يتجاوز عرض فيلم «عسل أسود» لأحمد حلمي (من إخراج خالد مرعي) مجرد كونه
موعداً صيفياً لإطلالة نجم الكوميديا المصري، وهو فيما يقوم الدراما على
مفارقة الصور الملتبسة لمصر في عيون شاب هجرها طفلا الى الولايات المتحدة،
يبدو أقرب الى زاوية تأمل خاصة بهوية مصر وأكثر من مجرد حبكة دائرية قائمة
على «كوميديا سوء التفاهم» التي تحتفي بعودة المصري الأميركي الى رشده
وإختياره المكوث في مصر في مشهد النهاية، الفيلم بمجمله هو محاولة مشروعة
للإجابة عن «سر مصر» الدفين الذي يجعل أبناءها يحملون همومها حول العالم
وقد ضربوا لها موعدا كمقبرة في نهاية الطريق، هكذا مثلاً يتعجب العم جلال
مصور الفوتوغرافيا الحامل لحكمة يسميها «الحمد لله» وهي تميمة «الغلب
المصري الأصيل» الذي يجعل المصري - هكذا - يقولها رداً على سؤال «كيف
الحال»، كسؤال لا يتطلب في الغالب أكثر من تلك الإجابة البروتوكولية التي
تتضمن معنيين، الأول، لست على ما يرام، والثاني، أن هذا أفضل مما هو أسوأ،
أفضل من المجهول.
بالعودة الى الفيلم، يراهن نجم كوميديا تجارية ناجح جماهيرياً، هذه المرة
على فيلم سياسي، وهو كان في فيلمه الأخير «ألف مبروك» قد بلغ مبلغا من
الحماقة التجارية (وفقاً لمعيار السوق) بأن قدم فيلماً هذيانياً جاداً،
تنبع فيه الكوميديا من ميلودراما عنيفة، فيلم سوداوي مقتبس من فيلم أمركي
شهير حول الزمن الدائري والإختيار، حيث يعاود بطل «ألف مبروك» الإستيقاظ كل
مرة صباحاً لتسير حياته قدماً نحو صدفة الموت، يستيقظ من الحلم في لحظة
الموت ليبدأ دورة جديدة من الإختيارت حتى موت آخر، وهكذا، كان أحمد حلمي
بهذا الفيلم يراهن لأول مرة على فكرة جدية ليست جديدة، لكنها تبدو معياراً
وتحدياً خاصاً في ان يكون دراميا كوميديا في آن معاً. ومن ضحكوا بملئ
الأشداق إنهمرت دموعهم في موته الأخير والحقيقي.
هذه المرة يبدو الفيلم ذا منحى سياسي بالدرجة الأولي، ليس فقط وفقا لتسميته
الأصلية «مصر هِيِّا أوضتي (مصر هِيِّا غرفتي)» الذي إعترضت عليه الرقابة،
بل أيضا بإشكال الهوية وتعريفها الذي ينطرح منذ مشهده الأول، حيث يعود
«مصري السيد عربي» الى مصر، وهو من الطائرة يسترجع مشاهد مجدها الزائل في
سينما إسماعيل يس، حين يشغل أحد أفلامه على شاشة اللاب توب، ينتبه مجاوره
في المقعد فيبدأن التعارف، الأول (مصري سيد عربي) مصور فوتوغرافي يحمل
الجنسية الأميركية ومن أصل مصري، عائد الى وطنه لأول مرة منذ عشرين عاما،
وقد شحن نوستالوجيته بالأفلام والمسلسلات المصرية عن بعد، انه قادم الى مصر
بغرض تصوير لقطات قد تصلح لمعرض في أميركا مع إختبار إمكانية عودته
النهائية، الثاني مصري أميركي كان في زيارة عمل الى الولايات المتحدة يتهكم
من البطل المصمم على إستخدام جواز سفره المصري بدلا من الأميركي. عند هذه
اللحظة يظهر إتكاء الدراما الأولى حول الجواز المصري والجواز الأميركي كما
قدمته إعلانات حملة الترويج، و»مصري» منذ لحظة خروجه من المطار يرصد كيف
تتحول المعاملة معه بمجرد إدراك الأخرين لكونه مصريا، أو لكونه دون جواز
سفر أميركي، يظهر ذلك مع سائق الباص، في الفندق، عند سفح الهرم، وصولا الى
مشهد تصويره لكوبري قصر النيل حين يتم القبض عليه لمجرد إلتقاطه صورا في
الطريق العام دون تصريح، يبرز الفيلم العنف العادي الذي تتعامل به الشرطة
مع المواطن المصري، يدرك «مصري» المصدوم بفضاء العنف والإبتزاز العام في كل
مكان، لمجرد عدم إصطحابه لجوازه الأميركي. ومع إزدواج معايير من حوله، يرسل
في طلب جواز سفره الأميركي، يصل إليه فتتحول زاوية الرؤية لديه 180 درجة،
لدرجة أن كلب الحراسة على باب الفندق يخاف منه بمجرد إشهاره للجواز! وعندما
يتحرك لأول مرة للدفاع عن سائق الميكروباص الذي صدمته سيارة مسؤول من
الخلف، يورطه الضابط المسؤول في إشهار جنسيته الأميركية أمام مظاهرة
لإسلاميين ضد أميركا، ساعتها يترك الضابط مهمة قمعه وتأديبه على أميركيته
الى غيلان المتظاهرين، ينتهك ضرباً وسحلاً ويكتشف ضياع جواز سفره الأميركي
والمصري، يقضي أياماً متسولاً في الشارع، يعطف عليه الناس، فيأكل في موائد
الرحمن، يتسكع هائما على وجهه محاولا الوصول الى نمرة سائق الميكروباص الذي
تركه فيما الأخير يدافع عنه ضد الشرطة، يصل الى سائق الميكروباص الذي ينقذه
للمرة الثانية (بعد أن ضمنه أولا في قسم الشرطة)، يبحثان عن بيت العائلة
القديم، وبعد جولة يصلان الى منزل في حارة شعبية، تتعرف عليه أسرة جارة
فيدخل حياتهم ويشاهد عن قرب مصر أخرى.
خلال النصف الأول من الفيلم(المحكي أعلاه) تبدو حركة البطل متمحورة حول
الضياع الذي يعيشه شخص مجهول وغفل، عندما تلقي به الأقدار في مدينة ملاهي
مجنونة. الكوميديا القائمة على سوء الفهم والإكتشاف المتتالي لزيف تصوراته
عن مصر تبدو توطئة لما سيحدث بعدها، حين تتحول حياته من مجهول الى شخص يلقى
إعترافاً بوجوده على يد الأسرة الجارة، والسيناريو في ذلك التمفصل البنائي
يعيد تعريف الهوية المصرية وفقا لنموذج أن الفقراء المصريين هم مخزن القيمة
الذي بات يعطي لمصر مفهومها، حيث تتضح وتنجلي متتاليات سوء الفهم، ويتفهم
الغريب أخيراً عبر النقاش مع أفراد الأسرة وجيرانها ماذا حدث في مصر،
السيناريو في ذلك يعلي من تبلور القيم الصافية لمصر والمصريين وقد تحولت
قيمهم الشهيرة الى قيم يعاد تعريفها تحت كيمياء القمع والتخلف، وتنقلب
الصفات الى ضدها، فـ»الإجتهاد» يعد تحايلا، و»الصبر» يعد جبنا، و»الرضا»
تعبيراً عن الإستكانة، و»التكاتف» هو في أصله تواكلاً، و»الإيمان بالقضاء
والقدر» يتحول الى سيكولوجيا تسليم بلا شرط للمجهول المعلوم في تلك الحالة.
هنا يحدث الصدام وكأنه صدام مفاهيمي، تتنازع شرعيتا (الهنا والهناك)
تعريفه، فما يحتسب هناك»في أميركا» لا يُرى بالعين ذاتها هنا في «في مصر».
الميل الى إعتبار الفقراء مخزنا لتعريف هوية مصر هو ميل تقليدي موروث من
حقبة إبداع الواقعية الإشتراكية، وهو هنا (في حالة الفيلم وبطله) يعد نكوصا
على التيار الجديد للسينما التجارية الذي يرى في تحولات الفقراء (نحو مزيد
من التهميش والرثاثة والجهل) متحفاً أركولوجياً قابلاً للتسويق، حيث تحولت
البيئة الشعبية الى «فاترينة» يتنازعها خطابان تجاريان كبيران ومؤثران في
السوق، الأول يدعي أنه سينما مهمومة بالفقراء والعشوائيين فيما هو يقدم
بلغة بصرية تعالياً عنيفاً عليها فيلعب دور ناقوس الخطر للشرائح الأخرى،
منقلباً على ادعائه (نموذج خالد يوسف في أفلام حسين ميسرة، هي فوضى، كلمني
شكرا)، والثاني مرتبك الهوى، يؤصل بحس تجاري شبه تفاخري لركاكة النموذج
الشعبي وعجائبيته، وإن لم يعدم وسيلة أخلاقية دينية لمحاكمته ونقده، كما
نموذج المخرج سامح عبد العزيز في فيلمي «كباريه» و»الفرح»، ويشاغب من بعيد
لبعيد تيار ثالث من ورثة جيل الواقعية الجديدة يمثله مجدي أحمد علي (في
فيلمه عصافير النيل) الذي يطرح نموذجا كلاسيكيا فقير الإيديولوجيا
والتكنيك، لتبريره مآلات ماحدث لتلك الطبقة مستندا على تبسيط مخلٍ لترييف
المدينة ومَدْيَنة الريف.
يعد فيلم «عسل إسود» كسراً متعمدا لذلك التشكل، بل إن بطله الذي عرف
النجومية في أفلام تم تمويه طبقة بطلها عن عمد (كما يظهر في فيلم ألف
مبروك، آسف على الإزعاج) أو مُوِّهت عن عمد فيها ملامح إنتماءه للطبقة
الوسطى الجديدة، يبدو منحازا لكليشيه لا تخلو من نقد ذاتي، فهو في إطار
محاضرة «جلال» الكهل الفوتوغرافي الذي ينتقده على نقده الدائم لمصر
ومقارنته بين هنا وهناك، يرد منطق»الرضا وتأمل العبقرية الكفاحية للأسرة
التي أستضافته» بتحديد دقيق لتهافت هذا الخطاب، حين يعدد له كيف أن هذا
«اللغو» لن يفيد «بكري» الأسرة «سعيد تختخ» المتبطل في سن الثلاثين، والأخت
المتزوجة من موظف، وتشارك أهلها الإقامة، من تكرار سيناريو التعفن فقراً.
عند هذه الذروة في إنتقاد منظومة المصريين الحقيقيين أو هدم أسطورة العسل
الإسود. يتخيل المشاهد ان كشف سيكولوجيا التحايل المصري سيحدث إختلافا في
سلوك البطل، فالبطل الذي رفضت الولايات المتحدة إعطاءه تأشيرة العودة على
جواز سفره المصري، والبطل الذي يدفع ثمن مصريته «مرمطة» بين جوانب
البيروقراطية المصرية، يكتشف أن في قلب سواد عسله ثمة نقاط إيجابية. في
موظف الجوازات الذي يرفض الرشوة، في إصرار الأم على تبنيه مادياً كإبنها،
في إنفكاك أسارير زوج الأخت، الذي عاداه الأخير من أول لحظة بعد أن سمح له
البطل بخلوة في شقته. والبطل في تلك الرحلة من «إلتقاط النذر القليل» من
النقاء المصري، يتحول من دون وعي الى مصري بالمعني لا بالإسم، فهو يتبول
فجأة على الرصيف، ثم ها هو يجلس متباسطا مع نسوة المنزل مدليا برأيه في
ثرثراتهن النسوية، ثم هو يستطيع الآن ان يتحدث بـ»إفيهات القطع» الشعبوية
الشبابية (طريقة في التقفية على الكلمات الحوارية العامية بإستخدام
المشابهة الحرفية بين كلمة وأخرى من سياق آخر).
المدهش أن معنى «المصري» وفقا لمتتاليات التحول في الشخصية يقتصر على
الإستسلام الطوعي للدفء كما يسميه البطل، والدفء كما لم يسمه البطل وإن
عبّر عنه مشهديا يتجول في ضباب تفاؤل وجودي عنيف بأن الحياة ستستمر، حتى
ولو في أسوأ الظروف، وهو ملخص ثقافة «الحمد لله» الشهيرة والتي تستزيد على
مايبدو من حكمة دفينة تجمع في طياتها أبدية الإنسان المصري وثباته المفترض
في أعلى لحظات المد أو الجذر، مع الإيمان العقائدي الدفين والمستحدث بفعل
التدين الجديد بأن مجمل الحياة مجرد محنة تنتظر الفرج.
رغم ذلك، لم يسقط أحمد حلمي والسيناريست خالد دياب والمخرج خالد مرعي في
كمائن تقليدية منطقية في حال صراع الهوية والغيرية، وما اسهل ذلك في حال
إزدواج الجنسية المصري الأميركي، فالمخيلة الشعبوية قابلة بل ومتشوقة
للإنتقام من أميركا. بل على العكس، يفصل تماما بين الروح التمييزية التي
تتعامل بها الشرطة وبين ذلك الشوق للكراهية في نسخته الشعبية، فالعم جلال
يعترف بأن الـ»هناك» ليس سيئا كما نعتقد، بل يشير السيناريو في مشهد رجال
الشرطة الذين يؤلبون عليه المتظاهرين عبث وسائلية إستخدام كراهية أميركا في
الصراع السياسي، فالمظاهرة تنفض فوراً فوق جسده المعتدي عليه، أي بعد ان
أفرغ المتظاهرون طاقتهم في شخص أميركي، والشرطة التي كانت تمنع المتظاهرين
وتقمعهم ألقت لهم بالأميركي المتخيل كعضمة الكلب فيما وقفت تتفرج عليه.
بل لا يخلو الفيلم من توريات ثقافية مجتمعية نقدية مهمة، فالعائلة وعلى عكس
معظم أو أغلبية الأسر المصرية الآن - لاتتضمن بين نساءها الثلاث أي محجبة،
في حين يصلي الذكور صلاة أقرب لمواصفات التدين المصري العادي، صلاة منزلية
منفردة، ويظهر تشدد زوج الأخت - والذي تتم السخرية منه في لقطة من أجمل
لقطات الفيلم- تشدداً أقرب لمنطلقات المحافظين القدامى الذي يعبر عن خوف من
الغرباء أكثر منه إستسلاماً لنصوص ملزمة، والفيلم في ذلك ينتصر لرؤية أن
التشدد والمحافظة جزء من إكسسوار فقر الفضاء والمخيلة في تلك الطبقات
وتعبير عن محاولة للإندماج في جسد عام، وربما سيلتقط المتشددون لقطة سيشنون
عبرها حرباً ضروس على الفيلم، على الرغم من خفتها وإستعصاءها على فهم
الجمهور التجاري، وهي اللقطة التي تظهر فيها بنت في سن الطفولة تذهب الى
عربة الفول لشراء أرغفة العيش فيناولها «مصري» فتخلع الإيشارب الملفوف على
هيئة حجاب كي تحمل فيه الأرغفة الساخنة.
التوريات السابقة والمبثوثة بعناية جنباً الى جنب مع إدانة السلطة القمعية
توفر المشهد المناسب، يعني ضمنياً أننا أمام خطاب يحاول التعامل بجدية حتى
ولو كانت الوسيلة كوميدية مبسطة، وهو قادم لأول مرة من خارج مجتمع الإنشغال
السياسي المحترف، أو عبر رديفه المسمى بسينما الوعي، تظهر التوريات
والأسئلة هكذا في سينما تجارية ما أسهل فيها الرهان على الشائع والمبسط
والمخل، ورغم أن الفيلم لم يكد يقدم إجابات، بل إنه يحمل مجمل الأسئلة
بطاقة تشوشها في الوعي الأدنى، إلا أنه يحمل مؤشراً لاختمار أسئلة الهوية
عند قطاع منتج لخطاب جديد، قطاع هو جزء من صناعة سينمائية غالباً ما
أستسهلت بل وتواطأت على عدم طرح أي أسئلة من الأساس، خطاب لايتعامل مع
رافعة ثقيلة من الوعي، بل يكاد يكون «وعي الحد الأدنى»، الذي ما عادت أعلام
مصر المتسخة في الطرقات وفي المناسبات الجمعية تشفي غليله في فهم ذاته.
السؤال تحديداً، وإذا ما قدر توصيفه شرائحياً، هو سؤال يأتي من شريحة
سينمائية هي إبنة المزايا الطبقية التي أنتجها خطاب الهوية الرسمي منذ
سنوات.
وليس أدل على تمثلات الفيلم لسؤال الهوية من مشهد «تيتر» النهاية المتتابع
مع أغنية تحمل تساؤلاً عن معنى مصر، «التيتر» جاء على هيئة صور فوتوغرافية
وثائقية لبسطاء مصريين، أشبه بنهاية لفيلم تسجيلي، بل إحتوى شبه مقابلات
أجراها البطل مع بعض العجائز والمعوذين. في أحدى تلك المقابلات يتحدث
مراكبي عن معنى الموت في تراب مصر، يسأله أحمد حلمي «هل ستشعر بعد الموت
بتراب مصر» فيرد الرجل بثقة: نعم.
المستقبل اللبنانية في
06/06/2010
إياد الداوود في «فن الحياة» الفلسطيني لا يحضر إلا بدمه!
بشار إبراهيم
هذه المرة كان للدم التركي أن ينساب على وجه مياه المتوسط ليعود بالقضية
الفلسطينية، ويستحضر فلسطين المحتلة، والفلسطيني المحاصر.
لم يعد للمتوسط أن يتباهى بأنه «أبيض». ربما شابته بعض الحمرة. دم إنسان
واحد يكفي، فماذا لو كانوا تسعة، أو تسعة عشر؟!..
إنه الدم مرة أخرى إذاً!
هاهو يعيدنا مفجوعين، مرة أخرى، إلى زمن القتل الإسرائيلي، الذي تمارسه
ببرودة أعصاب، وهو لم ينطفئ أصلاً، ولم ينقطع.
ولكن، لعل الدم الفلسطيني، ذاته، لم يعد قادراً على تحريك العالم، وقد بات
وجبة يومية على موائد العالم المرئية، على الهواء مباشرة. فهل يستطيع الدم
التركي فعل ذلك؟
هل يمكن له أن يردنا إلى وعينا وقد غفلنا. وإلى استقامتنا وقد ملنا، وإلى
حقيقتنا وقد تهنا، وإلى صورتنا وقد هشمناها!
و»أسطول الحرية»، كان ينوي مدّ شريان «حياة«، إلى من هم محاصرون بالموت،
والقتل، والتدمير، إن لم يكن بالرصاص والنار، فبالجوع والعوز، بقلة الغذاء
والدواء، والسكن في العراء!..
وأولئك العابرون على متن «أسطول الحرية»، كانوا يعرفون أنهم يجتازون مفازة
الموت الإسرائيلي، التي تتمطى في البر والبحر والجو.. ولكن، لعلهم أملوا
بأن الموت الإسرائيلي لن يطالهم، ولن ينال منهم أحداً.. لعلهم توسموا بقليل
من خجل، يلجمه!.
قبل يوم 31/5/2010، بكثير. ربما بنيف وستين سنة، أمل الكثيرون من
الفلسطينيين أن يكونوا بمنجاة من القتل الإسرائيلي!.. فبُهتوا، وخُذلوا،
وتردّوا على سفح الموت، صاعدين إلى مناياهم، دون رغبة منهم، ودون إرادة..
قتلوا، تماماً حتى وصلوا إلى أقسى وأقصى درجة ممكنة؛ أن يذهبوا إلى حتفهم
راضين، آخذين عدوهم معهم، لعلهم ينحتون ثقباً في جدار الموت، يمرر أجيالهم
القادمة إلى «الحياة«.
لم نعرف، حتى اللحظة على الأقل، أسماء من منحوا دمهم لمياه المتوسط. ما
رأينا ملامحهم، ولا عرفنا أي حيوات تركوها في بلدانهم، قبل أن يرموا تلويحة
الوداع، على حافة البر الأوروبي، مبحرين إلى شطّ غزة!..
لعلهم كانوا يأملون أنفسهم بالظفر في جولة لصالح «الحرية»، ضد أنياب الموت
المتجلي على هيئة حصار إسرائيلي!.. فأضحوا قرابين على «مذبح الحرية»،
معيدين الإسرائيلي إلى سيرته الأولى: قاتل بامتياز!..
***
لعل من أدنى مهمات الفيلم التسجيلي أنه يغدو وثيقة لا يفت من عضدها مرور
الزمن، وتتالي الأيام، وفيض التحولات والتغيرات السياسية.. وإن كان لهذه أن
تفقد الفيلم راهنيته، وتحيله إلى حقل الذاكرة، وتجعل مهمته لدى كل مشاهدة،
لا تتجاوز شأن استرجاع نبرات مرحلة مضت، بكل ما كان فيها من أحداث،
ومقولات، وشخصيات، وربما سجالات ونقاشات ومصائر.
الفيلم التسجيلي، على هذا النحو، يبدو كأنما هو يوقف الزمن عند لحظته،
تماماً كما في فلسفة الصورة ذاتها، لنعود إليها لدى كل مشاهدة، فتفيض
أمامنا من جديد، راهنة، وقد باعدت المسافات بيننا، وجرى نهر من الوقائع
التي يمكن أن تجعل من أمر ما نافلاً، وقد قالت بصدده الأيام قولتها، كما
يمكن للوقائع ذاتها أن تجعل من أمر آخر قيد الاستعادة التاريخية، التي تأتي
مرة على شكل مأساة، وأخرى على هيئة أكثر مأساوية.
في زمن الدم التركي، نعود إلى فيلم «فن الحياة» للمخرج إياد الداوود،
لنتأمل في وجوه فلسطينية، أقبلت على الحياة، فصدَّها الموت، حتى اختاروه
سبيلاً إلى الحياة.. وما أصعب أن يكون الموت سبيلاً للحياة؟!.
«يدخلون الدنيا.. يعيشونها بهدوء.. يخرجون منها.. يودعونها بصخب«، هكذا
يقدم فيلم «فن الحياة« إخراج إياد الداود، نفسه مباشرة، وهو يعتزم الحديث
عن أولئك الذين أثاروا الأسئلة والدهشة، بما أثاروه من صخب، وأشعلوه من
جدال أخلاقي وسياسي وعقائدي، وهم يغادرون هذه الحياة على إيقاع الانفجار.
«فن الحياة»، فيلم وثائقي (مدته: 50 دقيقة)، يكاد يمثل المحاولة الفريدة
فلسطينياً للتعرف على وجوه منفذي العمليات التفجيرية، باعتبارها «عمليات
استشهادية«!.. ينطلق الفيلم من مسلمات ترقى إلى البدهيات، فلا يلتفت
إطلاقاً إلى ما رافق تلك العمليات من مواقف متناقضة بين مؤيدة ورافضة، ولا
يأبه بفتاوى دينية، أو مساجلات فكرية، أو أطروحات سياسية اقتصادية..
الفيلم لا يريد لنفسه إلا أن تعزز الوقائع والتفاصيل مقولته المتمثلة بأن
«الموت يمكن أن يكون معبراً للحياة«، وذلك باستلهامها من ثنايا حياة
الاستشهاديين، وتجاربهم، بالدخول إلى غرفهم، وفتح أدارجهم، والمرور على
دفاترهم، والتأمل في أشيائهم..
يبتدئ الفيلم بمقتطفات متعددة من وصايا الاستشهاديين. الوصايا تتنوع بادئة
بآي من الذكر الحكيم، لتمر على الشوق للجنة، والسعي في سبيل الله، والظفر
بالحور العين.. وتنتقل إلى الرغبة في تحطيم السور الواقي، وردع الغطرسة
الصهيونية، وإظهار عظمة وعزة الاصرار والجهاد، وإلقاء تحية السلام على
الأهل.. ولا تنتهي عند شتم الجيوش العربية النائمة!.. وعلى مدى هذه القوس،
تتوزع الرغبات والدوافع التي حدت بنفر من الفلسطينين إلى تحويل أجسادهم إلى
قنابل موقوتة، ويذهبون إلى مناياهم طائعين!..
والفيلم وهو يثير سؤاله الأساس: «من أين يأتي هؤلاء؟.. لماذا يموتون؟.. كيف
يجرؤ إنسان على أن يفجر نفسه؟.. كيف تصبح المسافة بين الموت والحياة كبسة
زر؟«.. يترك مساحته لأحاديث وشهادات وتصريحات أمهات وآباء وأشقاء وشقيقات
وأصدقاء ومعارف الاستشهاديين والاستشهاديات، ليعيدوا رسم صورة من رحلوا.
مجموعة مختارة من أبرز الاستشهاديين، وأحاديث تبرز سمات كل منهم. كما عرفه
أهلوه وأصدقاؤه ومعارفه.. وكما ترك آثاره في مفردات الحياة اليومية
ووقائعها.
تتحدث والدة إسماعيل المعصوابي، مستذكرة ابنها: «أخلاقه عالية.. ممشاه
طيب.. من المدرسة إلى البيت والجامع.. صلاته لم تنقطع من عمر 7 سنوات«..
أما والده فيقول: «فيه من أخلاق الصحابة.. كان يداوم على الصلاة، والنوم
طاهراً.. مطيع لوالديه«.. ولن تنسى والدته الإشارة إلى أنه: «كان رساماً
وخطاطاً.. كان من الأوائل في هذا المجال في الجامعة«.. وتذكر شقيقته أنها
ذات مرة قالت له: ألا تريد الزواج؟.. فقال لها إنه يريد الزواج ممن تحفظ
القرآن.. وسنجد من يذكر أنه باع سيارته، وأنفقها على الايتام..
هذه الصورة المترعة بالإيمانيات، والروحانيات، والسلوك القويم، والقيم
الأخلاقية الرفيعة، من جهة، والمطرزة ببعض من الرغبات والهوايات والطموحات
الإنسانية، وما يكون لكل البشر، سوف تستغرق الكثير من كلام الفيلم. بينما
سينتبه البعض إلى تفاصيل حياتية، على قدر من الطرافة.
والدة الاستشهادي هاشم النجار، تذكر بشيء من الطرافة عن ابنها: «فشرت امرأة
تطبخ مثل مقلوبته.. كان يطبخ لأهله.. كان يحب الطبخ«، بينما مدير الجمعية،
يقول عنه: «أحب أن يعيش من عمله.. عمل في الخيرية الجمعية الاسلامية، وعايش
الأيتام.. كان قمة في عطائه، وطيب الخلق«..
الاستشهادي حامد أبو حجلة، تروي والدته: «اليهود حطوا قدامه كل الصعوبات..
ضيعوا عليه أول سنة بالتوجيهي.. اعتقلوه أول يوم بالامتحانات.. ضيعوا عليه
فصل بالجامعة.. اعتقلوه.. ومع ذلك لم ييأس«.. أصبح المهندس المعماري، رئيس
كتلة الاسلامية في كلية الهندسة، وعضو مجلس اتحاد طلبة جامعة النجاح..
سيمضي حامد، والفيلم يدخل إلى غرفته، بين مشاريعه الهندسية، وكتبه
ومراجعه.. والدته تقول: «كنا نفكر بعد التخرج أن نزوجه.. وأن يعمل مع
الشركات المتخصصة بالهندسة المعمارية«. شقيقه يقول: «من هواياته التمثيل،
وإخراج المسرحيات.. كان مرحاً والبسمة«..
المثير أن غالبية الشهادات سوف لن تبتعد عن هذه الصفات، الهدوء، التفوق،
الأدب، الطموح.. فالاستشهادي ضياء الطويل، تقول عنه والدته: «كان متفوقاً
دائماً.. كان يحلم بهندسة الطيران«.. والاستشهادي عماد الزبيدي، تقول أمه:
«كان مؤدب وهادئ«.. بينما يقول والد الاستشهادي صفوت أبو عيشة، عن ابنه:
«بيحب يتعرف على كل شيء.. بيحب يسأل عن كل شيء.. بدو يجرب كل شيء.. بيحب
السيارات«..
وفضلاً عن محاولة رسم الصورة المقربة عن الاستشهاديين، يتولى فيلم «فن
الحياة« الخوض في محاولة فهمهم، ويكتفي بالدافع الإيماني. الشيخ جمال
منصور، يقول: «من لا يفهم معنى الدافع الإيماني لا يمكن أن يستوعب ما يجري
في فلسطين، خاصة مع هؤلاء الشباب المتميز العجيب«..
يتوقف الفيلم عند الاستشهادية دارين أبو عيشة، حيث تذكر والدتها أن دارين
فرحت جداً عندما سمعت بأول عملية تنفذها استشهادية.. دارين في وصيتها
وتقول: «دور المرأة الفلسطينية لم يعد مقتصراً على بكاء الزوج والأخ
والأب.. بل إننا سنتحول بأجسادنا إلى قنابل بشرية.. تدمر وهم الأمن للشعب
الإسرائيلي«. ووالدتها تقول عنها: «دائمة متحمسة.. دائماً تغلي غلي على
هالأوضاع«.. هي كانت تقول: «لا حماس راضية تنزلني، ولا الجهاد راضي
ينزلني«، فكانت العملية لصالح كتائب الأقصى.. والد دارين يقول: «كانت
متفوقة.. حتى في التوجيهي حصلت على ممتاز.. ولم يبق لها في الجامعة سوى فصل
واحد«.. شقيق دارين يقول: «كل ما بجيب سيرتها اشعر إنه كمان ألف سنة ما
بوصلهاش.. الاستشهاديون مش مثل أي ناس.. هم ناس فوق تصور البشر.. بيخرجوا
من دائرة البشر.. ناس اقتربوا من دائرة الأنبياء«..
الاستشهادية آيات الأخرس كانت أمنيتها أن تصبح مراسلة تلفزيونية.. تدربت
كثيراً.. لكن الظروف لم تكن مواتية.. قررت آيات الأخرس أن يكون حضورها على
الشاشة بطريقتها الخاصة.. والدة آيات تقول: «فاقت الصبح صلت.. وفيقتني صليت
وراها.. راحت ع المدرسة.. وقالت يما ادعي لي.. طلعت ورجعت.. وقال يما ادعي
لي.. تسهلت.. عادي.. وتضحك«.. والد آيات يقول: طلعت عادي من البيت عشان
تقدم امتحانها.. قدمت امتحانها.. وبعدين طلعت لامتحانها الأكبر«.. والصورة
تبين أنها حصلت على العلامة التامة: 20/20.
وإذا كان الفيلم يقدم نماذج متعددة من الاستشهاديين والاستشهاديات، ويرفدها
بإحصائية تقول إن: 40% يحملون شهادات أكاديمية. وأن 70% من الفئة العمرية
18 23 سنة. و60% ليس لهم ملفات أمنية سابقة. فإن الاستشهادي داوود أبو صوي،
سيكسر تماماً صفة «الاستشهادي النموذجي«، ذاك الوصف الذي أطلقته دوائر
الأمن الإسرائيلي للتنبؤ بشخصيات منفذي العمليات.. أنه أبو محمد، الأب
لأسرة كبيرة، والجد لأحفاد كثر.. إنه في الستين من عمره، فيما عملية «ريشون
ليتسيون« في تل أبيب، تتكشف عن حقيقة أن منفذها هو عيسى بدير، أحد طلاب
مدرسة بيت لحم الثانوية.. عمره 16 عاماً.. ليكون بذلك أصغر منفذي عملية
تفجير..
أما آن للموت الإسرائيلي أن يشبع، أو يرتدع..
أما آن لهذا الدم أن يتوقف عن النزيف؟!.
المستقبل اللبنانية في
06/06/2010 |