من أهم الأفلام الوثائقية (أو غير الخيالية) التي عرضت في مهرجان كان
السينمائي
الـ63 فيلم "الفاعل من الداخل"
The Inside Job (والعنوان يشير إلى وجود ما يعرف
بطرف داخل المؤسسة يساعد أطرافا خارجية على سرقتها).
والفيلم يقع في ساعة و48
دقيقة، وهو من إخراج تشارلز فيرجسون، الذي برز اسمه عندما قدم
فيلمه الوثائقي الأول "لا
نهاية في الأفق" No End in Sight
عن الحرب في العراق قبل ثلاث سنوات. ولكن على
حين كان هذا الفيلم، الذي رشح لأوسكار أحسن فيلم وثائقي، يوجه انتقادات
شديدة
للسياسة الخارجية الأمريكية عموما، وللسياسة الأمريكية في العراق بوجه خاص،
يأتي
الفيلم الجديد لكي يسلط الأضواء، كما لم يحدث من قبل، على
الانهيار المالي
والاقتصادي في الولايات المتحدة الذي تسبب في الأزمة العالمية الاقتصادية
القائمة
حاليا.
يتجاوز الفيلم الجديد كثيرا ما صوره المخرج الشهير مايكل مور في فيلمه
البديع "الرأسمالية: قصة حب"، فعلى حين اكتفى مور بالعرض الساخر، والبحث في
"أعراض"
الأزمة، يتعمق فيرجسون في هذا الفيلم البديع، لكي يصل إلى أصل الفساد، من
خلال
التدقيق في تاريخ العلاقة بين وول ستريت، وبين المؤسسة السياسية الأمريكية،
ويوجه
في النهاية، بوضوح، اتهامات مباشرة بارتكاب جرائم، ليس فقط في حق الشعب
الأمريكي،
بل في حق شعوب العالم أيضا.
يبدأ الفيلم بلقطات مأخوذة من طائرة مروحية، ستتكرر
كثيرا خلال الفيلم، لناطحات السحاب في مدينة نيويورك، وبتركيز خاص على حي
المال، في
وول ستريت.
ويتساءل التعليق المصاحب بصوت الممثل الشهير مات دامون، كيف كان
ممكنا أن يحدث ما حدث، وكيف ترك المجال مفتوحا لسيطرة ثلاثة بنوك على تمويل
سوق
العقارات التي ارتفعت قيمتها ارتفاعا كبير وهميا، سرعان ما ثبت
أنه كان هرما من
رمال. وكيف كان ممكن أن يزداد حجم القروض في عام واحد بقيمة 120 مليار
دولار، وكيف
رفض وول ستريت أن يستجيب لكل التحذيرات التي صدرت من عقلاء السوق!
يقدم الفيلم
في مقتطفات سريعة، عددا من الشخصيات العديدة، من المسؤولين الماليين ورؤساء
البنوك
والأكاديميين ورجال السياسة، والمحللين الصحفيين والمحامين وخبراء
الاقتصاد، الذي
سيجري معهم المخرج حوارات من وراء الكاميرا، خلال سعيه لرسم صورة دقيقة
للكارثة
الاقتصادية التي وقعت أخيرا.
من هذه الشخصيات جورج سوروس، رجل المال والمضاربات السابق الذي ألف
كتابا
شهيرا بعنوان "النموذج الجديد للأسواق المالية" تنبأ فيه، أو بالأحرى، حذر
من
انهيار الأسواق على نطاق واسع وهو ما حدث بالفعل.
وهناك أيضا بول فولكر،
المستشار المالي في إدارة الرئيس ريجان الذي يتحدث عن خطة ريجان لرفع يد
الدولة عن
التدخل في الشركات المالية مباشرة باعتبارها أساس المصائب كلها. ويعود
الفيلم لكي
يروي القصة من بدايتها، أي عبر عقود من الفساد الإداري والمالي بل والسياسي
أيضا،
فيتوقف أولا أمام الأزمة الاقتصادية الكبرى 1929- 1933، ثم
الأزمة الثانية التي
وقعت في 1999- 2001، وصولا إلى الأزمة الحالية التي بدأت معالمها في
2008.
ويتناول الفيلم دور البنوك في عمليات غسيل الأموال لصالح أنظمة
ديكتاتورية
مثل نظام بينوشيه في الأرجنتين، ودور بنك "كريدي سويس" الذي ثبتت إدانته في
عمليات
غسيل أموال مما أدى إلى تغريمه 536 مليون دولار.
ويتوقف الفيلم أمام كون "سيتي
بنك" دفع في عام واحد فقط، مكافأة لرئيسه بلغت قيمتها 52 مليون
دولار.
ويشرح كيف
قاوم رجال المال ومسؤولو البنوك فكرة تدخل الدولة في مراقبة نشاط مؤسساتهم،
وتقاعسوا عن تطبيق القواعد والقوانين المنظمة لعمل البنوك، لكي لا يتحملوا
بالتالي
مسؤولية ما تجنيه أيديهم.
ويتعمق بعد ذلك في تحليل ما يسميه سوروس في كتابه
بـ"الفقاعة الكبرى" من 2001 إلى 2007، أي تلك الطفرة التي ثبت أنها كانت
وهمية،
التي وقعت في سوق العقارات الامريكية، والدور الذي يعتبره "إجراميا" للبنوك
وشركات
التأمين، في الإقراض بدون ضمانات حقيقية. ويشرح آلية الإقراض بواسطة الرسوم
والأشكال البيانية، ويمزج بين اللقطات الوثائقية، والصور
الفوتوغرافية، والمقابلات
المصورة، والتعليق الصوتي من خارج الصورة على تلك الصور، ويردد الكثير من
الأسئلة (الاستفزازية) التي نسمعها بصوت المخرج
نفسه، الذي كثيرا ما يعجز الطرف المستجوب عن
الإجابة عنها، ويرفض البعض منهم، الإجابة أو يطلبون وقف
التصوير، أو يتلعثمون
بطريقة مضحكة. ومن بين الذين رفضوا الظهور في الفيلم، على سبيل المثال،
وزير
الخزانة الأمريكي السابق لاري سومرز، ومحافظ صندوق النقد الدولي بن برنانكي
والمسؤولون في بنك ليمان، الذين يقول الفيلم إنهم يمتلكون ستة
طائرات
خاصة.
ويستجوب المخرج بعض الأكاديميين، أي أساتذة الجامعات الذي يكشف تورطهم
في
العمل كمستشارين للبنوك وشركات المال، وكيف أن النشاط المزدوج الذي يقومون
به،
يتعارض مع واجبهم في الوقوف إلى جانب الحقيقة في ساحة العلم، ويكشف أيضا
كيف يتورط
أعضاء في الكونجرس بل وداخل الإدارة الأمريكية في أعلى مستوياتها، في العمل
لحساب
البنوك والدفاع عنها والتقاعس عن تطبيق القانون إزاء ما تدور
الشكوك في ارتكابه من
مخالفات ترقى كما يكشف الفيلم، إلى مستوى الجرائم. ويكشف الفيلم علاقة نائب
الرئيس
السابق ديك تشيني بعالم المال، ووقوفه ضد فرض اي قيود على حركة البنوك.
ومن أطرف
ما يصوره الفيلم لقاء مع أحد الأطباء النفسانيين الذين يتولون علاج كبار
رجال
المال، وهو يتحدث عن نمط حياة هؤلاء الأشخاص، ويقول إن المركز العصبي
الموجود في
المخ الذي يدفع المرء عادة إلى البحث عن المال بأي ثمن، هو
نفسه المركز العصبي
المسؤول عن إدمان الكوكايين. ويضيف إن رجال شركات المال لا يقيمون اعتبارا
كبيرا،
لعواقب ما يقومون به، فالمال قوة دافعة عمياء.
ويلتقي المخرج أيضا بمديرة بيت
دعارة تتحدث عن الخدمات التي قدمتها لكبار رجال البنوك مقابل
10 آلاف دولار في
الساعة، وتروي كيف كان "الزبائن" يحضرون في سيارات فارهة، ويدفعون النفقات
المطلوبة
من حسابات شركاتهم.
ويكشف الفيلم بدقة، كيف تمنح درجات التقييم لشركات التأمين
من جانب وكالات متخصصة في منح هذه الدرجات ratings
بحيث ترفع الشركة من نشاطها كلما
ارتفعت قيمة درجاتها في السوق، وتصبح قادرة على جذب مزيد من المستثمرين،
وكيف أن
المستشارين العاملين لدى هذه الوكالات هم أنفسهم يتاقضون مكافآت من شركات
المال
والبنوك!
ويتهم الفيلم الحكومة الأمريكية بشكل مباشر بتعميق الأزمة، ويروي كيف
استقال محافظ البنك المركزي الامريكي قبيل الانهيار الكبير دون أن يتعرض
بعد ذلك
للمساءلة، مع احتفاظه بكافة مكافآته المالية، وكيف أن رؤساء
البنوك التي تهاوت مثل
ليمان الذين كانوا دائما يرفضون اتخاذ أي إجراءات لحماية مؤسساتهم من
الانهيار
ووقف المبالغات والمضاربات، لم يتعرض أحد منهم للمساءلة الحقيقية رغم ما
ثبت من أن
الارتفاع الكبير في حجم الاستثمارات كان ارتفاعا زائفا ومصطنعا ومدفوعا
بالشراهة
للارباح دون أي حساب للجانب الأخلاقي وللدور الاجتماعي.. ويعود
الفيلم إلى ناطحات
السحاب على خلفية موسيقية مثيرة، كما لو كان يشير إلى احتمال انهيارها هي
الاخرى،
مثل كومة من الرمال.
وينتقل بعد ذلك إلى الجانب الآخر، إلى الفقراء الذين كان يتعين عليهم
أن
يدفعوا الثمن. لقد فقد 2 مليون عامل صيني وظائفهم. وأغلقت 6 مليون شركة
أبوابها في
الولايات المتحدة وينتظر أن تغلق 9 مليون شركة أخرى. وفي
أيسلندا افلست الدولة
تماما بسبب فساد سياسة البنوك الثلاثة الرئيسية التي اقترضت بدون حساب من
البنوك
الاجنبية ويكشف كيف ساهم مستشارون واكاديميون يعملون لحساب البنوك
الامريكية، مثل
فريدريك ميشكين، في كتابة تقارير لحساب غرفة التجارة
الأيسلندية، تشيد بالقطاع
المالي هناك على الرغم من معرفتهم بالكارثة المحدقة. ميشكين مثلا، حسبما
يقول
الفيلم، تقاضى 124 ألف دولار مقابل كتابة التقرير.
ويصور الفيلم سكان الخيام في
فلوريدا الذي فقدوا منازلهم بعد أن عجزوا عن سداد تلك الفواتير
الباهظة التي حملتهم
إياها شركات الإقراض. ويجري مقابلات مع عدد من المتضررين، ويبحث بالتفصيل
كيف كذبت
عليهم شركات الإقراض، ثم فاجأتهم فيما بعد بفواتير باهظة لم يتمكنوا من
دفعها،
ويلتقي أيضا بمتزعمي الحملة المدنية ضد شركات الإقراض لحساب
هؤلاء مشردين.
يشرح
التعليق الصوتي كيف أن مديرا واحدا لأحد البنوك، حصل على 90 مليون دولار
كتسوية قبل
أن يقدم استقالته، وكيف أن 200 شخص من مستشاري البنوك يحصل كل منهم شهريا
على مليون
دولار، كما تدفع شركات المال 5 مليار دولار سنويا كمكافآت!
ويشرح كيف استفاد
الأثرياء من خفض الضرائب في عهد الرئيس بوش، وكيف أصبح 1 في المائة من
الأمريكيين
يحصلون على 23 في المائة من الدخل القومي، ويكشف بالتفصيل كيف أن كل من
اختارهم
الرئيس أوباما، كمسؤولين عن الاقتصاد الأمريكي، هم من الذين
تدور حولهم شبهة
التعاون مع الشركات المالية والمتسترين علىالفساد المالي، بدليل رفضهم
جميعا تقديم
أي من مديري تلك الشركات للمحاكمة حتى بعد أن ثبت وجود خرق للقوانين.
إيقاع
الفيلم سريع، وصوره ولقطاته شديدة الجاذبية، ورغم الكم الكبير من المعلومات
والشهادات التي تقدم من خلال المقابلات الحية، إلا أنه يتميز بالوضوح
الفكري،
والسلاسة في العرض، بسبب خبرة المونتيرين تشاد بيك، وآدم بولت.
ورغم المادة
المعلوماتية الكثيرة غير أن الفيلم يعرضها بشكل منظم، فالمخرج يقسم فيلمه
إلى أربعة
فصول يمنحها عناوين محددة هي "كيف وصلنا إلى هذا الوضع"، و"الأزمة"،
و"المسؤولية"،
و"أين نحن الآن".
يقول المخرج تشارلز فيرجسون: بدأت أفكر في الموضوع في منتصف 2008
بعد أن قرأت كتاب "ذوبان تريليون دولار" لصديقي الذي يظهر في الفيلم،
تشارلز
موريس، وتصورت أنه كان يبالغ، ولم تكن لدي خبرة في القضايا الاقتصادية، ثم
تحقق ما
تنبأ به".
ويمضي قائلا: " أعتقد أن المشكلة تكمن في رفع يد الدولة تماما عن
التدخل في البنوك. وقد بدأت هذه السياسة عام 1980، مما أدى إلى ظهور ما
يمكن تسميته
بدون أي مبالغة، النشاط الإجرامي، سواء من الناحية الحرفية، أي
مع مخالفة الكثير من
البنوك للقوانين، والبعض منها صدرت ضده أحكام كما يظهر بالفيلم، أو من خلال
ما أصبح
سائدا من ثقافة التحلل من أي قيود على التصرفات في قطاع عمليات الاستثمار
المصرفية".
تشارلز فيرجسون المخرج من مواليد 1955، حاصل على الدكتوراه في
الرياضيات من جامعة كاليفورنيا، قضى بعد ذلك ثلاث سنوات في دراسة العلاقة
بين
العولمة والتكنولوجيا والسياسة الحكومية، عمل مستشارا لجهات
عديدة منها البيت
الابيض، ووزارة الدفاع، ومن عام 1992 إلى 1994 عمل فيرجسون مستشارا لعدد من
شركات
التكنولوجيا مثل "أبل" و"زيروكس" و"موتورولا"، ثم أسس شركة "فيرمير" التي
تمكنت من
ابتكار أول برنامج لتصميم المواقع الالكترونية هو "فرونت بايج" الذي باعه
إلى
مايكروسوفت بمبلغ 133 مليون دولار. وفي منتصف 2005 أسس شركة للإنتاج
السينمائي
أنتجت أول أفلامه "لا نهاية تلوح في الأفق" الذي حصل على
جائزتي نقاد نيويورك ولوس
انجليس كما رشح للأوسكار. وألف فيرجسون أيضا عدة كتب منها "أرصدة مرتفعة،
لا سجناء:
قصة الجشع والمجد في حروب الانترنت"، و"حب
الكومبيوتر: العالم ما بعد آي بي
إم".
الجزيرة الوثائقية في
16/06/2010 |