سأقولها بدون تردد ورزقي علي الله: هناك جنايتان ارتكبتا ضد
الفيلم الأمريكي البديع «Invictus»
أو «الذي لا يقهر» من إخراج الممثل المخرج
الكبير «كلينت ايستوود». الجناية الأولي: عدم وصول الفيلم إلي القائمة
القصيرة
للأفلام العشرة المتنافسة علي أوسكار أفضل فيلم لعام 2010، والجناية
الثانية: عدم
فوز بطل الفيلم القدير «مورجان فريمان» بجائزة أوسكار أفضل ممثل في دور
رئيسي التي
رشح لها. ومنحها لـ«جيف بريدجز» عن دور أقل كثيراً من كل
الوجوه في فيلم «قلب
مجنون»، بل إن فيلم «انفيكتوس» لم يرشح أصلاً إلا لجائزتي أوسكار هما أحسن
ممثل في
دور رئيسي (فريمان)، وأفضل ممثل في دور مساعد (مات ديمون)! شاهدت الأفلام
التي
تنافست علي أوسكار أفضل فيلم لعام 2010 باستثناء فيلمين هما
«المقاطعة 9» و«رجل
جاد» ولذلك لا أستطيع تحديد مستويهما بالنسبة لفيلم «انفيكتوس» ولكني
استطيع أن
أقول إن الفيلم المؤثر الذي يستعيد إحدي لحظات الحكمة والمجد للزعيم
الأفريقي
العظيم «نيلسون مانديللا» أفضل بمراحل وعلي كل المستويات من
أفلام «خزانة الألم»
الذي حصل علي أوسكار أفضل فيلم، ومن «بريشيوس» ومن «عاليا في الهواء» ومن
فيلم «الجانب الأعمي»، ومن فيلم «تعليم» دون أن ينفي ذلك أنها أفلام جيدة
ومتميزة، ولكننا هنا نقوم بالمقارنة، ونستطيع أيضاً أن نضع «انفيكتوس»
كتابة
وتنفيذاً وفكرة وأداء علي قدم المساواة مع الأفلام الأكثر
ابتكاراً أو لفتاً
للاهتمام في سباق أفضل الأفلام وهي فيلم «التحريك» في الأعالي، وفيلم «آفاتار»
وفيلم «كوينتين تاراتينو» أوغاد صعاليك بل
إنه إذا كان فيلم «آفاتار يستخدم الإبهار
والصوت المرتفع للانحياز لفكرة احترام الآخر فإن فيلم «انفيكتوس»
يقدم نفس المعني
الإنساني الرائع بصورة ناعمة وذكية وبسيطة معاً.
الفيلم الذي كتب له
السيناريو «أنتوني بيكهام» مأخوذ عن كتاب لـ«جون كارلين» بعنوان «ملاعبة
العدو»..
واللعبة التي صنعت أمة» والحكاية ليست عن كفاح «نيلسون مانديللا» ضد سياسة
التمييز
العنصري وسجنه لمدة 27 عاماً متصلة، ولا عن حياته الخاصة التي تحطمت بعد
السجن،
ولكنه عن معركة وحيدة طريفة انتصر فيها هذا الزعيم الحكيم
الشجاع عندما استخدم
الرياضة لكي يبني وطنه من جديد بالحب والتسامح. القصة عن الحب في مقابل
التعصب،
احترام الآخر بدلاً من العداء معه، الذهاب إلي المستقبل بدلاً من العيش في
الماضي،
البحث عن الأفكار الملهمة بدلاً من الموت في أكفان الطرق
التقليدية، الرهان علي
الخير داخل الإنسان بدلاً من افتراض سوء النية والشر الكامن في الصدور.
كل
هذه الأفكار لا يقولها الفيلم مباشرة، ولكن من خلال دراما قوية
يصنعها رجلان،
وبمعني أدق يحركها «نيلسون مانديللا» (مورجان فريمان» في أعظم أدواره علي
الإطلاق)،
وينفذها «فرانسوا بيلار» نجم فريق الرجبي الجنوب أفريقي (مات ديمون في دور
عادي
تماماً، ولا أعتقد أنه يستحق الترشيح أصلاً للأوسكار). لقد اتفق الرجلان
علي حلم
واحد يضرب مائة عصفو بحجر: الهدف المباشر هو فوز جنوب أفريقيا
ببطولة العالم للرجبي
التي نظمت هناك عام 1995، والهدف الأبعد هو انصهار الأبيض والأسود معاً
لأول مرة -
في وطن واحد له علم جديد وسلام وطني جديد
يردده الجميع ويقول: «ليبارك الله
أفريقيا».
حقق السيناريو نجاحا مشهودًا في اتجاهين: رسم ملامح أجواء
العنصرية التي ظلت قائمة رغم الإفراج عن «مانديللا» في 11
فبراير 1990، ثم توليه
الرئاسة في عام 1994.
ففي المشهد الأول العبقري والبسيط يظهر نجوم فريق
«سبرنج
بوكس» للرجبي الذي يمثل جنوب أفريقيا وهو يتدرب علي رياضته العنيفة بعيدا
عن
مجموعة من الصبية السود الذين يلعبون الكرة، وعندما يمر الموكب الذي يحمل
«مانديلا»
بعد الإفراج عنه، يستنكر البيض الإفراج عن هذا الإرهابي في حين يصفق له
الصبية
السود.
في لقطة واحدة قال الفيلم كل شيء، ولكنه استمر في تعميق فكرته
طوال الأحداث، وحقق نجاحه الثاني بالرسم المتقن لشخصية «نيلسون
مانديللا» الحكيم
الساخر الذكي اللبق والشجاع والمتسامح الذي يتغلب علي ضعفه الجسدي بقوته
الروحية،
والتي يعلو فوق آلام انفراط عقد أسرته الصغيرة لصالح تجميع أسرته الكبيرة
التي تقدر
بـ43 مليون مواطن جنوب أفريقي.. وحده «مانديللا» العظيم سيواجه هذه المشاعر
العنصرية رغم اعتراض كبير الحراس الأسود (جاسون شابالالا)..
سيحافظ علي فريق «برنج
بوكس» الذي لا يضم سوي لاعب أسود واحد رغم هزائمهم، ورغم أنهم عنوان
للتفرقة
العنصرية، سيرفض إلغاء الفريق وسيعلن أن البيض كانوا أعداءً وأنهم اليوم
شركاء في
الوطن..
سيتحدث طوال الوقت عن المستقبل، وسيستقبل كابتن الفريق «فرانسوا
بيلار» طالبا البحث عن طريقة ملهمة تجعل من رياضته عنيفة وبشعة
وسيلة لانصهار
الأبيض والأسود معا، وسيقدم للكابتن المندهش قصيدة بعنوان «الذي لا يقهر»
من الشعر
الإنجليزي كانت تدعمه أثناء سجنه في جزيرة «روبن» طوال 27 عامًا. سينجح
العجوز
الحكيم في دمج الفريق مع الصبية السود البسطاء ساكني أكواخ
الصفيح. سيزور الفريق
الزنزانة رقم 466 التي أقام فيها «مانديللا» سيراه «فرانسوا» متجسدًا أمامه
يكتب في
هدوء أو يقطع الأحجار، وسيتساءل الشاب الأبيض: «كيف عاش الرجل سجينًا لمدة
27 عامًا
ولم يفقد أبدًا قدرته علي التسامح؟!
في أيام البطولة التي شاهدها العالم
كله، وتابع مباراتها النهائية بين جنوب أفريقيا ونيوزيلندا مليار نسمة، هنا
فقط
ستنتصر الإرادة وسيفوز التسامح، عندما تكسب جنوب أفريقيا الكأس سيحتضن
الحارس
الأبيض زميله الأسود، وسيقوم رجال البوليس البيض باللعب
كالأطفال مع طفل فقير أسود،
سيعلو العلم الجديد والنشيد الجديد، وسنسمع صوت «مانديللا» وهو يلقي أبياته
العظيمة
التي تقول: «أنا سيد قدري.. أنا قائد روحي».
مهما وصفت لك لن استطيع أن
أترجم عبقرية «مورجان فريمان» في أداء شصية «مانديللا» بكل تفاصيلها:
سكناته
حركاته، ذكائه وخفة ظله، تواضعه وحكمته، قوته الروحية وضعفه
الجسدي، فرجة كاملة
ودرس في فن التشخيص وليس التقليد، الفيلم نفسه ذكي جدًا في ربط لعبة الرجبي
التي
تنص علي أن تكون الحركة فقط للأمام وللأجناب مع شخصية «مانديللا» الذي يرفض
أن يعود
للخلف والذي يحمل وطنه للأمام، والذي يتحدث عن حسابات السياسات
بنفس الحماس الذي
يتحدث فيه عن حسابات الإنسانية. ربما لم ترسم شخصية «فرانسوا» بذكاء مماثل
إذ لم
نعرف بالضبط لماذا يبدو متسامحًا رغم أن عائلته ليست كذلك.
بدت الشخصية
مسطحة إلي حد كبير خاصة مع قوة رسم شخصية «مانديللا»، ولكن الكبير «كلينت
ايستوود»
عرف كيف يقود فيلمه إلي ذروة درامية من خلال أحداث المباراة النهائية التي
تستطيع
أن تقول إن جنوب إفريقيا فازت بالروح والإرادة والإصرار.
انطلقت الكاميرا
لتنقل خشونة صدام اللاعبين مع نظرات مانديللا الوادعة، شوارع جنوب إفريقيا
وناطحاتها في مقابل أكواخها الصفيح الايدي السوداء والأيدي
البيضاء حول الكأس.
باختصار اخرج «ايستوود» الإنسان المتواري داخل كل انسان، اطلقه بلا قيود
ولا
حسابات، وترجم ببراعة نظرية الرجل الملهِم والملهَم «مانديللا» العظيم الذي
آمن بأن
الإنسان لا يقهر إذا اعتنق التسامح والحب، وإذا اكتشف نفسه وقدراته واعترف
بالآخر،
وإذا تقدم للأمام بقوة مثل لاعبي الرجبي بدلاً من أن يعيش في الماضي وسط
الأطلال
التي لا تفيد أحدًا.
روز اليوسف اليومية في
11/07/2010
«الثلاثة يشتغلونها» حـدوتـة بـســيطة وأفــكار عمـيـقـة
محمود عبدالشكور
تعودنا منذ سنوات أن معظم الأفلام التى توصف- ظلماً وعدواناً- بالكوميدية
لا تقول أى شىء، بل إنها مجرد استعراض مجانى لمهارة البطل المضحْك فى القفز
والنطّ والجرى وأحياناً مهارته فى ضرب بعض زملائه فى المشهد على قفاهم أو
وجوههم أيهما أقرب، ولكن فيلم «الثلاثة يشتغلونها» الذى لا يبشِّر عنوانه
بأى شىء مهم يقول بالفعل كلاماً مهماً من خلال حدوتة بسيطة عن الأجيال
الجديدة التى تعلمت فى المدارس بطريقة الحفظ والتلقين، ثم أوهمناهم بأنهم
من المتفوقين، وعندما ألقى بهم فى بحر الحياة اكتشفنا أنهم عقول فارغة لم
تتعود على الاختيار، ولم تتعود على الفهم ولكن على تكرار ما سمعته وقرأته.
الفيلم الذى كتبه «يوسف معاطى» وأخرجه «على إدريس» يختار نموذجاً لفتاة
مصرية مثل آلاف الفتيات. كل ما تجيده هو أن تحفظ الكتب بما فى ذلك ما هو
مكتوب على الغلاف الأخير من رقم الإيداع ووزن الورق واسم المطبعة، بطلتنا
«نجيبة متولى الخولى» «ياسمين عبد العزيز» القاطنة فى «بين السرايات» تحلم
فقط بأن تعبر الشارع لتدخل الجامعة، وعندما تنجح بتفوق فى الثانوية التى
تعتمد على استرجاع ما هو محفوظ، يقترح عليها والدها «صلاح عبد الله» أن
تدخل كلية الآثار فتفعل دون تردد، لأن الأمر بالنسبة لها واحد: مجرد كتب
ستحفظها وتملأ بها ورقة الإجابة، ويوصيها الأب بالحصول على الشهادة العالية
التى يمكن أن تؤهلها للماجستير والدكتوراة وربما رئاسة الجامعة نفسها، أما
الأم «هالة فاخر» فهى توصيها بأن تخرج من الجامعة بعريس، وهكذا يرسم معاطى
ببراعة أحلام البنت المصرية التقليدية وطموحها فى التعليم العالى: الشهادة
والعريس!
ولكن «نجيبة» لا علاقة لها أصلاً بالحياة، ولكن علاقتها بالكتب، ولذلك
ستصبح ضحية خداع من ثلاثة شبان يمثلون اتجاهات تحاول استقطاب الأجيال
الجديدة، هناك الشاب الثرى بالوراثة «نبيل» «أمير المصرى» الذى لا يهتم
أصلاً بالتعليم، ولكن يحاول النجاح لكى توافق أمه على رحلة سيقوم بها إلى
أمريكا، إنه يعد «نجيبة» بالزواج، وبعد أن يأخذ ورقة إجابتها فى «الامتحان»
يتخلى عنها تماماً مثل الشاب الثانى الشيوعى المدعى «خالد» «نضال الشافعى»
الذى يحوّلها إلى مناضلة اشتراكية بعد أن حفظت كتب «ماركس» ويهرب أيضاً عند
أول مواجهة.
«نجيبة» التى تتحول فى كل مرة لأنها لم تتعود أن تفهم وأن تفكر ولكنها
تعودت أن تردد ما تسمعه، ستخوض أيضاً تجربة التدين الشكلى بالحجاب من خلال
داعية انتهازى اسمه «عامر حسّان» «شادى خلف» يوظفها فى القناة الفضائية
الدينية الشبابية التى يملكها، ويحاول الزواج منها رغم أنه زوج لاثنتين، بل
يحرضها على ترك كلية الآثار حتى لا تدرس الأصنام، ولكنه أيضاً يتخلى عنها
عند الجدّ.
السيناريو الذكى لم يجعل «نجيبة» فقط فاشلة فى مواجهة الحياة، ولكنها أيضاً
تنقل طريقة التلقين كمُدرِّسة بالقطعة لتلاميذ صغار يرددون شعاراتها حسب
تحولاتها من الروشنة إلى الاشتراكية إلى الالتزام الدينى، وفى النهاية
يختار الفيلم أن ينقذها بأن تختار الطريق الصحيح، وتفتح النوافذ أمام
تلاميذها، بل تحصل على العريس فى مشهد أخير مفاجىء.
بصفة عامة، ورغم ملاحظة هنا وأخرى هناك، أنت أمام فيلم متماسك لا تفلت
فكرته من مؤلفه، ولا يستغرق فى خط على حساب خط آخر، ولا يستطرد فى أفكار
فرعية، فيلم يوظف كل ممثل فى دوره رغم الملاحظة الواضحة جداً فى تذبذب أداء
ياسمين عبد العزيز بين التلقائية وخفة الظل، وبين الاستظراف والمبالغة
المزعجة!
مجلة أكتوبر المصرية في
11/07/2010 |