكوميدية، وما أن انتهي
العام الدراسي الأول حتي طردته الجامعة باعتباره طالباً فاشلاً لا مستقبل
له في مجال دراسة السينما. كان ألان يهوي كتابة النكات ويرسلها للصحف
لتنشرها باسم مستعار، وبعد فشله في دراسة السينما بدأ في نهاية الخمسينيات
يتجه لكتابة الحلقات الكوميدية والاسكتشات المسرحية في مسرح تاميمينت الذي
كان ينتج أسبوعياً مسرحيات موسيقية ومشاهد مسرحية هزلية كتبها وأخرجها
«وودي ألان»، وقد نجح بالتعاون مع «لاري جيلبرت» في كتابة المسلسل الناجح «تشيفي
شو» في عام 1958 واستمر عرض المسلسل لمدة عشرة أعوام، وفي هذه الفترة فقد
«وودي ألان» اهتمامه بالكتابة التليفزيونية، وبعد مشاهدته لنجم الاستاند آب
كوميدي «مورت سال» علي المسرح قرر أن يبدأ مسيرته كنجم استاند آب كوميدي
شهير في فترة الستينيات، وبدأ لاحقاً في كتابة سيناريوهات الأفلام
الكوميدية والقصص القصيرة وشارك في التمثيل في بعض الأفلام التي كتبها. في
عام 1977 شارك «مارشال بريكمان» كتابة فيلم «أني هول» الذي قام ببطولته
وإخراجه، رشح ألان لأوسكار أفضل ممثل، ولكنه فاز بأوسكار الإخراج
والسيناريو. لم يحضر ألان حفل تسلم جوائز الأوسكار وكشفت وسائل الإعلام أنه
كان يعزف الكلارينيت في إحدي الحانات كما تعود لعقود في كل أمسية يوم
اثنين، وقال إنه يشعر أن التنافس في مجال الفنون أمر سخيف، ومن المعروف أن
«وودي ألان» لا يحضر لتسلم أي جائزة يفوز بها أبداً وهي كثيرة
> من أفلام المخرج «وودي ألان» «Vicky Cristina
Barcelona»مدة الفيلم: 96 دقيقة. > النوع: دراما، كوميديا، رومانسي.
> بطولة: خافيير بارديم، بينلوبي كروز، سكارليت جوهانسون.
> يعرض: الساعة 15:1 بعد منتصف ليل الخميس المقبل، علي قناة
Super Movies.
الدستور المصرية في
19/09/2010
أربعون وجهاً لناصر في «أربعينيّته»!
القاهرة ـ حمدي رزق
قبل 14 عاماً، عُرض في صالات السينما شريط «ناصر 56»، الذي جسد فيه
الممثل الراحل أحمد زكي شخصية الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، عرض
الشريط في وقت عانت فيه السينما كساداً مشهوداً، غير أن الشريط حقق نجاحاً
جماهيرياً وربحياً عريضاً ومدهشاً!
وقبل ثلاثة أعوام تجددت الذكرى بمسلسل يحمل اسم ناصر، فلاقى جدلاً
كبيراً واهتماماً واضحاً بين تأييد ومعارضة لجودته الفنية، لكنه في كل
الأحوال احتل الصدارة الى جوار مسلسل أسمهان..!
ولا يزال الكتاب في مصر والعالم العربي ينسجون الحكايات، ويصنفون
المؤلفات، ويسودون السطور والصفحات، عن تاريخ الرجل الذي تحل خلال أيام (28
أيلول سبتمبر الجاري) ذكرى رحيله الأربعينية..
ولا يزال بغموضه وصخبه له حضور، وإن كان هذا الحضور يشهد اختلافات حادة،
بين من يرفعونه الى عنان السماء ومرتبة القديسين، ومن يرمونه بكل الاتهامات
حول حاضر العالم العربي والهزيمة التاريخية والتدهور الاقتصادي وقتل
الحريات..!
وجوه عبد الناصر كثيرة إذا تأملها المتأمل، بين سياسي، واجتماعي
اقتصادي، وثقافي، وشخصي.. والرجل شغل المثقفين المصريين ولا يزال حتى
اليوم، بين مؤيد ومعارض، ولكن بقيت منه بعد 40 عاماً سيرة متجددة. ومن حسن
حظ هذه السيرة، أن الرئيس حسني مبارك وضعها مع سيرتي الرئيسين الراحلين
محمد نجيب وأنور السادات موضع حماية من أن تلوكها الألسنة بسوء، وكرمها
وفتح الباب أمام تجسيدها فنياً والنشر الإيجابي عنها، وقبل مبارك كانت
«البضاعة« المضمونة في سوق الكتب التي ترضي الدولة وتوجهاتها! شتم عبد
الناصر وإلغاء تاريخه، حلوه ومره.. ومع تولي الرئيس مبارك (1981) قطع
الرئيس الحبل على (مرتزقة التاريخ) المتجرين في سير الزعماء، فاعتدلت
الرؤية، وصار ممكناً أن نتأمل هؤلاء كبشر يصيبون ويخطئون، ما لم يقفل باب
الجدل حول ناصر أو نجيب أو السادات، لكنه (عقلن) هذا الجدل وضمن له حداً
أدنى من الاحترام..!
المشروع الكبير
العارفون بعبد الناصر والذين عايشوه وتعاطوا معه وجهاً لوجه، أجمعوا
على أن الرجل لم يكن في بداية الثورة يملك مشروعاً سياسياً بعينه، اللهم
إلا أهدافاً كبيرة مجردة من أي خطط أو برامج لتحويلها واقعاً. كان متعلقاً
مثلاً بفكرة إنصاف الفقراء، وتحديد ملكية الأرض الزراعية، وفكرة تقوية
الجيش تقنياً وعسكرياً، وتصنيع البلاد، وأن يكون لمصر دور عربي.
غير أن ناصر حتى أواخر الخمسينات لم يكن في حقيقة الأمر قد بلور
مشروعاً سياسياً متكاملاً. فهو على الرغم من أنه تسلح من المعسكر الاشتراكي
في العام 1955 (فيما عرف بصفقة الأسلحة التشيكية)، إلا أنه ألقى بكل اليسار
في غياهب المعتقلات، من 1959 الى 1964. وبرغم تبنيه القومية العربية لكن
الوحدة المصرية السورية (1958 1961)، سرعان ما تحللت عراها، كونها بنيت
بقرار زعامي فوقي غير شعبي، وغير مراع للتمايز الثقافي والاعتبارات المحلية
لكل من الطرفين..! وبرغم أنه تكلم في الخمسينات عن الاشتراكية لكنه كان يشن
حرباً شعواء عليها، إذا تكلم عنها أحد بأسلوب لا يتوافق مع رؤيته التي سميت
بتسمية أدهشت الاشتراكيين كثيراً (الاشتراكية العربية)!
لكن مع حلول حقبة الستينات وتجاوز ناصر سن الأربعين (من مواليد العام
1918)، وشغله للرئاسة 6 سنوات مستقرة متراكمة (شغلها من 1954 الى 1970)،
كان الرجل نضج فكرياً وسياسياً تماماً وحدد اختياراته التي تكاملت معاً في
بوتقة بدت متجانسة، بصرف النظر عن كونها تعجب الكثيرين أم لا تعجبهم.. وظهر
وجهه كصاحب مشروع كبير في السياسة!
فهو اختار الاشتراكية اقتصادياً واجتماعياً، وحسم خياره السياسي في
فكرة «المستبد العادل» التي زينها له كثيرون من رفاقه ومن المثقفين أيضاً
(كالعقاد مثلاً!)، ودولياً وطد فكرة وآلية «عدم الانحياز»، مع ميل سياسي
وعسكري للتحالف والمعسكر الاشتراكي، واقليمياً.. حول المشروع الوحدوي الى
آلية تتصدرها مصر. صحيح أنها آلية لا تفضي الى الوحدة الاندماجية بالضرورة،
ولكنها ضمنت للعالم العربي تماسك مواقفه إزاء إسرائيل على وجه التحديد،
وفشلت نفس هذه الآلية في صيانة العلاقات العربية العربية من التصدعات
الداخلية!
ومضى هذا المشروع يؤسس في مصر روحاً جديدة، فتحولت البلاد الى التصنيع
الجاد بالفعل والذي لم يلحق به التعثر سوى بعد هزيمة 1967، وصار التعليم
مجانياً بعد أن كان ترفاً في عيون أبناء الفقراء قبل عبد الناصر، وتحول
أبناء الفلاحين والعمال إلى وزراء كبار ورؤساء وزارات أيضاً، وضاقت الفوارق
بين الطبقات الى درجة كبيرة، بعد أن كانت ثمة هوة واسعة بين الأغنياء
والفقراء في مصر. وقامت ثورة ثقافية في مصر، وصلت بالكتاب والمسرحية
والشريط السينمائي والغنائي واللوحة الفنية والمقال النقدي الى أقصى عمق في
الريف المصري، وتحولت فكرة «مصر للمصريين» التي سادت قبل ناصر الى فكرة
«مصر قلب العروبة النابض».
اكتمل لجمال عبد الناصر مشروعه إذن وتجانس، وحظي بشعبية والتفاف
جماهيري يفوق الوصف، لكن الاستبداد يصنع في النظم أمراضاً داخلية لا شفاء
منها، هي التي أفضت الى هزيمة 1967، والهزيمة بدورها أفضت الى انهيار هذا
المشروع وضياع فكرة «المشروع القومي« حتى هذه اللحظة!
صاحب القرارات
ارتبطت السيرة الناصرية أيضاً، والتي بقيت آثارها في الوجدان العربي
بعد 40 عاماً من رحيل صاحبها، بوجه» صاحب القرارات».. كان ناصر في الحقيقة
صاحب قرارات ضخمة وخطيرة وبدت للكثيرين مفاجئة، لكنها في الواقع لم تكن
كذلك على الاطلاق..!
من أهم هذه القرارات والتي بقيت لها آثارها في الحاضر المصري والعربي:
تأميم قناة السويس (1956) ومن ثم بناء السد العالي بأسوان، والوحدة المصرية
السورية (1958)، وإصدار القوانين الاشتراكية التي قضت على الملكيات الكبيرة
للأفراد (1962)، وقراره بالتنحي عن السلطة (7 و8 حزيران 1967) الى آخر
سلسلة القرارات الكبيرة التي صدرت عن عبد الناصر.
مثلاً قراره بتأميم القناة.
خصوم ناصر اتخذوا ولا يزالون من هذا القرار وسيلة للتنديد بالأسلوب
الذي كان يتخذ به القرارات.. وحاول بعضهم أن يصوره كـ»قرار انفعالي»، جاء
كرد فعل على رفض الولايات المتحدة تمويل السد العالي وسحبها عرض التمويل.
والحق أن هذا التصور ليس صحيحاً.. وإنما الصحيح أن ناصر قبل أن تفعل أميركا
ما فعلته بزمن طويل، كان كلف مجموعة من الخبراء القانونيين، على رأسهم
القانوني الكبير الراحل د.حلمي بدوي، بأن يعدوا له دراسة مكتملة الجوانب عن
إمكانية تأميم قناة السويس، وفرغ الخبراء من دراستهم وقدموها لعبد الناصر
الذي عكف بدوره على دراستها، ثم أودعها أحد أدراج مكتبه في انتظار نضج
ظرفها السياسي الدولي.. فلما فعلت إدارة أيزنهاور فعلتها، وجدها ناصر فرصة
لا تعوض لكي يضرب ضربته، وأخرج مشروع التأميم من مكمنه، وأعطى الأمر
بالتنفيذ.. فلا انفعالية إذن في اتخاذ القرار، وإنما استخدام مناسب للسلاح
المناسب في الوقت المناسب.
وبتأميم القناة، امتلكت مصر تمويلها الذاتي لبناء السد العالي، كما
نالت أرباحاً لم يكن المصريون يحلمون بها من عوائد القناة.
الجمل
كتب الصحافي المصري الكبير الراحل فتحي سلام والذي ربطته أوثق
العلاقات بضباط ثورة تموز يوليو 1952 في أول عهدهم بالحكم وفي طليعتهم جمال
عبد الناصر، كتب يقول في فصل من فصول كتابه «أنا وثوار يوليو» واصفاً ناصر
«.. فيه من (الجمل) كل شيء، فيه منه اسمه، ورسمه، وصبره.. وقوة تحمله..
وأيضاً قدرته المذهلة على الثأر!».
ويضيف أيضاً (.. وكان مستمعاً ذا صبر عجيب على الاستماع، بالإضافة إلى
قدرة جبارة على ضبط النفس تحت أقسى الظروف، وفي أصعب الأزمات!».
ولا نمضي كثيراً وراء الراحل سلام فيما كتبه عن ناصر ورفاقه، فما كتبه
كثير ومثير، كما أن ما نريده هنا هو هذا الوجه غير السياسي، الذي ولع به من
كتبوا عن عبدالناصر قبل رحيله وبعده وحتى اليوم.
هذا الوجه الخاص الذي لم تكن الجماهير تراه، كان له في الواقع تأثير كبير
على آليات الإدارة السياسية عند الزعيم الراحل، صبره هذا هو الذي مكنه من
أن يجلس في إحدى ليالي تشرين أول أكتوبر 1956، في حفل عيد ميلاد وهو يعلم
تماماً، أن طائرات العدوان الثلاثي الغاشم على مصر ستضرب البلاد في تلك
الليلة (العدوان الذي وقع بين تشرين أول وكانون أول 1956 من قبل بريطانيا
وفرنسا وإسرائيل ضد مصر للاستيلاء على قاعدة قناة السويس ومني بالفشل
الذريع).. كان ناصر وحده يعلم أن الموعد الليلة أو الغد على الأكثر فاحتاط
ما وسعه الاحتياط عسكرياً وسياسياً، ثم جلس يسم ابتسامة على وجهه ويحتفل في
بساطة، حتى سمع حضور عيد الميلاد أزيز طائرات العدو فقال لهم: ها هو
العدوان بدأ..!
ذات القدرة على ضبط النفس هي التي واجه بها معلومة أن إسرائيل ستكون
البادئة بالعدوان على مصر في حزيران يونيو 1967، ونفس القدرة التي واجه بها
الجماهير وهو يعلن لهم الهزيمة لا ريب فيها فتتحول هذه الجماهير من تمرد أو
غضب محتمل الى تأييد عاصف في تظاهرات شهيرة جداً في تاريخ مصر المعاصر يومي
9 و10 حزيران يونيو من نفس العام..!
أما القدرة على الثأر فمعروفة..!
فناصر عملياً تمكن من تصفية من رآهم خصوماً له على طول الخط، ولم يقف
في سبيله كذلك أي ممن تصور الرجل أنهم عقبة أو نتوء أو معارضون. في البداية
تخلص من الرجل الذي جاء هو به وجعله رئيساً لتنظيم الضباط الأحرار وتركه
يصبح رئيساً للجمهورية وهو اللواء محمد نجيب (أول رئيس للجمهورية المصرية
بين تموز يوليو 1953 ونيسان أبريل 1954)، والحق أن عبد الناصر هو الذي أسس
تنظيم الضباط الأحرار الذي أطاح آخر الملوك المصريين فاروق الأول (1936
1952) وصفى الملكية في مصر، وهو الذي قاد الثورة بنفسه وعلى مسؤوليته،
ولكنه أضمر نية ترؤس النظام، وحين صار نجيب رئيساُ خطط ناصر ودبر حتى انتهى
منه، وأقام إجبارياً في قصر شبه مهجور بحي المرج (ضاحية في شمال شرق
القاهرة) حتى أخرجه الرئيس مبارك من عزلته وقام بتكريمه في مطلع
الثمانينات، غير أن الرجل سرعان ما قضى نحبه.
وناصر صفى كذلك صديقه الذي تحول منافساً له في الحكم (عبد الحكيم
عامر) عقب هزيمة حزيران يونيو 1967، أو على الأقل وضعه في ظروف جعلته يقدم
على الانتحار، فنهاية حكيم لا تزال غامضة الى اليوم..!
وناصر صفى صديقه (خالد محيي الدين) سياسياً.. فبرغم أن محيي الدين كان
من أوائل من أسسوا «الضباط الأحرار« مع ناصر، غير أن يساريته وتحيزه لفكرة
الديموقراطية، جعلاه هدفاً لناصر الذي خشي من وجوده في الحكم الى جواره..!
وصفى (صلاح نصر) رئيس استخباراته الذي طالما كان الى جواره مدعماً نظامه
وسياساته مخرجاً اياه من مآزق شتى وأودعه في النهاية السجن!
والأسماء لا حصر لها، حتى أن ناصر حين أراد أن يجعل له نائباً لرئيس
الجمهورية في نهايات حياته لم يجد الى جواره من بين 12 اسماً كانوا معه في
مجلس قيادة الثورة سوى اسمين: حسين الشافعي وأنور السادات فقط!
أعتقد أن الرجل الذي كان يحمل قيماً سياسية محلية وعربية غاية في
النبل كان مشبعاً بالروح الماكيافيللية أيضاً وفي نفس الوقت، وهو تناقض ليس
جديداً في الزعامات التي ترأس دولاً وتديرها بصورة استبدادية، لا سيما في
تلك الحقبة من الخمسينات والستينات، والذين يقدسون ناصر ينفون عنه
الماكيافيللية والذين يكرهونه يبالغون في رميه بها..!
وما من شك في أن الأيام والأحداث أضافت الى شخصية عبد الناصر الشيء
الكثير.. معرفة عميقة وعريضة بالبشر الذين يحيطون به، ونوازعهم وداخليات
أنفسهم، وكذا بالسياسة وأغوارها.
خلاف أبدي
ولسوف يبقى الناس ولأجيال كثيرة قادمة مختلفين حول الصفحات التي تركها
عبد الناصر في سجل التاريخ، اختلافاً هادئاً أو هادراً.. ليكن ما يكون من
أمر هذا الاختلاف، وليكن فريق من الناس يؤيد هذه الصفحات تأييداً مطلقاً
وليكن فريق ثان يرفضها رفضاً مطلقاً، وثالث يتخذ منها موقفاً وسطاً، محكماً
العقل والمنطق.. وهذا وجه رابع من وجوهه، إنه مثير حقاً للجدل التاريخي!
وما من شك كذلك في أن عبد الناصر كانت له عبر 16 عاماً حكم فيها مصر،
وتصدر خلالها المشهد العربي، كانت له إنجازاته الكبرى، ومواقفه الرائعة
التي يصعب على أشد معارضيه وكارهيه أن يتجاهلوها أو يطعنوا فيها. غير أنه
كانت له في ذات الوقت مواقف وقرارات وأخطاء يصعب على أشد مؤيديه تقبلها بل
حتى التماس المعاذير عنها!
إن خطأ الذي يحاولون تجريد عبد الناصر من كل موقف عظيم أو إنجاز كبير،
يتساوى تماماً مع خطأ أولئك الذين يحاولون تبرئته من كل خطأ.. وكأنه في
حسبان هؤلاء وأولئك لم يكن بشراً من البشر، وبالتالي فإنه كان في نظر فريق
منهم رجلاً لا يخطئ وفي نظر الفريق المضاد رجل لا يمكن أن يصيب..!
هذه القطبية الشديدة في النظر الى تاريخ عبد الناصر وتأمل وجوهه
الكثيرة في أربعينية رحيله، تشي بالأهم من هذه التأملات مع وافر احترامنا
لذكرى الرجل بالطبع والأهم هو وجود هذه الفرق المتحاربة على تقييم زعماء
مصر ومراحلها التاريخية.
إن تناول التاريخ بطريقة «الجميل والقبيح« و»الطيب والشرير»، إنما
يحوله الى حكايات للتسلية، أشبه بحكايات جداتنا في الماضي السعيد، والتاريخ
لا يؤتى هكذا.. إنما التاريخ سجلات مفتوحة للتداول العقلاني وتبادل الرأي
والنقد، وفي حالة الزعماء الذين رحلوا.. على وجه التحديد، ينبغي لمن يتصدى
بالرأي أن يضع الرجال في مراحلهم التاريخية بدقة، من دون أن يحملهم أوزاراً
ليست من أوزارهم أو أعباء لم يكن في قدرة بشر أن يضطلعوا بها.
أربعينية عبد الناصر فرصة سانحة لتأمل مسائل شتى في تاريخ مصر والعالم
العربي، في مقدمتها: لماذا نكتب التاريخ بخناجر ورصاصات لا بأقلام تستمد
أحبارها من العقل وتحتكم الى العقلانية..؟ هذه علة عربية قديمة متجددة
بالغة الخطورة!
المستقبل اللبنانية في
19/09/2010 |