قد
يكون الأمر في الدراسات السينمائية العربية جديداً، أو لافتاً بدهشة، لكنه
في الحياة الثقافية في العالم، بات طبيعياً. بات طبيعياً أن ينكب فلاسفة
وعلماء
اجتماع، على دراسة المجتمعات من خلال دراسة فن السينما
وأفلامها وعمل مخرجيها...
حتى وإن كانت هذه الممارسة قديمة قدم ظهور الفن السينمائي نفسه قبل أكثر من
قرن (أعمال كانودو وآرتهايم وكراكاور).
هذه الممارسة تنتشر في الجامعات العالمية حالياً
هذا، كما في مواقع الكترونية
متخصصة، منها واحد اسمه «فلسفة السينما»... تنشر فيه دراسة مهمة ومعمقة
لأساتذة
جامعيين يرون هذه الأفلام مادة خصبة للدراسات الجمالية والفلسفية
والاجتماعية
والسيكولوجية... وثمة اليوم مفكرون كبار في العالم، من أمثال
أمبرتو إيكو وسلافوج
زيزيك (جيجيك بالأحرى) وآلان باديو وستانلي كافيل، جعلوا التعمق في دراسة
السينما
ونتاجاتها جزءاً أساسياً من دراستهم، على خطى جيل دولوز، الذي انطلق من
كتابات
لبرغسون، ليقدم ما يعتبر أفضل منظومة فكرية عن السينما، شكلاً
ومضموناً. ومن هنا
كان جريئاً، انما حان أوانه، ما فعله الناقد المصري والباحث هاشم النحاس،
حيث
استضاف في ندوة أقيمت أخيراً في القاهرة حول «ثورة يوليو والسينما»، عدداً
من مفكري
الفلسفة ليشاركوا نقاد السينما ومؤرخيها بحوثهم. وكان من بين هؤلاء
المفكرين د. حسن
حنفي، الذي قدم دراسة ثرية عن سينما توفيق صالح تحت عنوان أثار
سجالاً هو «السينما
الفلسفية»، وأحمد عبدالحليم عطية الذي قدم مساهمة في دراسة سينما صلاح أبو
سيف.
والدكتور صلاح قنصوه، الذي عبّر عن رؤى مميزة من خلال تعقيبه على بعض
الندوات.
وهنا، وربما على سبيل الاحتفال بهذا
«التزاوج» اللافت بين فن السينما والتأمل
الفلسفي الفكري التاريخي، تعرض بعض ما جاء في مداخلة حنفي على
أن نعود في الأسبوع
المقبل الى دراسة عطية عن صلاح أبو سيف، وتعقيب قنصوه عليها.
ليس غريباً أن يتناول مفكر منشغل بالفلسفة موضوع
السينما وهو تخصص آخر. والحقيقة
أن لا غرابة، لأن الفلسفة هي أولاً أم العلوم. هي العلم الشامل الذي يحلل
كل شيء
بروح فلسفية أو بمنهج فلسفي أو برؤية فلسفية كما فعل أرسطو. ثانياً ان الفن
فرع من
فروع الفلسفة وهو علم الجمال الذي يتناول موضوع الجمال بأشكاله
ومضامينه. والسينما
فن من الفنون، تعرّض لها بعض الفلاسفة المعاصرين مثل برغسون في دراسة الصلة
بين
الصورة والحركة والذاكرة والإدراك الحسي. كما درسها دريدا كنقطة تطبيقية في
علم
السيميولوجيا الذي يدرس العلامات بالإضافة الى الحركة. ثالثاً
الفن نوعان: الأول
تعبير عن حس مباشر كما هو الحال في معظم الأفلام والمسرحيات هذه الأيام
التي تقوم
على الإضحاك بالحركات والقفشات والغمزات والإيحاءات. والثاني الفن الذي
يعبر عن
فكرة والذي يخاطب العقل بالإضافة الى الحس والوجدان. وهو ما
جعله هيغل أرقى أنواع
الفنون مثل الميلودراما، اجتماع الموسيقى والشعر والغناء كما تجلى في فن
الأوبرا.
وهي مدرسة في السينما ينتمي اليها يوسف
شاهين وصلاح أبو سيف، وفي ايطاليا فيلليني
وانطونيوني وغيرهم من المخرجين الغربيين(...).
لهذا، فإن هذه التأملات ليست بحثاً في النقد
السينمائي. فالنقد السينمائي له
قواعده وأصوله ومرانه وأهله. هي مجرد مساهمة في الاقتراب من أعمال أحد
مخرجي
الستينات. وهو الجيل الذي ينتسب اليه، وكلانا يشارك فيه. هو اعتراف بفضل
هذا الجيل
الذي كاد أن يطويه النسيان. وهو الجيل الذي بنى مصر، وأقام نهضتها، وأعاد
صوغ
مشروعها الوطني القومي التحرري منذ محمد علي حتى عبدالناصر،
استئنافاً لأحمس وصلاح
الدين.
ولم أشأ أخذ تحليلي من المنقول، أي من المصادر
والمراجع، بل من التجربة المعيشة
بعد رؤية أفلامه مرات عدة. ففي اعتباري ظاهراتياً أحلل تجاربي الشعورية بعد
رؤية
الأفلام بصرف النظر عما قاله النقاد. فالاتصال المباشر خير من الواسطة.
والعودة الى
الأشياء ذاتها أفضل من صياغاتها بأقلام الآخرين باستثناء سيرته
الذاتية ورسائله.
سيرته الذاتية تتحدث عن موضوعات أفلامه أكثر من رسائله التي غلبت عليها
الأخبار
والعلاقات الشخصية والصراعات بين المنشغلين بصناعة السينما.
ويمكن تناول أفلام المخرجين بطريقتين. الأولى
عرضها، واحداً تلو الآخر طبقاً
لترتيبها الزماني لمعرفة تطوره الفني. وهو أسهل في العرض ولكنها تغفل
العناصر
الثابتة في كل الأفلام، والرؤية الموحدة لها. وهو ما تقوم به دوائر
المعارف،
وقواميس الأعلام، ونشرات المهرجانات السينمائية المحلية
والإقليمية والدولية.
والثانية عرض العناصر الثابتة فيها سواء من الناحية الفنية أو من الناحية
الفكرية،
أي الشكل الفني والمضمون الفكري. فالمخرج له رؤية واحدة سواء في الأسلوب
الفني أو
في الرسالة التي يريد ابلاغها. وكذلك المفكر له منظور واحد
سواء في الفكر أو في
الوطن، في الشكل، أسلوب التعبير أو في المضمون، هموم الوطن.
وعلى رغم أهمية الحوار الذي أجراه أحمد يوسف في
«توفيق صالح، البذور والحصاد»،
إلا أنه يتتبع الأفلام السبعة واحداً تلو الآخر، أي الطريقة
الأولى، أي بلفظ
البنيويين التوالي الزماني Diachronique.
في حين ان الطريقة الثانية أفضل لمعرفة
الأفكار الفلسفية عبر الأفلام، مما يتطلب المعية الزمانية
Synchronique.
فيلم الستينات
ويمكن تسمية مجموعة أفلامه الستة فيلم الستينات
الذي عاصر ذروة الثورة المصرية
قبل هزيمة 1967 وبعدها بقليل: «درب المهابيل» (1955)، «صراع الأبطال» (1962)، «المتمردون»
(1968)، «سيد البلطي» (1969)، «يوميات نائب في الأرياف» (1969)، «المخدوعون»
(1972). ويتركز النصف تقريباً حول عام 1969 بين الهزيمة في 1967 وحرب
الاستنزاف 1968 - 1969. هو فيلم القضية. فكل فيلم يقوم على قضية أو الفيلم
الاجتماعي. القدر لا يكون سبباً في التغير الاجتماعي بل العمل
المنتج «درب
المهابيل»، البطولة والوعي الفردي، والعلم وخدمة الناس، ورفض الغش والدجل
والاستغلال والاستعمار «صراع الأبطال»، الزعامة الشعبية «المتمردون»،
الخلاص وعودة
المخلص «سيد البلطي»، الإتجار بالقضية الوطنية «المخدوعون».
كلها في العهد الناصري
قبل أن تنقلب الثورة على نفسها وتصبح ثورة مضادة منذ السبعينات حتى الآن.
تمثل
الفيلم الهادف المواكب للثورة المصرية والمؤرخ لقضاياها: العدالة
الاجتماعية،
الصراع الاجتماعي، الفقر، التنمية، التحرر الوطني، فلسطين،
الزعامة، قوى الشعب
العامل. الفيلم في صعود الثورة المصرية 1952 - 1970 قبل سقوطها منذ التفريط
في
نتائج انتصار أكتوبر 1973 سياسياً وحتى الآن. لذلك يعتبر المخرج ممثلاً
لهذه الفترة 1952 - 1971(...).
كانت السينما لديه جهاداً طيلة حياته، من البداية
حتى النهاية. بدأت بالطرد من
البلاتوه مرات عدة لتعديله على المخرج. كما طرد من ترجمة بعض السيناريوات
الأجنبية
لخلاف بين مخرجين، ومرة ثالثة لأن إجابته عن سؤال إحدى البطلات أوحت بأنه
من عائلة.
كان التعلم من الحياة «المنطلقة بلا حدود» أفضل من التعلم من قاعات الدرس
النظرية.
بل انه في فرنسا أيضاً سُخر منه بأنه أفضل
له أن يصبح دليلاً سينمائياً للممثلين
الفرنسيين في مصر وليس مخرجاً.
وعلى رغم من البيئة المعادية لكل مبدع ناشئ من
زملائه في المهنة هناك
الاستثناءات. وتأثر بأفلام عبدالوهاب «يحيا الحب» و «ممنوع الحب» و «الوردة
البيضاء» وأهمية الأغنية المصورة في الأفلام. وشاهد مسرحيات جورج أبيض في
عطيل
بأدائه المرهف، ويوسف وهبي في دور ياجو في أدائه «الجروتسك»، ونجيب
الريحاني في
مسرحه الهادف مثل «حسن ومرقص وكوهين»، و «لعبة
الست». فقد عانى المخرج حسد الزملاء
في المهنة والكذب على المسؤولين، وعدم اسناد أي فيلم له. فبين الفيلم الأول
«درب
المهابيل» 1955، والثاني «صراع الأبطال» 1962 سبع سنوات. والحجة فشل الفيلم
الأول
جماهيرياً باستثناء تقديره لدى بعض المثقفين. وكانت تنسب الى
آخرين بعض أفكاره
السينمائية مثل «القضية الكبرى» الذي نسب الى أصل فرنسي مع أن كل شخصية فيه
عرفها
المخرج في حياته الخاصة. كان يُطرد من التدريس في المعهد العالي للسينما
طبقاً
لأهواء العمداء أو لوشايات الحاسدين. وما حدث له في مصر في
انتاج أفلامه الخمسة
الأوائل حدث له في سورية في اخراج «المخدوعون» ثم في العراق في اخراج
«الأيام
الطويلة»(...).
أفكار فلسفية
والمخرج أديب، يختار القصة من الأدب الروائي: نجيب
محفوظ، غسان كنفاني، توفيق
الحكيم، صلاح حافظ، عز الدين ذو الفقار. يكتب السيناريو، ويشارك في كتابة
الحوار.
فالفيلم عمل أدبي. ويكتب السيناريو حتى
يطمئن الى ترجمة القصة الى عمل سينمائي.
ويكتب الحوار أو يشارك فيه حتى يطمئن الى أن المواقف تعكس مغزى الرواية.
فلا فرق
بين السينما والأدب. كلاهما يحمل فكرة.
والسؤال هو: هل الأفكار الفلسفية التي عبرت عنها
الأفلام الستة تنسب الى صاحب
القصة أو الرواية أم الى المخرج؟ تنسب الى صاحب الفكرة أم الى صاحب
التصوير؟
والحقيقة أنها تنسب اليهما معاً. فالمخرج لا ينتقي من الأدب إلا ما يتوحد
معه،
بخاصة أنه يشارك في كتابة السيناريو والحوار. المخرج هو الذي
يحول الأدب الى موقف،
والنص البلاغي الى موقف درامي. والعلاقة بين الأدب والسينما قديمة ومعروفة
بين كبار
الأدباء، شكسبير في هاملت وماكبث وروميو وجولييت، وفيكتور هوغو في «البؤساء»،
وتولستوي في «الحرب والسلام»، و «البعث»، و «الإخوة كرامازوف»، و «الجريمة
والعقاب»، وكبار المخرجين السينمائيين مثل أيزنشتين وسيسيل دي
ميل. فالأدب فن
سينمائي. والسينما فن أدبي. يقوم كلاهما على فن القص والحكاية، والبداية
والنهاية،
والدراما والصراع، والحوار والبلاغة، والصورة الذهنية والصورة المرئية.
وهناك
المخرج الأديب، والأديب المخرج(...).
السينما كفنّ
ولدى المخرج قدرة على تحريك المجموعات، في الحارة
في «درب المهابيل»، والمصحة
وجمهور المرضى في «صراع الأبطال» و «المتمردون»، ومجموع الفلاحين في الانتخابات في
«يوميات
نائب في الأرياف»، والصيادون في «سيد البلطي». فالجماعة قوة. ويكون الفيلم
أقل إثارة وأكثر تجريداً إذا قل فيه تحريك المجموعات مثل «المخدوعون». وهي
مسؤولية
كبيرة على المخرج. في «صراع الأبطال» هناك مجاميع كثيرة مئة
فلاح ومئة جندي وبعض
الحيوانات.
وعلى رغم وجود تعادل في الفيلم الفلسفي بين الحوار
والفعل Action، إلا أن الحوار
أحياناً يسود كما هو الحال في «المخدوعون» و «يوميات
نائب في الأرياف». قد يكون
الإيقاع بطيئاً في هذين الفيلمين ولكن الرواية هي السبب وليس الفيلم. ومع
ذلك كان
يمكن السيناريو أن يزيد الإيقاع. وهو عكس ما يحدث حالياً في أفلام الفعل
(الأكشن)
العربية مثل «أولاد العم» أو الأجنبية مثل «أفاتار». وعلى رغم بساطة الحوار
وسهولة
فهم اللغة، إلا أن بداية «المخدوعون» صعبة الفهم لغوياً، ربما بسبب اللهجة
الفلسطينية التي أصر الممثلون على التحدث بها وليست اللهجة
الشامية.
و «الصورة» موضوع رئيس من جماليات السينما. ويتجلى ذلك بوضوح في «سيد
البلطي»
بخاصة صورة السيد البلطي في خيال زوجته وهي تنظر الى البحر. وهي تشبه صورة
«أوليس»
في الأساطير اليونانية. وهو من ذكرياته القديمة في الاسكندرية. وهو الفيلم
الوحيد
الذي درس تقنياته الجمالية قبل التصوير. وقد استعمل بعض تقنيات الفيلم
الصامت
للتعبير عن زمنين مختلفين في لقطة واحدة بطريقتين.
والأفلام كلها أبيض وأسود على رغم وجود امكانية
الأفلام بالألوان. فما زال الضوء
والظل خير معبرين عن الصورة، ويستطيعان بدرجاتهما أن يعطيا كل الألوان التي
تغطي
أحياناً ضعف الصورة. ويتضح ذلك في «سيد البلطي» وهو في خيال زوجته أو في
جمال وجه
«ريم»
في «يوميات نائب في الأرياف». وكان قد تعلم في محاولاته الأولى للإخراج في
الفرق الجامعية تغيير الإضاءة بالأساليب البسيطة على المسرح ولكنها كانت
مؤثرة
وفعالة. وهو قادر على استعمال الأبيض والأسود للتغلب على عدم
استعمال الماكياج حتى
تظهر تعبيرات الممثل الطبيعية على وجهه. وكان يستعمل تقنيات الألوان
للتعبير بها من
الأبيض والأسود كما حدث في «سيد البلطي». وفي فيلم «صراع الأبطال» كانت
هناك مشاكل
إضاءة وهي مواكبة الضوء لسرعة الحركة تم التغلب عليها أيضاً
بتقنيات الأبيض
والأسود. واستخدم في «السيد البلطي» بعض التقنيات التي تجعل السماء داكنة
أكثر
والسحب أكثر بياضاً. وفي «المخدوعون» حاول التعويض عن فكرة النغمات اللونية
باختلاف
درجة السطوع والتناقض بين مشاهد الحاضر والماضي.
والموسيقى التصويرية ليست لمجرد ملء الفراغ الصوتي
وسداد خانة، بل هي من وضع
كبار الموسيقيين مثل فؤاد الظاهري، شعبية عندما يكون المنظر شعبياً، حارة
أو مقهى
أو قرية، وتصويرية عندما يكون المنظر خيالياً مثل «سيد البلطي» في خيال
امرأته بعد
أن اختفى أو جثث الفلسطينيين الثلاثة في مقلب النفايات بعد أن
توفوا داخل الفنطاس
من الحرارة والعطش في «المخدوعون». وقد ارتبطت أسماء بعض كبار الموسيقيين
بالسينما.
كما أدخل الأغنية في «سيد البلطي».
المضمون الاجتماعي
ويصور المخرج الحياة الشعبية، حياة الناس، حياة
الفقراء والمهمشين والمساكين
والمستضعفين. فهم أهل الحارة في «درب المهابيل». وهم «المخدوعون» من شعب
فلسطين.
ويتم التصوير كله في الحياة الشعبية بعيداً
من حياة القصور والأمراء والإقطاعيين،
الحارة «درب المهابيل»، المصحة «المتمردون»، القرية «يوميات
نائب في الأرياف»، أرض
الصحراء بعيداً من المدينة «المتمردون»، والمقهى في «سيد البلطي»، كما تحدث
وقائع
الفيلم عند أصحاب المهن الشعبية، الصيادين في «سيد البلطي» القهوجية
والعجلاتية في
«درب
المهابيل»، الفلاحين في «يوميات نائب في الأرياف»، العمال المهاجرين
الباحثين
عن الرزق في «المخدوعون». تعلم المخرج النجارة وهو صبي صغير. كانت الأفلام
ذات
المضمون الاجتماعي هي التي تثيره وليست
الأفلام الاستعراضية. كانت هناك مدرستان
للسينما في مصر. الأولى في القاهرة موجهة الى الطبقات العليا تتسم
بالرومانسية
والميلودرما. والثانية في الاسكندرية موجهة الى الطبقات الدنيا والكوميديا
الشعبية.
وكان الاعتراض على فيلم «العزيمة» لأنه يدور في حارة. كتبت السيناريو له
كاتبة
ألمانية.
والفقر موضوع غالب على معظم الأفلام. فقر الحارة
في «درب المهابيل»، وهو مانع من
الزواج والحياة السعيدة الهنية. وهو حق الإنسان في الحياة. والزبالة هي
طعام
الفقراء، مخلفات الجيش الانكليزي في «صراع الأبطال». والفقراء ممنوعون حتى
من شرب
الماء وعنابر المصحة بلا مياه. يمصون الزلط ليروون عطشهم. وتحت
الضرورة يضطرون الى
كسر خزان المياه التي تروي الأغنياء مما يؤذن بالثورة عليهم في
«المتمردون». وفي
حوار في «يوميات نائب في الأرياف»، هل من يسرق، سارق أم جائع؟ سارق في نظر
القانون
وجائع في نظر المجتمع. والأغنية في «سيد البلطي» «يا أبو
الغلابة يا ليل». فالله ما
يتمناه الإنسان وما يحتاجه. وعلى رغم اصابة الصياد بالربو، إلا أنه لا يريد
ان يكون
عالة على أحد. وينزل في القارب الى البحر ليصطاد فيصاب بالإغماء.
وتتداخل الأفكار. ففي «درب المهابيل» يتداخل الفقر
مع الدين مع التقدم. وكان
الاسم في البداية «وعلى الأرض السماء» كان يريد أن يبقي الصراع مفتوحاً.
وكان اسم «درب المهابيل» من اقتراح نجيب محفوظ، اسم
الحارة التي تقع فيها الأحداث. وتغير
المهندس الى صبي عجلاتي. وحذف علاقة الرجل العجوز بفتاة الليل
التي أصبحت عشيقة
لابن العجلاتي. وجعل الدرويش فتوة سابقاً، وقصر الحوار الطويل. ونسبت القصة
الى
نجيب محفوظ.
والعطش مع الجوع، حرمان من حقين طبيعيين في
الحياة: الطعام والماء. فالعطش هو
الموضوع الرئيس في «المتمردون». فالماء حق طبيعي للإنسان بصرف النظر عن
وضعه
الاجتماعي والى أي طبقة ينتمي. الشمس من أعلى الصهريج تحرقه وتمر عبر
الزجاج والماء
من أسفل لتصنع انعكاسات متوهجة. والمستشفى رمز للمعتقل الذي
يوجد فيه شعب
بأكمله.
والدين تعويض عن البؤس. والخلاص البعيد تعويض عن
البؤس القريب. والدين في صورته
الشعبية هو السحر والخرافة والهبل والشعوذة والريالة والدروشة. ومنه اشتق
اسم فيلم «درب المهابيل». وقد يكون ذلك كناية عن
مجموع الشعب، وغياب الوعي. فغياب الوعي
الفردي من بؤرته وهو الدين يمتد الى غياب الوعي الجماعي وهو
الشعب. الدرويش صاحب
المعزة والبخور بيده، والهبالة على وجهه، والعبط في سلوكه. ومعزته التي
يشرب منها
هي التي أكلت ورقة اليانصيب ربما لتدر عليه لبناً. فأصحاب الحق هم الفقراء
الدراويش
ولكن على نحو أسطوري. ضاعت الثروة الفعلية التي لا يعرف الفقير كيفية
استخدامها.
ويختلط الدين بالطقوس الشعبية في «الزار» وبين الغناء والرقص والحركات
العنيفة
لتخليص الجسد من الشيطان. الزار للنساء، والذكر للرجال. وكلاهما رقص ينتهي
بالغيبوبة وما يسميه الصوفية حال الفناء. ويصاحب ذلك الغناء
والموال الشعبي. وفي
الحارة الزاوية تجاور القهوة والعجلاتي. والدين وأنس الجماعة والمهنة لا
تحمي من
الفقر. و «أم
هلال» في «صراع الأبطال» تستخدم الشعوذة والبخور في علاج المرضى
بالكوليرا. وتعادي الطبيب. ثم تستسلم أخيراً عندما يُصاب
ابنها، و «الشيخ
عصفور» في «يوميات
نائب في الأرياف» ضالع في جريمة أو يعرف الجاني بما لديه من علم الغيب.
وتنتظر زوجة «سيد البلطي» عودة زوجها. فقد آخى جنية ولم يمت بل سيعود من
عالم
الأرواح كما عاد أوليس وبذقنه وقوته وهو يمسك بالمجداف. يختلط الخيال
بالواقع،
والحلم باليقظة، والتمني بما يمكن تحقيقه. وتظهر الخرافات
الشعبية مثل شرب دم سمكة
البلطي للشفاء. ولو عطس أحد فإن الجنية هي التي تعطس. والبخور يشفي المريض.
ويستشهد
بالأمثال العامية كما يستشهد بالنصوص الدينية.
والقدر يلعب دوراً كبيراً في أفلامه. الثراء من
خلال ورقة اليانصيب الرابحة في
«درب
المهابيل». لم ينلها أحد. أعطاها «شكري» لخطيبته كي ينعما بزواج سعيد لأنه
لم
يكن لديه ما يؤهلها به. ورفض أبوها ابقاءها معها لأنها حرام. وأسقطتها من
يدها على
غير رضاها. وأخذها الدرويش، وأكلتها المعزة، من قدر الى قدر
حتى عادت الحارة الى
بؤسها القديم من دون أمل في التغيير. والرزق من القدر. وفي حاجة الى صبر في
«سيد
البلطي» ولا يجوز «التعديل على ربنا» في ما قسمه لخلقه من رزق. والزمن
دوار. يغني
الفقير، ويفقر الغني. ويتذكر لقطة من أول فيلم رآه في صغره لامرأة ترى
البخت لفتاة.
والمخرج من ناحية أبيه من عائلة إقطاعية على صلة ما بالعائلة المالكة.
يتحدث عن
السفرجي في بيته. أما هو فقد عاش فقيراً بسبب عدم وجود عمل له.
والصراع الاجتماعي موضوع دائم في معظم الأفلام.
الصراع في الحارة في «درب
المهابيل»، الصراع على ورقة اليانصيب. الكل يدعيها له، البائعة والمشتري
الأول
والمقرض النقود له والتي وُهبت لها والذي وجدها. وهو ليس فقط صراعاً طبقياً
بل هو
صراع بين الفقراء أبناء الطبقة الواحدة على الثراء. وهو ليس
فقط صراعاً جماعياً بين
الرجال والشيوخ والنساء والأطفال، بل هو أيضاً صراع فردي بين فقيرين. ويمتد
الصراع
الى ما بين الحبيبين، عن المسؤول عن ضياع السعادة المستقبلية بفقدان ورقة
اليانصيب.
وينقلب الحب الى كراهية حتى بين الأطفال. صراعهم بدلاً من لعبهم، وبين
النساء، «ردحهم» من الشبابيك بدلاً من غنائهم. ويتضح
ذلك من أسماء بعض الأفلام مثل «صراع
الأبطال».
والحداثة موضوع رئيس في «سيد البلطي». فقد انتهى
عصر الصيد بالقوارب الصغيرة
التي تقلبها الرياح، والشباك القصيرة التي لا تأتي إلا بكمية قليلة من
السمك.
ويقترح «عبد الموجود» بيع القوارب وشراء
مركب صيد كبير يعمل عليه الجميع. يصمد أمام
الريح، ويأتي برزق أكبر. الحداثة تطوير للقديم. فالبخار هو
البخور الحديث. ومع ذلك
ترتبط الحداثة بالاستغلال ورأس المال. فبدلاً من أن يعمل الصيادون، كل على
قارب
يمتلكه، ويكون خيره له، يعمل في المركب الكبير بالأجر عند صاحبه. ويبدأ
الاستغلال.
لا يأخذ العامل كل نتاج عمله ويأخذ صاحب المركب الكبير فائض القيمة.
والحداثة
مرتبطة بالأجنبي صاحب رأس المال «الخواجة» الذي يستثمر الثروة في الظاهر،
وينهبها
في الواقع. هو الذي يملك الثروة والعلم. ومن خلالهما يمتلك
السلطة. فالآخر هو صاحب
المال والخبرة. تخرج المخرج في كلية فيكتوريا في الاسكندرية التي كان يتعلم
فيها
الملوك والأمراء وأولاد الباشوات. وكان يلتقي زملاءه فيها في ما بعد في
باريس.
ويرتبط العلم بالحداثة. فمن الأفكار الأولى في
«درب المهابيل» يظهر العلم، بناء
مصنع لتشغيل الفقراء، أفضل من صرف مبلغ ورقة اليانصيب في إطعامهم مرة
واحدة، طبقاً
للمثل الصيني القديم «لا تعطني سمكة بل علمني كيفية الصيد»، يظهر العلم
أكثر في
«صراع
الأبطال»، بين الطب والخرافة، بين شكري وأم هلال. وقد حرص المخرج على إبقاء
المشاهد التي تؤكد هذه القيمة مهما قبل بعض التنازلات في اعادة كتابة
السيناريو مع
آخرين(...).
...
والواقعية الاشتراكية
يمكن القول ان المخرج توفيق صالح ينتسب الى مدرسة
الواقعية الاشتراكية في الفن
على رغم أنه لا يحب الالتصاق بالمذاهب السياسية أو الفنية. فالموضوعات
الغالبة على
أفلامه: الحياة الشعبية، الفقر، الدين الشعبي، القضاء والقدر، الصراع
الاجتماعي،
الثورة أو التمرد، الزعامة أو البطولة، الظلم والعدل، السلطة
أو الحكومة... كلها
موضوعات تدخل في حياة الناس اليومية. الذبابة على كوب طفل يشرب اللبن لا
تحتاج الى
طردها. كان يفضل في «صراع الأبطال» التصوير خارج الاستوديو في الواقع
الاجتماعي من
دون بنائه اصطناعياً داخل الأستوديو. لم يكن هدف القطاع العام الربح بل
خدمة
الصناعة. ومع ذلك كان يمكن أن يربح لو تمّ حسن ادارته وتسويق
انتاجه في دور العرض.
تعامل القائمون عليه بروح الموظفين وليس بروح الفنانين. وقد أنتجت معظم
الأفلام في
القطاع العام، المؤسسة العامة المصرية للسينما مثل «المتمردون»، «سيد
البلطي»،
«يوميات
نائب في الأرياف»، أو المؤسسة العامة للسينما في سورية مثل «المخدوعون»، أو
المؤسسة العامة للسينما والمسرح في العراق مثل «الأيام الطويلة»، وليس
القطاع الخاص
اعتزازاً بدور الدولة في تدعيم السينما الجادة بهدف التوعية
الوطنية وليس الكسب
السريع. فالفن مثل المشاريع الصناعية الكبرى تقوم به الدولة.
وكانت الثورة قد أنشأت مؤسسة النيل للسينما. وكان
بعض السينمائيين يلحّون على
عبدالناصر لتأميم صناعة السينما. فأنشأ مؤسسة السينما عام 1962. واتهمها
البعض
بأنها السبب في تخريب السينما المصرية. مهمة المؤسسة الجديدة انتاج أفلام
من هذا
النوع تستحق التقدير وليس المنع. وإذا أنتجت أربعة أفلام من
هذا النوع، فإن الرئيس
عبدالناصر مستعد لمضاعفة موازنتها. لذلك تعتبر أعمال المخرج داخلة في موضوع
الندوة «السينما المصرية، الثورة والقطاع العام».
والمشاهد هو جزء من الفيلم الذي هو عمل
مشترك بين كاتب القصة والسيناريو والمخرج والممثل والمشاهد.
الغاية من الفيلم أن
ينقل تجربته الى المشاهد.
*
النص هو الجزء الأول من محاضرة حنفي، وأرقام الهوامش ألغيت.
الحياة اللندنية في
16/07/2010 |