عندما قامت ثورة 23 يوليو عام 1952 بقيادة مجموعة من ضباط الجيش اطلقوا علي
تنظيمهم اسم الضباط الأحرار كمخرج لتفاقم أزمة الحكم في النظام القديم وبعد
ان سدت الطرق أمام البورجوازية القومية في مصر، وفي فترة صعود الشرائح
الجديدة من البورجوازية المتعاونة مع الاحتلال من جهة وتصاعد المد الشعبي
من جهة اخري، لم تطرح الثورة أية شعارات متبلورة علي الصعيد السياسي وانما
اكتفت بان تكيل الهجوم الي النظام الملكي الذي اطيح به في اعقاب الثورة
مباشرة، وللفساد السياسي الذي حملت الاحزاب السياسية القائمة تبعته
الرئيسية واكتفت باطلاق شعارها الاول الذي صاحبها للأعوام الثلاثة الاولي
من قيامها وهو "الاتحاد والنظام والعمل " وبدت مهمتها الاساسية في أن
تستكمل البورجوازية القومية التي وصلت في هذه الفترة الي حالة شديدة من
الضعف سيطرتها الكاملة علي السلطة والاقتصاد، وان تفتح الطريق امام تطور
العلاقات الرأسمالية في مواجهة أوضاع عالمية جديدة، ولم يكن الافق الطبقي
للثورة واضحا وانما اتخذ صيغة طرح شكل من الوفاق الطبقي وان كان التوجه
الوطني العام للثورة واضحا خلال عدد من الانجازات الوطنية المهمة مثل تأميم
قناة السويس عام 1956، وصفقة الاسلحة التشيكوسلوفاكية عام 1955، والبدء في
تنفيذ مشروع السد العالي بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي عام 1960، وقد ادي
عدم التحدد الطبقي للثورة ومحاولتها لعقد نوع من الوفاق الطبقي في سنواتها
الاولي الي محاولة حل قضايا الواقع المصري من اعلي وبصورة تجريبية في معظم
الاحيان مستبعدة الجماهير الشعبية والساسة السابقين علي حد سواء من ساحة
الصراع الذي كان محتدما احتداما شديدا في هذه الفترة، ولقد تبدي ذلك منذ
الايام الاولي التي تلت الثورة حيث قضت بياناتها بحظر التجوال ودعت
الجماهير الشعبية للمكوث في منازلهم، وخلال شهر من قيامها قامت بقمع اضراب
عمالي في كفر الدوار بشراسة شديدة ونفذت حكما بالاعدام علي القائد العمالي
شهيد الطبقة العاملة المصرية مصطفي خميس(1)، وقامت بحل الاحزاب السياسية
القائمة الوطنية وغير الوطنية علي حد سواء، وقمعت وبعنف مسيرة الشعب من اجل
الديمقراطية فيما عرف بأزمة مارس1954.
واستبدلت جميع الأحزاب بتنظيم يسمي "هيئة التحرير" عام 1954 يضم الجميع دون
مستويات تنظيمية او فهم سياسي، ويعتمد بشكل اساسي علي الاجهزة البوليسية،
وقمعت جميع الاطراف الموجودة علي الساحة بدءاً من الاخوان المسلمين وانتهاء
بالشيوعيين عام 1959، وهكذا مرت السنوات الاولي من عمر ثورة يوليو حافلة
بالقلق يشوبها حس وطني عام من قيادتها ولكنها تحاول حل قضايا الواقع المصري
بوفاق طبقي وبطراز من الحكم البونابرتي تنوب فيه عن الشعب في كل شيء دون ان
تطلق اية مبادرة للجماهير الشعبية التي هزت صرح الحكم طويلا من قبل عبر
نضالاتها المستمرة مما مهد لقيام ثورة يوليو التي بدت في اعوامها الاولي
وكأنها قد قطعت الطريق علي الحركة الشعبية في مصر عوضا عن الاستمرار بها
الي اهدافها القصوي التي كانت تطرح افقا طبقيا محددا للواقع المصري، ولقد
انعكس هذا القلق والتخبط ايضا علي السينما المصرية فلقد كان من الطبيعي
خلال التوجه الوطني العام لثورة يوليو ان ينعكس هذا التوجه ايضا علي جميع
الأبنية الفوقية للمجتمع المصري ودون تحديد لأي قوي تتوجه وعلي أي قوي
طبقية تعتمد، ولذلك فلم يخرج توجهها العام عن محاولة تثوير الكادر القديم
في جميع المجالات ومن بينها السينما وهي محاولة محكوم عليها بالفشل مسبقاً.
أول تصريح
فبعد مضي خمسة وعشرين يوماً فقط علي قيام الثورة في 18 أغسطس عام 1952 صدر
أول تصريح عن السينما من القائد العام للثورة اللواء محمد نجيب يقول فيه: "
إنها وسيلة من وسائل التربية والتثقيف، ولكن عندما نسئ استعمالها نهوي
بأنفسنا إلي الحضيض وندفع جيلاً من الشباب إلي الهاوية"(2)، وفي 11 نوفمبر
من نفس العام أصدر القائد العام بياناً نشرته مجلة الكواكب كاملاً تحت
عنوان " رسالة الفن" جاء فيه أنه" يمكن القول إن الفن عندنا كان إلي ما قبل
يوم 23 يوليو وربما حتي الآن صورة للعهد الذي قامت نهضتنا للقضاء عليه...
كانت الميوعة والخلاعة إلا في القليل النادر- هي سمات المسرح والسينما
والغناء... ولم يكن أحد من المشرفين علي هذه الوسائل ذات الخطر العظيم في
حياة الأمم يحاول أن ينحو بها نحو الفن كما يجب أن يكون بل كان الجميع- وهو
ما يؤسف له- ينحون بهذه الأسلحة الخطيرة نحو التجارة، والتجارة وحدها،
والتجارة الرخيصة في أغلب الأحوال... فما من فيلم إلا وأقحمت عليه راقصة...
وإذا كان هذا قد حدث في الماضي، وسكت عليه فلأنه كما قدمت كان صورة من
العهد الذي نعيش فيه... أما اليوم فإننا لا نستطيع أن نقبل من الفن ولا من
المشرفين عليه شيئاً من هذا الذي كان يحدث في الماضي ولاشك أن نصيب الفن
والفنانين أكبر من نصيب غيرهم... فإن التأثير في الشعب بالأغنية. وبالمشهد
السينمائي وبالمشهد التمثيلي لا يزال أقوي من التأثير فيه بأية وسيلة من
الوسائل الأخري". وتمضي الرسالة لتكمل تصورها لطريق العمل تحت أربعة
عناوين. "التعب صنعة البنائين" وفي هذه الفقرة تحدثنا الرسالة عن المادة
التي لن تعوز المؤلفين في " تاريخنا القديم منه والجديد" وعن "التعب" الذي
لن يهرب منه أحد من أهل الفن وعن التمويل وتقدم بديلاً لعجز منتج فرد عن
تمويل فيلم كبير يتمثل في " الاتحاد - أول مقطع في شعار العهد الجديد"
الاتحاد مع منتج آخر أو آخرين. والعنوان الثاني "مدرسة الشباب" يحدثنا عن
أوجه الشبه
بين دار السينما والمدرسة، والثالث " مجال الفكاهة موجود" وفي
هذه الفقرة تنبه الرسالة إلي أنها لا تقصد أن تكون الأفلام والمسرحيات "
مطارق تدمر نفوس الناس" فمجال الفكاهة موجود وتضرب مثلاً بكوميديات
الريحاني الهادفة.. وينهي العنوان الأخير من الرسالة " واجب خطير"..
"وأخيراً فإن علي الفن والفنانين واجباً خطيراً... ذلك أن يجعلوا رسالتهم
جزءاً من رسالتنا " (3).
وكما هو واضح فإن الرسالة التي تبدو لهجة التهديد واضحة فيها وإن كانت
تتضمن إدراكاً لدور السينما ولإمكانياتها في تثقيف الشعب وتوعيته، إلا أنها
لا تري في محاكمتها للسينما المصرية في الفترة السابقة سوي الجانب الأخلاقي
والإثارة الجنسية، ويدعو لاتحاد المنتجين القدامي دون أن يطرح أية مسئولية
علي الدولة نفسها وعلي النظام الجديد في دعم إنتاج أفلام مختلفة، ولعل عدم
التحدد هذا وعدم الوعي بطبيعة الإنتاج القائم جعل رسالته تبدو كما لو كانت
إبداء رأي غير جاد في الموضوع برمته، وعدم استعداد النظام الجديد للتدخل
بصورة جدية في موضوع السينما مما جعل محمد نجيب يصرح في يناير 1953 وبعد
شهرين فقط من بيانه بأنه " قد استيقظت المعاني الوطنية في نفوس الفنانين
فأدركوا واجبهم.. ووقفوا جميعاً في صفوف النهضة يساهمون في تشييد البناء
الجديد.. بناء النهضة" (4).
عفريت عم عبده
وفي هذه الفترة القلقة بعد الثورة وبينما كانت أجهزة الإعلام تبث دعايتها
الديماجوجية عن الحركة المباركة كما أسمتها وقتها في تخبط واضح لعدم وضوح
أيديولوجية محددة لثورة يوليو، بادرت السينما المصرية وبنفس الدرك من
الهبوط والابتذال بتأييد الثورة، ولعله من أكثر الأمور دلالة علي طبيعة
التحول الذي حدث. إن أول فيلم يتناول ثورة يوليو 1952، والذي كان بمثابة
قرون الاستشعار التي مدتها الاستثمارات السينمائية في مصر لتجد الطريق
أمامها آمنا
، هو فيلم بالغ الهبوط اسمه "عفريت عم عبده" من إخراج حسين فوزي في شهر
فبراير عام 1953 ، ولهذا الفيلم قصة بالغة الدلالة، فلقد بدأ تصويره قبل
ثورة يوليو ويدور موضوعه حول مقتل شخص اسمه "عم عبده" وظهور شبحه لعدد من
الأفراد، وعندما قامت الثورة أثناء تصوير الفيلم، قرر مخرجه أن يتناولها في
فيلمه، وهكذا تم تعديل قصة الفيلم بحيث يقرر الأشخاص الذين يظهر لهم الشبح
أن يصدروا جريدة بعنوان "أخبار بكرة" ويتم تحريرها بناء علي تنبؤات شبح عم
عبده بأحداث اليوم التالي، وهكذا لحق الشبح بثورة يوليو وظهر ليعلن علي
محرري الجريدة " بأن الجيش المصري سيقوم غداً 23 يوليو عام 1952 بحركة
مباركة". وهكذا قدم عفريت عم عبده الحل للسينما المصرية لتتعايش بأمان كامل
ودون أية تنازلات من جانبها مع ثورة يوليو 1952(5) وأسفرت محاولة التدخل
الثانية من قبل سلطة يوليو في شئون السينما المصرية عن احتواء السينما
التجارية المصرية لسلطة يوليو وشل فاعليتها تماماً في هذا المجال عندما عين
مجلس قيادة الثورة مندوبا له في أوائل عام 1953 اختص بشئون السينما بعد ذلك
لبضع سنوات وهو المقدم وجيه أباظة من الشئون العامة للقوات المسلحة وتتالت
الاجتماعات والندوات التي حضرها جميعاً مندوب مجلس قيادة الثورة ومعظم
سينمائيي مصر في ذلك الحين وقد استمرت هذه الاجتماعات حتي أوئل عام 1954
وأسفرت عن ثلاثة اتجاهات، الاتجاه الأول هو السينما التجارية القائمة،
سينما التسلية المطلقة وكان هو الاتجاه الغالب في هذه الاجتماعات وقد عبر
هذا الاتجاه عن نفسه بشكل ممالئ ومنافق لسلطة يوليو دون أن يتخلي عن طرح
مفاهيمه، فلقد رد المخرج أحمد بدرخان علي كلمة مندوب القيادة " نريد أن
تجعلوا من السينما عنواناً لنهضتنا الحديثة" قائلاً: "إننا نقر حضرة مندوب
القيادة العامة علي أن السينما يجب أن تنتقل إلي مرحلة جديدة لتوجيه الشعب
وتثقيفه، لكن دون إغفال لمهمة السينما الأساسية كأداة للتسلية".
أفلام حزايني
وفي اجتماع آخر علق المخرج محمد كريم قائلاً: " هل يمكن أن نخرج خمسين
فيلماً تتحدث عن الثورة وأهدافها؟ إن هذا من شأنه أن يجلب الملل إلي نفوس
المشاهدين"، وعلق المنتج والمخرج حسن رمزي قائلاً: "نحن شعب مرح.. فلابد من
وجود أفلام التسلية والترفيه وليس معني النهوض بالسينما أن تكون أفلامنا
حزايني" وفي اجتماع آخر عندما تحدث مندوب القيادة عن التطهير صرخ نفس
المنتج والمخرج في حماس قائلاً " طائفة الفنانين والمشتغلين بالسينما سوف
تطهر أفكارها من السخافات القديمة التي كان يفرضها العهد الماضي، لأنه أراد
أن تكون الفنون وسيلة تسلية وترفيه"، ولقد أكدت مناقشة هذا الاتجاه الإخفاق
المبدئي لأية محاولة لتثوير الكوادر القديمة، ولقد كانت معركة هذا الاتجاه
حاسمة في السنوات الأولي فبقدر ما سينجح الاحتواء بقدر ما ستكون الغنيمة
(6) ولقد تمت محاولات الاحتواء من جانب هذا الاتجاه بأكثر الأشكال
كاريكاتيرية فاعلنوا عن هذا الولاء الشكلي بالانضمام إلي التنظيم السياسي
الصوري "هيئة التحرير" وهو التنظيم الواحد الذي أقامته سلطة يوليو في مقابل
حل جميع الأحزاب السياسية الوطنية والديمقراطية وغيرها، وهو تنظيم لم يحدد
أي التزام أيديولوجي لأعضائه واتسع ليشمل جميع التيارات والاتجاهات يميناً
كانت أم يساراً، رجعية أم تقدمية، ويعلن انتماءه الوطني بشكل مطلق، وكان من
الطبيعي أن يتسع هذا التنظيم لهذا الاتجاه المتخلف في السينما المصرية دون
أن يفرض أية مهام من أي نوع عليه، فيقول عنه الممثل والمنتج والمخرج
السينمائي أنور وجدي في أحد الاجتماعات مع مندوب القيادة " نشأت منذ
الطفولة مكافحا وبدأت حياتي الفنية في عزم وكفاح ولم أكد أسمع بفكرة هيئة
التحرير وأهدافها حتي آمنت بأن هذه هي هيئة الكفاح"، ويقول عنها المنتج
والممثل والمطرب محمد فوزي" الفنان دائماً في طليعة المجاهدين والعاملين
لخير الوطن"، ويعلق الممثل الكوميدي إسماعيل يس بطريقته الشهيرة في أفلام
هذه الفترة قائلا: "هيئة التحرير وما أدراك ما هيئة التحرير؟!"، بل ووصل
التظاهر بالولاء لسلطة يوليو إلي أن يرتدي كل من المنتج والمخرج والممثل
أنور وجدي والمنتج والممثل والمطرب محمد فوزي والمنتج والمخرج والممثل يوسف
وهبي والمطرب والممثل فريد الأطرش الزي العسكري أثناء حضورهم اجتماعات
اللجنة كتملق لسلطة الجيش، أما التظاهر بالاستجابة من هذا الاتجاه لمطالب
مندوب القيادة فلم يتجاوز حيز أفيشات الإعلان عن الأفلام فيعلن أنور وجدي
عن فيلم "دهب" عام 1953 وهو عبارة عن مغامرات الطفلة المعجزة فيروز بعبارة
"فيلم جديد نظيف في عهد جديد نظيف" ويعلن حسين فوزي عن ميلودراما هابطة
اسمها "جنة ونار" عام 1952 بعبارة " الفيلم الاشتراكي الاستعراضي الكبير"،
ويعلن أحمد بدرخان عن فيلمه " الله معنا" عام 1955 بعبارة " تمشياً مع
العهد الجديد" (7). أما الاتجاه الثاني الذي ظهر في هذه الاجتماعات وهو
اتجاه الواقعية ومحاولة تثوير السينما بنزعة لا تخلو من المثالية فلقد كان
اتجاهاً ضعيفاً للغاية، فلم يعبر عنه سوي ثلاثة فقط من السينمائيين
المصريين وهم المخرج السينمائي صلاح أبو سيف والكاتب أنور أحمد والمنتج
والمخرج والممثل حسين صدقي. ولقد عبر صلاح أبو سيف عن وجهة نظره في هذه
الاجتماعات قائلاً " كان شعار الحركة المباركة التي قام بها جيش مصر الباسل
هو التطهير ولهذا يجب أن تكون السينما المصرية في خدمة التطهير... ينبغي أن
تعالج مشاكل الوطن الكبري وأمراضه الاجتماعية، ولهذا يجب علي المشتغلين
بالسينما سواء كانوا منتجين أو مخرجين أو مؤلفين أن يتجهوا بجهودهم الفنية
إلي هذه الناحية" (8) وعندما بدا واضحاً لصلاح أبو سيف أن اتجاه سينما
التسلية المطلقة قد تمكن من السيطرة واحتواء أفكار مندوب القيادة حاول أن
يضع سلطة يوليو أما مسئوليتها الغائبة تجاه السينما فتحدث في اجتماع آخر
قائلاً " للسينما مطالب كثيرة من الدولة وتستطيع هيئة التحرير أن تتبني هذه
المطالب وتدافع عنها عند الجهات المختصة وأهم هذه المطالب هو تغيير نظرة
الحكومة إلي السينما فمازالت الحكومة تري أن هذا الفن من وسائل الترفيه
والتسلية فقط، بينما هو فن له أهداف أكثر من الترفية والتسلية" (9)، أما
الكاتب أنور أحمد الذي كانت كل علاقته بالسينما أنه قام بتمثيل دور مصطفي
كامل في الفيلم الذي يحمل نفس العنوان وشارك في كتابة السيناريو فلقد طالب
بتعديل الرقابة وتحديد مساهمة الثورة في إقرار أوضاع جديدة للإنتاج
السينمائي بل ووصل إلي حد المطالبة بتقييد مؤلفي القصص السينمائية بموضوعات
معينة تتجه إليها كل الجهود (10)، أما المنتج والمخرج والممثل حسين صدقي
برومانسيته الثورية الشديدة ذات النزعة العاطفية الزاعقة والتي لم تجد
معادلاً لها في عمله السينمائي الذي اتسم في معظمه بالسذاجة الشديدة، فلقد
طرح خلال هذه الاجتماعات أكثر الأراء راديكالية لحل مشكلة السينما المصرية
منادياً بأنه " لابد من انقلاب في السينما كانقلاب 23 يوليو... لا بد من
سقوط رؤوس وانهيار عروش وطرد أناس من المحيط.. قد يكون هذا عقابا مؤلما
قاسيا ولكن لا بد من توقيفه، فإن الثورة لا تعرف التردد ولا الحيرة ولا
الخمول، إنها الحسم والهدي إلي العمل المنتج السريع" (11).
ولكن هذا الاتجاه نحو الواقعية ومحاولة تثوير السينما المصرية لم يجد أذانا
صاغية في هذه الاجتماعات، إذ أن الاتجاه الثالث خلال هذه الاجتماعات وهو
اتجاه القيادة الذي مثله مندوبها لم يخرج عن محاولة توفيقية عاجزة كان لا
بد وأن تنتهي باحتواء اتجاه السينما التجارية وسينما التسلية المطلقة لها
حيث لم تخرج رسالة القيادة الثورية سوي عن عبارات مثالية عاجزة فارغة من
المحتوي "نظموا أنفسكم... اتحدوا وألفوا جبهة واعملوا.. نظموا أنفسكم علي
الوجه الذي يحقق مصالحكم وستجدون من القيادة كل تشجيع وتأييد ومساعدة" (12)
كلمات عائمة
وهكذا انتهت محاولة تثوير الكوادر القديمة نهايتها الطبيعية، فإن سلطة
يوليو 1952 وبحكم عدم تحدد توجهها الأيديولوجي لم تتمكن بالتالي من أن تطرح
أية مهام أمام السينما المصرية أكثر من الكلمات العائمة التي وجهتها
لصانعيها والتي تختص بعدد من التوجهات العامة غير المحددة، وهكذا أيضا لم
يتوقف اندفاع سينما أغنياء الحرب مع قيام ثورة 1952، بل علي العكس ارتفع
متوسط عدد الأفلام من خمسين إلي ستين فيلما، وتمكنت الكوادر القديمة من
احتواء ثورة يوليو تم تثويرها ولقد عبرت محاولات الاحتواء هذه عن نفسها
بأكثر الأشكال كاريكاتورية، ولكن ما يبدو مدعاة للتأمل حقا هو أن هذه
الأشكال من التعبير لم تزعج أحدا من قادة ثورة يوليو أنفسهم في ذلك الوقت
حيث التقت مع التطلعات الطبقية لصغار الضباط الذين قاموا بها مداعبة علي
نحو ما هذه التطلعات في إطار التيمة الشعبية القديمة والمستمرة عن البطل
الشعبي الشهير في القصص الشعبي المصري "الشاطر حسن" وما كان أسهل من العودة
بالمحاولة الانفرادية لصلاح أبو سيف في تحويله إلي أسطي (أي إلي عامل) في
فيلمه " الأسطي حسن" عام 1951 لتصبح فجأة ضابطاً بأسلوب الحكاية الشعبية
القديمة المتخلف أيضاًَ، وإذا كان صلاح أبو سيف قد حاول في فيلمه الهام ذلك
أن يضع الخيال الشعبي في صياغته الانتهازية علي أرض الواقع فلقد كان من
السهل أيضاً للخيال الشعبي وبدرجة أعلي من العنف والقمع الذي مورس في
السنوات الأولي لثورة يوليو أن يتجسد في صورة ضابط أو ضباط داعبوا نفس
الجماهير الشعبية بحلم الثورة، وهكذا أصبح الشاطر ضابطاً ببزة لامعة تداعب
السينما أحلامه التي لم يجرؤ قط علي أن يبوح بها وإن كان قد باركها فور
تجسدها علي شاشة السينما من جانب، واستسلمت الجماهير الشعبية لحلمها المجهض
عن الثورة إلي هذه الصورة رغم بشاعة الأبعاد الطبقية التي صورت بها هذه
الثورة من جانب أخر، واشتعل الخيال الشعبي من جديد وبصورة أكثر واقعية هذه
المرة لأن يجد تحقق فشله في الحلم (بشاطره) الانتهازي القديم في أن يكون
مثله حيث لن يكلف الأمر أكثر من الالتحاق بالكلية الحربية الذي أصبح وارداً
هذه المرة وأكثر سهولة عما قبل في ظل الأوضاع الجديدة، وسارعت الكوادر
القديمة في تقديم "الضابط حسن" عوضاً عن "الشاطر حسن" مستبعدة بالطبع
"الأسطي حسن" عن الساحة، وهكذا أيضاً وجدت الكوادر القديمة للسينما المصرية
صيغتها الجديدة للبطل الشعبي "الشاطر حسن" بكل أساليبه الانتهازية الفردية
للوصول إلي إبنة السلطان كصورة جديدة معدلة للتسلق الطبقي خلال الضابط بطل
المرحلة الجديدة لثورة يوليو، ففي فيلم " الله معنا" من إخراج أحمد بدرخان
عام 1955 المأخوذ عن قصة للصحفي المصري إحسان عبد القدوس الذي كان واحداً
من الصحفيين المصريين المقربين إلي الثورة، يتم تقديم ثورة يوليو 1952 علي
أساس أنها ثمرة للنضال المشترك بين بعض الضباط الوطنيين وابنة الباشا
الاقطاعي المتورط في صفقة الأسلحة الفاسدة التي أودت بالجيش المصري خلال
حرب 1948 في مواجهة العصابات الصهيونية، وينتهي الفيلم بحدوث ثورة يوليو
وزواج ابنة الباشا بأحد ضباط الحركة، وفي فيلم "رد قلبي" من إخراج عز الدين
ذو الفقار عام 1957 والمأخوذ عن رواية يوسف السباعي الضابط السابق المقرب
لتنظيم الضباط الأحرار والذي تولي عدداً من المناصب المهمة من بينها منصب
وزير الثقافة في مصر ثم اغتيل في قبرص عام 1978 بسبب زيارته لإسرائيل مع
السادات، يتم تقديم الصراع علي اساس الحب الذي هو فوق الطبقات كما تقدمه
السينما المصرية دائماً بين ابنة الاقطاعي وابن الفلاح الضابط في الجيش
الذي يؤيد تنظيم الضباط الأحرار حتي تحدث الثورة فيتمكن هو الأخر من
الزواج بابنة الاقطاعي، وفي فيلم" غروب وشروق" من إخراج كمال الشيخ عام
1970 عن قصة لجمال حماد واحد من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، يتم تقديم
ثورة يوليو علي أساس أنها نتيجة للتعاون بين بعض أعضاء تنظيم الضباط
الأحرار وبين بعض أعضاء جهاز البوليس السياسي الرهيب الذي طالما قمع الحركة
الوطنية قبل عام 1952 (13).
هوامش
(1) محمد كامل القليوبي -السينما المصرية دائرة
الحصار ورحلة الخروج - مجلة الثقافة الجديدة - المغرب مايو 1980 .
(2) الفاروق عبد العزيز- السينما المصرية وثورة
يوليو السنوات الأولي والوسطي (1952-1961) مجلة الطليعة نوفمبر 1975-
القاهرة.
(3) الفاروق
عبد العزيز- السينما المصرية وثورة يوليو السنوات الأولي
والوسطي (1952-1961) مجلة الطليعة نوفمبر 1975- القاهرة.
(4) المرجع السابق.
(5) محمد كامل القليوبي- السينما المصرية والواقع-
مجلة السينما والعالم - القاهرة أكتوبر 1978.
(6) الفاروق عبد العزيز- السينما المصرية وثورة
يوليو- السنوات الأولي والوسطي (1952-1961) مجلة الطليعة نوفمبر 1975-
القاهرة.
(7) الفاروق عبد العزيز- السينما المصرية وثورة
يوليو السنوات الأولي والوسطي (1952-1961) مجلة الطليعة نوفمبر 1975-
القاهرة.
(8) المرجع السابق
(9) المرجع السابق
(10) المرجع السابق
(11) الفاروق عبد العزيز- السينما المصرية وثورة
يوليو السنوات الأولي والوسطي (1952-1961) مجلة الطليعة نوفمبر 1975-
القاهرة.
(12) المرجع السابق
(13) محمد كامل القليوبي- السينما المصرية دائرة
الحصار ورحلة الخروج- مجلة الثقافة الجديدة- المغرب مايو 1980.
جريدة القاهرة في
13/07/2010 |