بالنسبة لي، يُعتبر(Côté Court)
مهرجان الأفلام القصيرة الذي ينعقدُ منذ 19
عاماً في المنطقة الإدارية (Seine-Saint-Denis)
الثاني من حيث الأهمية بعد المهرجان
الدولي للأفلام القصيرة الذي تحتفي به مدينة "كليرمون ـ فيران"
منذ 32 عاماً، وعلى
الرغم من إحدى مُسابقاته الدولية المُخصصة للأفلام التجريبية المُسمّاة (Labo)،
تطغى هذه النوعية بكلّ أشكالها، مُمارساتها، وتنوعاتها الثرية على عموم
فعاليات،
وبرامج (Côté Court)،
ومن هذا المُنطلق، يختلفُ اختلافاً جوهرياً عن مهرجان "كليرمون
ـ فيران"، ولا يتقاطع معه إلاّ في بعض الأفلام.
وهكذا، تمتلكُ
المهرجانات السينمائية الفرنسية (والأوروبية عموماً) تنوّعها الموضوعاتيّ
المُثير
للفضول، والدهشة، ولا يوجد بينها أيّ نوعٍ من المُنافسة التي
تشهدها المهرجانات
السينمائية العربية.
التجدد المُتواصل للسينما الفرنسية، وحالة الازدهار التي
تعيشها، يسمح للمهرجانات، مهما كان عددها، بالعثور على ما تسعى
إليه من أفلامٍ
قصيرة، وطويلة، وكلّ مهرجانٍ يدركُ أهميته، حجمه، وجمهوره مُقارنةً مع
المهرجانات
الأخرى.
في عام 2009، ومن أجل الدورة الـ 32 (29 يناير ـ 6 فبراير2010) وصل إلى
مهرجان "كليرمون ـ فيران" (6514) فيلماً، ونعرف بأنّ مُسابقاته
الرسمية الثلاث
(الوطنية،
الدولية العامة، والمُختبر الدولية) لم/ولا تستوعب أكثر من 172 فيلماً،
ولكن، هذا لا يعني أبداً بأنّ المهرجانات الأخرى تكتفي بالأفلام المُتبقيّة
من ذاك
العدد الهائل، لأنّ السينما الفرنسية في حالة إنتاجٍ متواصل،
فهناك مئات الأفلام
القصيرة التي انتهت بعد التاريخ المُحدد لتقديم طلبات المُشاركة، ومئاتٍ
أخرى لم
يرشحها أصحابها أصلاً للمهرجان، وتوجهت نحو مهرجاناتٍ أخرى.
الأهمّ، ليس من
الضروريّ بأن ينتقي مهرجان "كليرمون ـ فيران" الأفلام الأفضل، ويترك الأقلّ
جودةً،
على العكس تماماً، معرفتي الوطيدة بهذا المهرجان، واهتمامي بالقسم الدولي
لـ
"مهرجان الخليج السينمائي" في دبيّ، يسمح لي باستقبال مئات الأفلام من
خزينة مهرجان
"كليرمون ـ فيران"، والمُؤسّسات الأوروبية الأخرى، وخلال الفترة من
بداية شهر
يناير، وحتى آخر مايو2010، تمكنتُ من مشاهدة حوالي 1000 فيلم قصير من كلّ
أنحاء
العالم (والبقية في طريقها للمُشاهدة).
من هذه الألف، يُمكن استخلاص برمجةٍ على
قدرٍ كبير من الجودة، والدقة (وهو أمرٌ نسبيّ يختلفُ من مهرجانٍ إلى آخر).
هناك
أفلامٌ لم يتمّ اختيارها في مهرجان "كليرمون ـ فيران"، ولكنها، باستحقاقٍ،
وجدارةٍ،
وجدت لها مكاناً في الدورات الثلاث السابقة لـ "مهرجان الخليج السينمائي"،
وعلى
سبيل المثال، في الدورة الثانية 2009، كانت الأفلام الهندية القصيرة
اكتشافاً
مُثيراً لجانبٍ مجهولٍ تماماً في السينما(ت) الهندية، وفي
الدورة الثالثة 2010،
تسلطت الأضواء على السينمائيّ الفرنسي "فرانسوا فوجيل"، والانبهار بتقنيات
أفلامه،
ومُفرداتها الجمالية المُذهلة.
ولهذا، فإنّ توالد المهرجانات الفرنسية لن يجعلها
تتشابه أبداً، فالإنتاج الفيلميّ السنويّ (على عكس السينما العربية) يسمحُ
لها
بإثراء برامجها بكلّ جديد(وقديم).
ومن المُؤسف، بأنّ المهرجانات السينمائية العربية (الكبيرة، والصغيرة) لم
تستوعب بعد فكرة (التيمات) في برامجها، وعن سابق قصدٍ، وتصميم
(وجهلٍ أحياناً)، لم
تقتنع بأنها فرصة لمُشاهدة القديم، والجديد على السواء، ومازالت تتنافس على
الأحدث
إلى حدّ تقديم الإغراءات للمُخرجين، وإفساد سلوكيّاتهم، وإجبارهم على
الابتزاز من
أجل عرض أفلامهم وُفق شروطٍ مادية، فقد فهم هؤلاء جيداً بأنّ
المهرجانات السينمائية
العربية أصبحت أكثر عدداً من الأفلام العربية، والغير عربية (لمُخرجين من
أصولٍ
عربية)، بمعنى، أصبحت العلاقة بين المهرجانات، والسينمائيّ العربي تعتمدُ
على
(العرض،
والطلب)، وحوّل الطرفان، وبكامل إرادتهما، الفيلم إلى (سلعةٍ سينمائية)
قابلة للتفاوض.
هوسٌ مهرجاناتيٌّ عربيٌّ على العروض الأولى، حتى لو تكلف الأمر
إغراءاتٍ مادية، لو اُستثمرت بتعقلٍ لساهمت في إنجاز أفلاماً
عربية أخرى، وتطوير
الإنتاج الوطني.
لقد أصبح الهمّ الأساسي الانتشاء المُؤقت بنجاحات الحصول على
عروضٍ أولى في المنطقة، الشرق الأوسط، العالم، والكون،..
منذ بعض السنوات فقط،
كان السينمائيّ العربيّ يركض حاملاً نسخةً من فيلمه كي يُرشحه لهذا
المهرجان
العربيّ، أو ذاك، اليوم، أصبح مُبرمج المهرجانات العربية (ولي
عودةٌ إلى هذه الصفة
المهنية التي أفقدها بعض الطفيلييّن معناها) هو الذي يركض خلف مشروع
الفيلم،
والانتظار في صالات المونتاج، والميكساج، والمختبرات بهدف الحصول على
نسخةٍ،
ومشاهدتها، والتفاوض المعنويّ، والماديّ للحصول على امتياز
العرض الأول.
لم يعد
همّ السينمائي العربي الاحتفاء بفيلمه، ولكن، إجراء مُقارناتٍ حسابية بين
المُميزات
التي سوف يحصل عليها من هذا المهرجانٍ، أو ذاك، ورغبة ابتزازية حوّلت
المهرجانات
السينمائية العربية إلى "دكاكين"، و"أسواق" بعيدة عن الأهداف
التي تأسّست من
أجلها.
هذا المهرجان يدفع دعماً مُقنعاً، آخرٌ يقدم منحة مُعتبرة للفيلم القادم،
ثالثٌ يمنح جوائز مُغرية، ..وهكذا تتوالى سلسلة المُزايدات حتى
يصيح المخرج (Adjuger)، ويُعلن عن المهرجان المحظوظ الذي رسا عليه المزاد.
بالمُقابل،
المُنتج العربيّ على استعدادٍ لصرف مبالغ كبيرة من أجل عرض فيلمه في
مهرجاناتٍ
كبرى،.....حتى في إحدى الصالات الصغيرة في "سوق الفيلم"، أو
مُستأجرة بالقرب من
الصالات الرسمية.
أحياناً، يبدو بأنّ (أقلّ) طموحات المهرجانات السينمائية
العربية تقليد كان، برلين، فينيسيا، لوكارنو،.. ...و(أكثرها)،
التقليل من شأن
المهرجانات العربية الأخرى إلى حدّ الرغبة في تحطيمها.
قليلةٌ هي المهرجانات
السينمائية العربية التي ترغب الاستفادة من مهرجاناتٍ أجنبية مُتخصصة،
ومعظمها، من
الأكثر أهمية، وحتى الأقل شأناً، يُعاني من هوسٍ مرضيّ بالصفة
الدولية.
ألا
يُفاخر "مهرجان القاهرة السينمائيّ" دائماً باعتراف "الإتحاد الدولي
لجمعيات منتجي
الأفلام/FIAPF)،
ومن ثمّ، ألا يسعى "مهرجان دمشق السينمائيّ" جاهداً للحصول عليه،
ولا أدري أيّ مهرجانٍ آخر يضع هذه الغاية الوطنية في قلب اهتماماته.
قبل سنواتٍ،
كان "مهرجان دمشق" يمتلك فرصةً عظيمةً في توجهه الحاذق نحو السينمات
الأسيوية،
والأمريكية اللاتينية، ولكنه أضاعها بتوسيع رقعته الجغرافية السينمائية.
هل يوجدُ في الوطن العربي من محيطه، إلى خليجه، أو من مغربه، إلى مشرقه
مهرجاناً دولياً واحداً مُخصصاً لأفلام التحريك على غرار
"المهرجان الدولي لأفلام
التحريك" في آنسي/فرنسا ؟
(المهرجان
الدولي الوحيد لسينما التحريك في
مكناس/المغرب، يُنظمّه المعهد الثقافي الفرنسيّ).
وهل هناك مهرجانٌ عربيّ واحدٌ
استوحى من مهرجان القارات الثلاث في نانت/فرنسا، المهرجان الدولي للفيلم في
آميان/فرنسا، أو المهرجان الدولي للنقد التاريخي للفيلم في بيربينيان/فرنسا
؟
وهل تمكن المهرجان الدولي للأفلام التسجيلية، والقصيرة في الإسماعيلية/مصر
تطوّير حاله، وبرمجته بعد 13 دورة من تاريخه ؟
يبدو لي، بأنّ بعض المهرجانات
السينمائية العربية تُشكل "عبئاً " كبيراً على إداراتها، بدل أن تكون "شغفا
ً"،
ومراتٍ، يتأكد بأنهم المسئولين مباشرةً عن تدهورها، وحتى مُتواطئين،
ومُتورطين في
نهبها.
باختصار.
ماتت السينما العربية، تعيش السينما العربية.
الجزيرة الوثائقية في
22/06/2010
رموز: المُخْرج الفرنسي "لوك مولي"
الهادي خليل
بَدَأَ المُخرج الوثائقي الفرنسي "لوك مولي" مسيرته كناقد في مجلّة
"كرّاسات
السّينما" (Les Cahiers du Cinéma)
الشّهيرة. وُلد بفرنسا سنة 1937 وعاشر كثيرا
أهمّ رموز مَا عُرِف بـ"الموجة الجديدة" الفرنسية
(La Nouvelle Vague)
وخاصّةً
المخرج "جان لوك غودار" (Jean-Luc Godard)
الذي كان زعيم هذا التيّار السّينمائي.
"غودار" مُعْجب كثيرا بأعمال "مولي" الوثائقيّة ويعتبره أهمّ سينمائيّ
فرنسيّ في
هذالمجال.
أنجز "لوك مولي" أفلامًا وثائقيّة طريفة وعجيبة تمحورت أغلبها حول
ظاهرة الطّبخ والأكل وما تتميّز به من طقوس ومن عادات. كلّنا
يعرف شغف
السِّيمِيَائِي الفرنسي "رولان بارت"
(Roland Barthes)
بدلالات الطّعام وبتعبيراتها
وتجلّياتها المتعدّدة من حضارة إلى أخرى ومن شعب إلى آخر. دوّن
"بارت" ملاحظاته
الدّقيقة عن الطّعام في ثقافات الشّعوب الاستهلاكيّة في كتابه الشّهير "ميثولوجيات" (Mythologies)
الذي أصدره في أواخر الخمسينات. "لوك مولي" هو صِنْوُ "رولان بارت"
في الميدان السّينمائي، إذْ تتميّزُ جلّ أفلامه بنزعته التوّاقة إلى رصد
العلامات
النّاتئة التي تتعلّق بالأشياء وبالبشر. قاسمه المشترك الآخر مع "بارت" هو
اهتمامه
بالطّعام من خلال كلّ أصنافِهِ.
أوّل فيلم وثائقيّ صوّره "لوك مولي" سنة 1960
هو شريط قصير بعنوان "طبخ غير مُسْتَوٍ لشريحة لحم"
(Un Steak trop cuit).
يُدَقِّقُ المخرج، من خلال هذا الفيلم، عن أساليب
النّاس في الأكل وعن حركات
الأفواه والأيادي وكأنّه يريد استنطاق ماهيّة الجسد بالتّركيز على نهم
النّاس وعلى
شهواتهم وهم يلتهمون شريحة لحم. ما نلاحظه جليّا في هذا الفيلم هو اعتماد
المخرج
على النّكتة والسّخرية في تصوير أفواه النّاس والمعالق
والسّكاكين التي يستعملونها
لتيسير عمليّة قطع اللّحم قطعة بقطعة. ولإبراز هذه السّلوكيّات المأدبيّة،
يلجأ
المخرج مراراً إلى اللّقطات الكبيرة التي بفضلها نتبيّن ما يكتنف فعل
الطّعام من
حركات تبدو مقرفة وقبيحة. تتجلّى أناقة شخص ما أو همجيّته من خلال طريقته
في الأكل:
هذا ما أراد أن يقوله المخرج في هذا الفيلم
الاستهلالي.
الشّريط الذي عرّف بـ"لوك مولي" دوليًّا والذي مكّن النّقّاد والمهتمّين
بالشّأن السّينمائي والجمهور العريض ككلّ من اكتشاف فنّان ثاقب النّظرة
وطريف
الإحساس والتّمشّي هو عمله المأثور الذي صوّره سنة 1979 واختار
له عنوان "تشريح
أكلة" (Genèse d’un repas).
يطرح المخرج، في مشهد فيلمه الافتتاحي، سؤالا بسيطًا:
من أين يأتي سمك التنّ والبَيْض والموز الذي يُوَشِّحُ صَحْنِي؟ ينطلق من
هذا
السّؤال لكي يحقّقَ في دواليب الصّناعة الغذائيّة، وذلك ابتداءً من التّاجر
الذي
يتزوّد منه يوميًّا بالخضر والغلال واللّحوم. عماد السّينما
الوثائقيّة التي
يُحبُّها "لوك مولي" هو التّحقيق الدّؤوب الذي ينفذ إلى تفاصيل الأشياء
البسيطة
واليوميّة التي لا نتفطّن لها إطلاقا. يقوم المخرج بتفكيك اقتصاد غذائيّ،
مُقْتَفِيًا كلّ محطّاته من بلد إلى آخر ومصرًّا على كشف مصادر
الأكلات والوجبات
التي نتناولها يوميًّا.
أراد "لوك مولي" أن يجعل من فيلمه "تشريح أكلة" فحصًا
دقيقًا للعلاقة الشّائكة وغير المتكافئة بين المائدة الغربيّة
المهيمنة ودهاليز
العالم الثّالث الغذائيّة. بكثير من التّأنِّي والتّروِّي والذّكاء يتمكّن
المخرج
من فضح غطرسة الشّركات الرّأسماليّة التي تتحكّم في نظامنا الغذائي والتي
لا تتوانى
في بثّ سمومها في شعوب العالم الثّالث. ما يثير الانتباه حقّا
في هذا الفيلم هو
حضور المخرج كطرف أساسيّ في هذا التّحقيق المضني، وبذلك نتبيّن أنّ
السّينما
الوثائقيّة بالنّسبة إلى المخرج الفرنسي هي سينما ذاتيّة في جوهرها وفي
روحها،
تُصَاغُ من قِبَلِ "أنا" حاضرة ومتوقّدة لا تكتفي بمعاينة
المظالم وفضحها بل أيضا
تُبْرِزُ مدى التصاقها بالفوضى العارمة التي تُميّز العالم.
يقول "لوك مولي" في
هذا الصّدد: "لا أريد أن أكون سيّد القصّة التي تستهويني وأحرص على
تصويرها. ما
يهمّني هو توريط نفسي كفرد في انشقاقات هذا العالم وتناقضاته، أي أنّ
الفيلم
الوثائقي ليس بالشّيء المسطّر مسبقا بل هو فُتحة على الصُّدَف
المتتالية".
الجزيرة الوثائقية في
22/06/2010 |