يحار المشارك في الدورة الخامسة
والأربعين لمهرجان كارلوفي فاري من أين يبدأ حديثه عن واحدة من
التظاهرات
السينمائية التي يُعرض فيها سنوياً كمّ هائل من الأفلام متضمناً عدداً لا
يستهان به
من النشاطات الموازية، فالندوات والطاولات المستديرة والضيوف. كما قلنا في
مقالات
سابقة، فالمهرجان غيّر جلده على مدار الأعوام الـ15 الماضية،
متحرراً من سطوة
الماضي والتاريخ الثقيل، وأصبح أكثر إنصاتاً الى كل مستجد ومثير يأتيان من
اصقاع
الأرض. لهذه الدورة التي انطلقت الجمعة الماضي وتُختتم بعد غد، محطات
أساسية مع
سينماتوغرافات غير معروفة بعد، لا بل مهملة في حسابات
المهرجانات الكبرى. كارلوفي
فاري يدعم الأسماء الشابة بلا دفتر شروط. فما إن يصبح في إمكان هؤلاء
السينمائيين
التحليق بأجنحتهم الخاصة، حتى تراهم كالنحل، يبحثون عن الزهرة الجميلة
ليحطوا
عليها. كثر منهم يخوضون اليوم "معمودية النار" من على هذه
المنصة، قبل أن تنفتح
أمامهم فضاءات أرحب. المهرجان يسلّمهم الى هذا المستقبل الذي يأتي الى
السينمائيين
بألوان قوس القزح.
مرة أخرى، لم تثبت ليلة افتتاح المهرجان الا شيئاً واحداً
ووحيداً: الجمهور الغفير الذي حضر السهرة لا يأتي من أجل النجوم. جيف
بريدجز، البطل
المضاد لفيلم "قلب متيم" (أوسكار أفضل ممثل - 2010) الذي
اختاره المهرجان نقطة
انطلاق له، لم يحضر. لكن هذا لم يزعزع شيئاً في طريقة سير العمليات، ولا من
كيان
المهرجان. فالأهم، هنا، الأفلام وليس مَن خلفها، وإن كان مَن خلفها يتواصل
مع جمهور
متيقن أن خلف كل فيلم مخرجاً ونظرته الى العالم. كان يكفي، في
حفل الافتتاح، أن
يصعد سكوت كوبر، مخرج "قلب متيم"، الى المنصة ليقدم فيلمه، كي يعوض عن غياب
بريدجز.
أما الاستعراض البصري الذي قُدِّم خلال
الافتتاح فكان يليق بما يُقدَّم في
كاباريهات مثل "كرايزي هورس"... هذا هو الخليط العجيب الذي عوّدنا إياه
كارلوفي
فاري، بيد أن ما يصيب هنا يخيب في اماكن اخرى. وهذا دليل على ان لا وصفة
جاهزة في
صناعة المهرجانات.
نحو من 200 فيلم حصيلة هذه الدورة، بين جديد وقديم. القديم
المتمثل في الارث العظيم للفن السابع، له مكانه في المهرجان. ليس منذ
اليوم، بل مذ
تأسس عام 1946. من هذا المنطلق جرى الاحتفاء هذه السنة
بالثنائي الانكليزي مايكل
باول وامريك بريسبرغر، اللذين وهبا السينما الانكليزية كلاسيكيات خالدة في
اربعينات
القرن الماضي وخمسيناته، علماً ان باول بلغ ذروة فنه منفرداً في كنزه
السينمائي
"المتلصص" عام 1960. اذاً بعد عقدين على رحيل باول و22 عاماً على غياب
بريسبرغر،
يلتفت المهرجان الى مسارهما المشترك، بحيث خطرت على بال الادارة استضافة
زوجة باول،
تيلما شونمايكر، التي رافقت آخر ست سنوات من حياته. مَن أكثر معرفة بعمل
المعلّم من
هذه المرأة السبعينية المشهورة لكونها المونتيرة المفضلة عند سكورسيزي، فهي
التي
تقطع وتلصق أفلام المخرج الاميركي منذ ما يزيد على عشرين عاماً.
في اطار هذه
التحية عرضت ستة أفلام، هي تلك التي صنعها الثنائي باول - بريسبرغر على
مدار خمسة
أعوام فقط، من 1943 الى 1948، منها عملان لا يزالان في الذاكرة على رغم
مرور الزمن:
"الحذاء الأحمر" و"نرسيس أسود". تحية أخرى: هذه المرة من نصيب الناقد
السينمائي
النجم ميشال سيمان، يلقيها المهرجان من خلال عرض فيلم وثائقي موضوعه رئيس
تحرير
مجلة "بوزيتيف" الذي رافق نصف قرن من الحركة السينمائية في فرنسا وأوروبا
والعالم،
قبل أن يتحول ما يشبه المؤسسة. مؤسسة "ركّعت" الأميركيين، حدّ ان سبيلبرغ،
في
مبادرة غير مسبوقة، وضع على ملصق فيلمه "تقرير الأقلية" جملة من مقال كتبه
سيمان عن
الفيلم.
هؤلاء لم يكونوا المكرمين الوحيدين في المهرجان. هناك ايضاً تحية وجهت
الى كل من جوراج هرز (مخرج وممثل وكاتب سيناريو سلوفاكي) وكاريل فاشيك
(مخرج
تشيكي)، وهما اسمان يعود اليهما المهرجان تماشياً مع سياسته في
اعادة تموضع السينما
التشيكية، بين حاضرها وماضيها، على خريطة أوروبا الجديدة، أي حيث ينبغي أن
تكون،
الى جانب سينماتوغرافات أخرى مصدرها أوروبا الشرقية. الاخلاص الدائم لسينما
محلية،
لا تعني التقوقع المزمن في كارلوفي فاري، فهناك انفتاح كبير
الآن على أشكال فيلمية
جديدة ومناطق تعود لتكون مراكز ثقل، وهذا يأتي من فهم مختلف للسينما، فناً
لا وطن
له. لذا، ابتُكر هذه السنة قسم مسمّى "كنوز من أرشيف الفيلم" ضمّ أعمالا
لفيلليني
وماكس اوفولس وهنري جورج كلوزو، بالاضافة الى فيلمين كبيرين، "أيام السماء"
لتيرينس
ماليك (1978) و"الفهد" لفيسكونتي (1963) الذي سيطل على الجمهور غداً في
الصالة
الأساسية للمهرجان بنسخة مرممة تعيد ابراز الجماليات التي قامت عليها تحفة
صاحب
"روكو واخواته"، لا سيما مشهد الحفل الراقص الغنيّ عن التعريف.
السينما
البلجيكية تحظى، هي الاخرى، بدعم المهرجان من خلال "فوكوس" خاص عنها تندرج
في اطاره
ثمانية أفلام، كل واحد مختلف عن الآخر اختلافاً نوعياً، ينم عن الحيوية
التي تتبلور
فيها السينما البلجيكية، علماً انها لا تزال تعاني مشكلة فقدان ملامح
تجعلها محسوبة
على سينمات شقيقة، إما الألمانية وإما الفرنسية. لعل الفكرة
الأكثر ابتكاراً هذه
السنة هي تخصيص فقرة عن الأفلام التي تعنى بالموسيقى. وسميت هذه الفقرة
"2010:
أوديسة ميوزيكالية" كغمزة الى الفيلم
العلمي الخيالي الشهير لستانلي كوبريك.
ماذا يبقى؟ تبقى عشرات الأفلام تُعرَض على الجمهور في صالات مكتظة على
مدار
الساعة، وخصوصاً ان المهرجان حظي هذه السنة بويك أند طويل امتد الى يوم
الأربعاء
لوجود فرصة رسمية. هذه الأفلام تتوزع على محاور أساسية: "آفاق"؛ "اختيارات
نقاد
مجلة فرايتي"؛ "نظرة أخرى"؛ "شرق الغرب"؛ "فوروم المستقلين" و"عيون مفتوحة"
الذي
يستعيد الأفلام التي عرضت في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ كـ"نسخة طبق
الأصل"
لعباس كيارستمي الذي مُنع في ايران كونه من بطولة ممثلة ترتدي ديكولتيه فيه
(جولييت
بينوش)، وايضاً جديد عميد السينمائيين في العالم مانويل دو أوليفيرا (مئة
وعام)،
والفيلم البديع "رجال وآلهة" لكزافييه بوفوا الذي نال في كانّ
جائزة لجنة التحكيم
الخاصة. من هذه الاستعادات أيضاً، "حرقتهم الشمس" لنيكيتا ميخالكوف، الذي
يكرّمه
المهرجان يوم السبت، بعدما سبق أن كرّم جود لو، الأول من أمس. لكن "سيد لو
الموهوب"
لم يمنح المقابلات ولم يترك أثراً كبيراً عند الناس، خلافاً لما حصل العام
الماضي
مع مجيء جون مالكوفيتش وتسلمه جائزة فخرية لمجمل أعماله.
في مهرجان لا يهتم
كثيراً بالمنطقة العربية، لأسباب متعلقة بانعدام العلاقات بين الادارة
وجهات عربية
مهمومة بسينما هذه المنطقة، كان من المثير متابعة "ابن بابل" لمحمد الدراجي
(الذي
لا يزال يواصل مشواره المهرجاني بلا استراحة) وهو يفوز باهتمام التشيكيين
واعجابهم.
هذا الاقبال قد يقنع المهرجان بضرورة الانفتاح على العرب وبعض تجاربهم
الجيدة. أما
المسابقة الرسمية، في شقيها الروائي والوثائقي، فتقوم على دزينتين من
الأفلام يأتي
معظمها لسينمائيين غير معروفين يشقّون طريقهم، بعضهم بخطوات
ثابتة وبعضهم الآخر
بخطوات متعثرة.
معظم هذه الأفلام هي عروض عالمية أو دولية أولى. هناك في
المسابقة الروائية عناوين من تشيكيا والصين وايران وروسيا واسبانيا وفرنسا
وبلجيكا
وبولونيا وسلوفينيا وكندا. حتى كتابة هذه السطور، ثلاثة أفلام برزت، هي
"ثلاثة
مواسم في الجحيم" لتوماس ماسين (تشيكيا/ ألمانيا/ سلوفاكيا)
و"ولادة الشرّ"
لأوليفييه كوسماك (فرنسا) و"ثلاثة أزمنة بعد موت آنا" لكاترين مارتان
(كندا)، مع
العلم أن الفيلم الاسباني "لا موسكيتيرا" لأوغوستي فيللا لا يخلو من
الطرافة في
تناوله التيمة الأبدية للعائلة المفككة، لكن بأسلوب يحاكي قليلاً الاميركي
تود
سولوندز.
على سيرة الطرافة، نحن أمام واحد من أكثر المهرجانات رغبة في التجديد.
هذا لا يمكنه ان يتحقق الا بوجود طاقم شاب
يعمل كخلية نحل ويأتي بأفكار تنقب في
الحداثة. تكمن كلمة السر في ان اصحاب الشأن جديون لكن لا
يحملون أنفسهم على محمل
الجدّ. تكفي مشاهدة دعاية المهرجان الطريفة التي تمرّ على الشاشة قبل عرض
الأفلام
وتصور ما آلت اليه جائزة المهرجان "الكرة البلورية" التي نالها بعض الذين
كرّمهم في
السنوات الأخيرة: ميلوش فورمان يستعملها كمطرقة. آندي غارسيا يفتح بها باب
بيته
المقفل. أما مالكوفيتش، فيشتكي الى سائق تاكسي نيويوركي لكون
المهرجان منحه جائزة
تتأكد من خلالها نظرية ان حياته التمثيلية صارت خلفه. هذه الدعابة على
الطريقة
التشيكية، المتكررة يومياً، لا شك انها تخفف من سقامة بعض الأفلام التي
تقطع على
المشاهد الأوكسيجين. وما أكثرها في وسط أوروبا وشرقها.
حوار
جاكو فان دورماييل: أجمل المشاهد في الحياة تلك التي
تبدو غير مجدية
أمضى المخرج البلجيكي جاكو فان دورماييل عقداً
ونصف عقد من الزمن وهو يعمل على مشروع "خرافي" تحقق بفضل جنونه
وايمانه واموال
المنتجين الذين ذهبوا معه الى نهاية الطريق. المولود سمّاه "السيد لا أحد"،
عرض في
الدورة
الأخيرة من مهرجان البندقية واستعاده كارلوفي فاري. في حواري معه في مدينة
المئة ينبوع، قال لي "لا اخفي عليك انني افدت من كون فيلميَّ
السابقين فازا بقدر ما
من النجاح. بفضلهما استطعت أن اتحدى". الفيلمان السابقان، لمن لم تسعفه
ذاكرته، هما "توتو
البطل" (كاميرا ذهبية في كانّ) و"اليوم الثامن" الذي أبكى الكثيرين وأضحكهم
حول العالم. في انتظار العرض المحتمل لفيلمه في بيروت، هنا حوار مع مخرج
ينحرف عن
الدروب المطروقة، بفيلم يترجح بين الميتافيزيقيا والفانتازيا.
·
بداية، سؤال لا
مهرب منه: أين أمضيت السنوات الـ14 التي تفصل "اليوم الثامن" عن فيلمك
الجديد "السيد
لا أحد"؟
- (...).
المسألة بهذه البساطة: تطلّب المشروع الكثير من
الوقت.
لقد احتجت سبع سنوت للتأليف. واستغرقت عملية ايجاد التمويل مرحلة طويلة
أيضاً. أما
التقاط المشاهد والمونتاج فاستغرق أكثر من عامين. هذ كله جعل الوقت يتسلل
من بين
أصابعنا، فمرت عشر سنين وأنا أعمل على "السيد لا أحد". في الحقيقة لم أشعر
بمرور
الزمن. في المقابل، عندي احساس بأنني أنجزت ثلاثة أفلام في فيلم واحد. هذا
عزائي.
·
هناك شعور بأن الاقبال النسبي
الجيد على "اليوم الثامن" قيّدك في مكان
ما؟
-
أولاً، كنت أريد أن ابتعد عن هذا الفيلم تفادياً للتكرار. كان
في ودي
إنجاز شيء لا علاقة له بـ"اليوم الثامن". علماً اني في كل مرة أبدي رغبة في
انجاز
شيء يبتعد عن عملي السابق، لا يسعني الا ان ارى علاقة ما، في مكان ما، بين
الجديد
والقديم. التأليف هو الذي تطلب مني الوقت الطويل هنا، اذ كنت اريد شكلاً
قصصياً
جديداً وبنية حكائية لم يسبق لي ان استعنت بها في أفلامي
الاولى. عندما كنت أكثر
شباباً، كنت اسعى خلف وصفات مضمونة النتائح. وصفات غير خاسرة. الآن، بعدما
صرت في
مرحلة أكثر تقدماً في حياتي، أحاول أن اجرب الى اين يمكنني أن أذهب في مجال
السينما
المغامراتية، تلك التي لا تتضمن نتائج أكيدة على شبّاك التذاكر. أحب أن
أدفع بحدود
السينما الى مكانات أبعد، بحثاً عن قواعد جديدة وطرق مغايرة
للتعبير. في الواقع،
هذا أكثر ما يشغلني اليوم ويسلّيني في الحين نفسه. في هذا الفيلم، كنت ابحث
عن شكل
يلائم تجربة الحياة التي أقدمها أكثر من ملاءمة حكاية ما. عادة، في
الأفلام، كل شيء
مركب على شكل "قمع". كل ما يُكتَب من تفاصيل ينبغي لها أن تمر
عبر هذا "القمع" الذي
تضيق فتحته شيئاً فشيئاً. بالاضافة الى ان كل المشاهد يجب أن
يكون لها ضرورة ما،
ويجب أن تتضمن سبباً ونتيجة، وتأتي بالشرح الذي يقلب النهاية وينسف كل ما
سبق أن
شاهدناه. أجد أن أجمل المشاهد هي تلك التي تبدو غير مجدية، حيث لا وجود
لمعادلة سبب -
نتيجة. الحياة ليست حكاية. كل ما في الأمر
أننا نحاول قدر الامكان أن ننجز من
وجودنا شيئاً أشبه بقصة. في الحياة نخلق شخصية لنفسنا ونصبح اسرى لها، فما
بالك اذا
خُلقت هذه الشخصية في السينما، حيث الزمن الضيق لا يتيح لنا الغوص في
اعماقها.
·
تستعين ببنيات معقدة، لكن الغريب
انك تصل الى استنتاجات بسيطة وسهلة.
- في
الواقع، لا أطرح أسئلة. اتمنى أن يعيش المشاهد التجربة التي
تعيشها الشخصية التي
تصل في النهاية الى استنتاج مفاده انه ليس هناك من خيار صائب وخيار غير
صائب، ذلك
ان الأهم كيف نعيش هذا الخيار. لا تقتصر الحياة على الخيارات والمصادفات.
عندما نرى
الطفل حائراً امام هذه الاحتمالات كلها، وهو مأخوذ بهاجس ان
يتخذ الخيار الصائب،
وعندما يختبر الحيوات كلها، يبقى على الحالة نفسها من الحيرة. كل الحيوات
الممكنة
جميلة. كما يقول العجوز في الفيلم، كل طريق هي الطريق الصحيحة.
·
الخيار، موضوع
الفيلم، هو تيمة سينمائية بامتياز...
- نعم، على السينمائي أن يتخذ جملة خيارات.
حياتنا مزيج من المصادفات والخيارات. نعرف ما هي المصادفة، لكن الخيار، هل
فعلاً
نعرف لماذا نقوم بهذا الخيار دون ذاك؟ هل اذا قمنا بخيار نقوم به بحرية
مطلقة، أم
اننا اسرى موروثات شتى؟ هل الخيار الحرّ موجود في ظل اعتقادنا
بأننا شخص ما، فيما
نكون في الواقع شخصاً آخر. عندما نعلم اننا لسنا احراراً في القيام بخيار
ما،
فلماذا تالياً نقوم به؟ في معظم الأحيان نتبع غرائزنا، نُغرم بإحداهن، ولا
نعرف
لماذا. هل القيام بخيار يعني ان نقول كلمة نعم للغريزة؟ لكن
السؤال: من أين تأتي
تلك الغريزة؟ أقول هذا، وأعلم ان الموضوع فيه الكثير من الغموض. لعل جماله
يتأتى من
هذا الغموض. لذلك، نرى في بداية الفيلم، هذه الحمامة التي ترفرف بجناحيها،
معتقدة
أنها المسؤولة عن وقوع الحبة، لكن في الواقع، المسؤول عن وقوع
الحبة هي آلة قياس
الزمن. هذه الحمامة اشبه بالشخص الذي يعتقد انه يتحكم بحياته، فيما الحياة
مزيج من
الخيارات (التي ليست فعلاً خيارات) والمصادفات.
·
هناك الكثير من الاثر الزائف
في الفيلم. تدخلنا في متاهة لا يسهل الخروج منها. كما لو كنا في لعبة
فيديو. هل
عمدت الى تضليل المشاهد؟
-
لا، لكن الأمر واضح جداً بالنسبة الى من يصنع
المتاهة. المتاهة واضحة بالنسبة اليَّ، وهي مشيدة لتكون نوعاً من انواع
اللعبة.
متاهة؟ نعم، هي كذلك، لكن في هذه المتاهة يسرّنا ان نتيه، لكن يسرّنا ايضاً
ان نعثر
على الطريق في اتجاه المخرج.
·
هل ينتمي "السيد لا أحد" الى
السينما التي تحب
مشاهدتها؟
-
نعم، الأفلام التي انجزها هي ايضاً الأفلام التي أحب مشاهدتها.
لا
اعرف من هم المشاهدون الذين يذهبون لشراء بطاقة وحضور أفلامي، لكن دائماً
أطرح على
نفسي عما اريد أن أشاهده وانجز الافلام وفق ذلك.
·
على سيرة الخيارات، هل اخترت
ان يكون الفيلم ناطقاً بالانكليزية مع كاستينغ انغلوفوني، ام الموازنة
الكبيرة هي
التي فرضت عليك ذلك؟
-
لا استطيع ان اقول لأيّ سبب حقيقي اخترت الانكليزية.
اعتقد ربما انني كنت في حاجة الى تغيير بعد
فيلمين ناطقين بالفرنسية. لا علاقة
عضوية لي باللغة الفرنسية. أمي فرنكوفونية لكن أبي فلمنكي وعشت
وترعرعت في ألمانيا.
صور الطفولة والذكريات تزور مخيلتي من دون كلمات.
·
هذا ما يجعلك على كل حال
مخرجاً بصرياً أكثر منه شفهياً...
-
ربما هذا هو السبب. تربّيت بين ثقافتين، ما
جعل الصورة أكثر حضوراً في عملي من الكلمة. لكن لا استطيع ان انكر انه كان
يستهويني
العمل مع ممثلين انكليز، اي من بلد يبعد ساعتين ونصف ساعة
بالقطار عن المكان الذي
اقيم فيه [بروكسيل]. المسرح الانكليزي خرّج العديد من عظماء التمثيل، ليس
فقط
المشاهير منهم، بل خرّج ايضاً فنانين يعملون في الهامش. أعشق تقنياتهم
التمثيلية
القائمة على التضاد واللبس الجميل بين ما هو حقيقي وزائف.
·
أنت تعمل ايضاً في
هذا الفيلم على تفاصيل كثيرة تخاطب العين...
-
احدى مهمات السينما هي البحث عن
الأشياء الصغيرة بغية تكبيرها. هناك حضور طاغ ايضاً للمؤثرات
البصرية، لكن مدرجة في
السياق على نحو لا يمكن ملاحظتها. استعنت بأشياء يمكن اعتبارها غريبة الى
حد ما،
كما الحال عندما تمر الكاميرا أمام المرآة، فلا نرى ظلها مثلاً.
·
هناك كذلك
الكثير من السوريالية...
-
نعم، في احد حقول الكرمة مثلاً، الغيمة نفسها هي التي
نراها في السماء الملبدة. في مشهد آخر، نكتشف أن كل السيارات لونها أحمر
والجميع
يلبس الكنزة عينها، وتفاصيل أخرى تمنح الاحساس بالغرابة...
·
على رغم عدم وجود
سينما بلجيكية ذات ملامح واضحة، فإن فيلمك لا ينتمي الى ايٍّ من الاتجاهات
التي
سلكها المخرجون البلجيكيون قبلك. طموحك، في هذا الفيلم، سينما
أوروبية ذات انتشار
كوني، أليس كذلك؟
-
لا أعرف اذا كان لما يسمّى سينما بلجيكية وجود. بلجيكا بلد
تنعدم فيه الهوية الوطنية. انه خليط أشياء. بلد فوضوي الى حدّ بعيد: نتكلم
لغات
عدة، ولا أحد يتفق مع الآخر في اي موضوع كان. أما الهندسة فمزيج من طرازات
مختلفة.
الاسلوب معدوم في بلجيكا. هناك مكان للجميع، لكن لا اتفاق بين الاطراف يسمح
لهم
باحتلال الساحة. انعدام الاسلوب هذا يحررني. احب العيش في بلجيكا لأنهم لا
يصنّفونك. لا يريدون معرفة الى اي مدرسة تنتمي ومَن يلهمك. انه
بلد صغير.
السينمائيون محشورون في حوض رمال. ولا أحد يحب أن يكون ملك ذلك الحوض
(ضحك). كل
مخرج عندنا ينجز شيئاً مختلفاً تماماً عما يفعله الآخر.
·
تجاهل الجمهور للفيلم
هل خيب آملك؟
-
في الحقيقة، لم يكن الامر متوقعاً. في فرنسا لم يحظ الفيلم بأي
اقبال. في بلجيكا نجح في جلب الجمهور الى الصالات، على رغم انه خرج الى
السوق في
البلدين المتجاورين في اليوم نفسه. عدد الجمهور في كلٍّ من
بلجيكا وموسكو كان أكبر
من عدد الجمهور في باريس، وهذا شيء أستغربه.
·
انت من المخرجين الذين يستلهمون
من السينما أكثر مما يستلهمون من الحياة. لا تهمّك الحقيقة بقدر ما يهمّك
ما نستطيع
فعله بتلك الحقيقة.
-
مشكلتي انني لا اعرف ما هي الحقيقة. عيني واذني تمنحانني
تجسيداً ما للحقيقة وليس الحقيقة. اعتقد ان كل السينمائيين منذ ولادة
السينما أمام
خيارين: إما المشي على خطى الأخوين لوميير وإما خطى جورج
ميلييس. الأخوان كانا
يقولان "هاكم الحقيقة"، أما ميلييس فكان ينكر وجود مثل تلك الحقيقة الواضحة
للعيان
والمتساوية أمام الجميع. أنا أكثر ميلاً الى اعتبار السينما فناً لا علاقة
له
بالحقيقة، وذلك لأنني أجهل ما هي الحقيقة. لا بل أعمل على ادراك الحقيقة.
هذا
الادراك يختلف من شخص الى آخر ومن مكان الى آخر. في المقابل ما
يهمّني في السينما
هو عندما يعيد الفيلم انتاج بعض آليات التفكير. بدلاً من اعادة إحياء
الواقع أو وهم
الواقع، الأجدر بالسينما أن تعيد انتاج كيفية انتقال وعينا من فكرة الى
اخرى ومن
لحظة الى اخرى.
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
غياب
محمـد باكــريم يتـذكــر نــور الـديــن كـشــطــي فــي
رحــيــلـــه:
هاجــر الـيــوتــوبــيـــا الـى الـســيــنـمـــا
بقلم: محمد باكريم*
جاء
ذات يوم بعيد. من عصر مغربي آخر. من مغربه العميق، من الجانب الذي تشرق منه
الشمس.
جاء من بلدته الأم بركان حاضناً المتروبول،
الدار البيضاء، التي كانت تجذب التوقعات
كافة، وأيضاً كل الآمال وكل اليوتوبيات. نعم، نور الدين كشطي،
ناقد سينمائي ومدرّس
فنون، الذي فقدناه في حادث سير في يوم أحد شديد الحرارة، كان ملتزماً
مثالية ظل
مخلصاً لها كراهب من الأزمنة الحديثة. صورة الراهب هذه تليق كثيراً بكشطي،
اذ لم
تكن تتاح لنا ملاقاته، في الواقع، الا حول صالة سينما، معبده
المفضل، أو داخلها.
هذا الذي كان يعمل تقنياً، في أوائل الثمانينات، استطاع أن يوفق ببراعة
تامة، بين
الانضمام الى يوتوبيا يسارية وحب السينما في آن واحد. في خاتمة المطاف،
انتصر
الأخير على الاول، ليس لأنه هاجر معتقداته، انما لأن السينما
كانت تتيح له، على
غرار الجيل السينيفيلي في سبعينات القرن الفائت وثمانيناته، أن يستمر
باليوتوبيا
بأساليب أخرى. وكان هذا يتيح له ان يعيش اليوتوبيا على الشاشة المتضمنة
الكثير من
الانكسارات والخيبات. في السينما، الحلم ممكن دائماً، لأنها
تتيح لنا أن نسترد
العالم على النحو الذي ننطر اليه.
عندما وصل الى "كازا" (الدار البيضاء)، اكتشف
البركاني الشاب، مدينة في حالة اضطراب: نشطاء يساريون، ديناميكية نقابية،
وخصوصاً
حركة ثقافية قوامها نشاطان اساسيان، مسرح الهواة والسينما.
السينما بصفتها المرجع
الثقافي الذي لا مفر منه لنموذج الحداثة. فالسينيفيلية كانت الخبز اليومي
لهذا
الجيل. في الدار البيضاء، كان هناك ما لا يقل عن خمسة
نوادي سينما وكانت تقترح على
جمهور متعطش ومواظب باقة من أهم سينماتوغرافات العالم. كل يوم
أحد صباحاً، كنا على
موعد مع فعل يشبه الطقس الديني: كشطي، الشديد الخجل، كان بدأ آنذاك في
النقد
والسينيفيلية، في عين سباع، منطقة العمال في الدار البيضاء، وتحديداً في
"السينما
الجديدة". اسم هذه السينما وحده كان يعد بالكثير! الأفلام المقترحة كانت
تأتي من كل
أنحاء العالم. كان المغرب في تلك الحقبة يملك واجهة ثقافية ذات صيت عالمي
(بفضل
علاقات نور الدين الصايل)، الا وهي الاتحاد الوطني لنوادي
السينما. افلام من أميركا
اللاتينية، المنطقة التي شهدت بزوغ حركة الـ"نيوفو سينما" البرازيلية،
والتي شكلت
صدمة جمالية وتركت بصمات دامغة في جيل كامل من السينمائيين كان قائدهم
الشخصية
المتمردة لغلاوبر روشا. وكانت كذلك السينما السوفياتية الآتية
من العشرينات،
والموجة الفرنسية الجديدة (مع "سيرج الجميل" لكلود شابرول)، ثم السينما
البريطانية
الحرة والسينما الالمانية والتشيكية والمجرية... كان ثمة سيل من الصور
الطليعية،
واجهه جيل كامل بإمكاناته المتواضعة، وغالباً كان يجري ابعاد النقاش عن
مضمونه
وجرّه الى السياسة. فبدأت تتكون ظواهر في قلب نوادي السينما في الدار
البيضاء:
بعضها كان يولي القراءة السياسية للفيلم الأهمية، وبعضها الآخر كان يسعى
للدفاع عن
خصوصية ما واستدعاء المقاربة الجمالية. لكن، في كلتا الحالتين، كان النقاش
بين
الطرفين يدور بشغف، وقد وجد نور الدين كشطي في هذا كله طريقه،
حدّ انه نسي مساره
المهني. فاستقال من المصنع حيث كان يعمل، مكرساً نفسه بشكل كامل الى شغفه.
اختار
الوجهة الأقل ضماناً: الكتابة السينمائية. فالذهاب الى السينما لم يكن عنده
فعلاً
مجانياً؛ مشاهدة فيلم لا تكتمل من دون هذه الرغبة في مواصلة
تجربة المشاهدة من خلال
الكلمة والحوار والكتابة. عقيدته كانت بسيطة: التكلم على الأفلام التي
يحبها،
والتكلم عليها بعطف وحنان، من دون أن يكون جدلياً أو مشاكساً البتة. كان
نصيراً
لجان دوشيه أبي هول النقد السينمائي الفرنسي، ولكتابه عن "فن
أن نحب". والحب لا
يمكن أن يكون من دون فن، والفن لا وجود له من دون حبّ...
خيار كشطي كان
راديكالياً ومؤلماً في سياق بدأت تضيق فيه تدريجاً مساحة السينيفيلية.
فضاءات
التعبير الحر باتت نادرة أو معدومة. ثم مع الانعطافة الجديدة للتسعينات،
منطق جديد
تسلّم مقاليد السلطة: المنطق النفعي والليبيرالي، زمن التجارة
والمال. في هذه
البيئة المستجدة كان كشطي يعطي الانطباع مراراً كما لو انه طفل تائه في
الأدغال أو
وسط حشد لا يتكلم لغته. هو الذي اقتصرت قدراته على تفكيك لغة الرموز
الايقونية، صار
"أمياً" في مواجهة رموز زمن جاحد، فوُضع تالياً على الهامش الثقافي،
شأنه شأن مجمل
النشاط النقدي.
كتب فرنسوا تروفو ذات يوم: هناك على هامش السينما، مهنة ناكرة
للجميل، مهنة شاقة، لا يعرفها كثر: مهنة النقد السينمائي. من هو الناقد؟
ماذا يأكل؟
ماذا عن ذوقه، تقاليده، عاداته؟ نور الدين كشطي كان المثال
الأبلغ عن هذا الشيء،
كان دائم الكلام عن الآخرين ولا يتكلم البتة على نفسه. كان الحشمة مجسدةً.
ولقد رحل
كما جاء... لكن هذه المرة رحل من حيث تغيب الشمس. وداعاً أيها الصديق!
*ناقد سينمائي مغربي
والمدير الفني لمهرجان الرباط
لسينما المؤلف)
(
نقله من الفرنسية: هـ. ح.)
النهار اللبنانية في
08/07/2010 |