هذا الفيلم الجميل والشديد الحساسية الذي كتبه وأخرجه (أحمد عبدالله) وهو
نفس الاسم الذي يحمله كاتب سيناريو شهير.. قدم لنا أفلامًا مختلفة فيها
الغث وفيها الثمين.. وحققت أفلامه الأخيرة (كباريه والفرح) نجاحًا شعبيًا
وفنيًا مرموقًا.
أحمد عبدالله.. كاتب سيناريو شاب يجرب حظه لأول مرة في إنتاج خاص، قليل
التكاليف ولكنه يحوي من الموهبة والإبداع الشيء الكثير.. طاف بعدد من
المهرجانات العربية والأجنبية خلال العامين الفائتين قبل أن تتحقق له فرصة
العرض في بلده الأصلي.. رغم التشجيع والثناء الجوائز التي حققها في هذه
المهرجانات التي عرض بها.
(هليوبوليس) صورة رائعة.. عن فيلم شاب لمخرج يملك الموهبة والطموح
والإصرار.. والخروج عن المألوف.. واقتحام ما اعتدنا أن نسميه بسينمانا
المصرية.
نهار وليل
إنها قصة مجموعة من الشخصيات متباعدة، متقاربة.. يجمع بينها نهار واحد وليل
واحد، وتدور أحداثها في حي واحد هو حي مصر الجديدة بكل ما يحتويه من
إيحاءات ورموز وإسقاطات، إنها أولا قصة طالب شاب يقوم ببحث ميداني في حي
هليوبوليس.. يجمع صورًا للعمارات القديمة ذات الطراز البلجيكي.. والأقواس
والبيوت الكبيرة المتسعة ذات الأسقف العالية.. والشوارع الأنيقة التي تتغير
سماتها بانتظام.. والناس الذين يعيشون وراء جدرانها حاملين في قلوبهم أسئلة
شتي حائرة جاهلين ماذا سيفعلون غدًا أو كيف يتصرفون اليوم.. كهذه السيدة
اليهودية التي أبت أن تغادر شأن غيرها من اليهود الحي الذي عاشت فيه عمرها
كله.. والتي تتحرك الآن شبه سجينة بين جدرانها الأربعة.. ترتوي من ذكرياتها
القديمة.. ومن صور غيرها الزمن.. وأطفأ ألوانها.
وتلعب دورها بعبقرية حقيقية السيدة عايدة عبدالعزيز في إطلالة صغيرة تحسب
لها بقوة.
الطالب والمصور الشاب.. يزور السيدة العجوز ويجري حوارًا مليئًا بالشجن
معها.. قبل أن يطوق بين عمارات مصر الجديدة وقبل أن يوقفه رجال الأمن..
مانعين إياه استكمال بحثه.. في تصرف عشوائي لا مبرر له إلا الروتين القاسي
وحفظ النظام الذي يفترض فيهم حمايته والحفاظ عليه.
وهناك جندي الأمن المركزي الذي يقف أثني عشرة ساعة كاملة في كشكه. لا يكلمه
أحد.. يحرق الزمن.. والزمن يحرقه في مشاهدة ربما كانت من أجمل مشاهد
الفيلم.. وربما كانت أيضًا أجمل ما قدمته السينما المصرية الشابة أخيرًا.
الكاميرا ترصد الجندي الشاب في عزلته في وحدته التي لا يقطعها إلا صوت
راديو ترانزستور صغير يحمله وأول علاقة عابرة مدهشة مع كلب ضال يعاني
الوحدة والعزلة مثله.. إنه يعيش مع الفراغ يستجدي (ولعة) من غريب يمر إلي
جانبه كي يشعل سيجارته يعيش علي أصداء موسيقية بعديدة تأتيه من كنيسة
قريبة. يتعامل بالإشارة مع زميل له يقف في كشك مجاور.
رسم الشخصيات
لقد نجح الكاتب والمخرج الشاب في رسم هذه الشخصية بإتقان مذهل وأحاطها
بشاعرية وشجن مدهشين.. رغم أنه لم يجعلها تنطق بجملة واحدة.
لا أعرف بالضبط اسم الممثل الشاب الذي لعب هذا الدور ولكني علي يقين أن ما
من أحد سيشاهد فيلم (هيلوبوليس) إلي وسيذكر طويلاً شخصية جندي الأمن
المركزي وكشكه الصغير والراديو الترانزستور.. وعلاقته بالكلب الضال..
بالسماء الواسعة الفارغة التي تطل عليه من أعلي.
هناك أيضًا هاني الدكتور هاني الشاب الذي يحاول الحصول علي فيزا يمكنه من
اللحاق بأهله الذين هاجروا إلي الخارج.. إنه يرتطم بالعقبات الروتينية
الإدارية وبالصعوبات التي تضعها القنصليات الآن.. مثل منح التأشيرة.. يحاول
أن يأد قصة الحب الصغيرة التي ابتدأت تمتد جذورها بينه وبين جارته الشابة..
التي تغني في كورال الكنيسة، وأن يجد مستقبلاً لكلبه الوفي العرض الذي
سيضطر إلي تركه.. وإلي بيته الكبير الذي ينوي أن يتخلي عنه أو أن يأجره.
مهما وعلي.. هما هذان الخطيبان العاشقان اللذان تواعدا مع الدكتور هاني
لاستئجار شقته والذان تخنقهما أزمة المواصلات والزحام الشديد وانسداد الطرق
بسبب تشريفة الرئيس والوصول إلي الموعد المتفق عليه.. والذي يحاول الكاتب
بذكاء ورهافة حس أن يشعرنا أن هذه المتاعب الصغيرة.. شراء ثلاجة مثلاً..
وسواها تشكل قطرات الماء الساخنة التي تتساقط رويدًا رويدًا علي سطح رقيق
شفاف فتوشك أن تفسده.
تصوير الحي
قصة الحب الحلوة هذه مهددة وهذا التهديد يرسمه الفيلم بوضوح وشفافية
ويجعلنا نراه كما نقرأ صفحة المستقبل في مرآة عرافة هندية.
إن تهديد المدينة الكبيرة.. تهديد صامت متوحش.. يقتل العلاقات الدافئة..
ويدخل كالخنجر المسموم في القلب النابض بالدماء.
اليوم ينتهي.. ولا ينجح مها وعلي في رؤية الدكتور هاني وشقته.. كما لا ينجح
إبراهيم في تصوير الحي الذي يريد أن يكتب عنه وعن تاريخه، وكما لا ينجح
عسكري الأمن المركزي في أن يديم علاقته مع الكلب الضال ويتركه حبيس علبة
كارتونية خبأه فيها بعيدًا عن أنظار الضابط الذي يراقبه.. كما فشل أيضًا في
أن يقيم إلي علاقة مع العالم الخارجي الذي تحول فقط إلي شريطًا غنائي يسمعه
من خلال الترانزستور الصغير الذي يحمله.. والذي أصبح هو الرابط الوحيد الذي
يربطه بالعالم الإنساني. وهناك (إنجي) عاملة الفندق وزميلتها (الصايعة)
التي تسكن معها في شقة واحدة، وتوهم أسرتها أنها سافرت إلي الخارج حيث تعمل
مرشدة سياحية في فرنسا بينما تمضي أوقات فراغها في التسكع في المقاهي وشرب
الحشيش الذي يجلعها تنسي.. الوهم الكبير الذي تعيش فيه والكذبة العظمي التي
انطلت علي أسرتها.
كل هذه الشخصيات المتناقضة التي لا تتقابل أبدًا إلا في مشاهد عابرة تمر
بها مرورًا عابرًا من خلال حياة الآخرين. تعيش أزماتها وقلقها ووحدتها
وحيرتها خلال يوم واحد يبدأ والدكتور هاني يقدم أوراقه للسفارة كي يحصل علي
الفيزا المشتهاة.. وينتهي بالفجر يطل عليه من نافذة بيته.. ليبدأ نهارًا
جديدًا.. قد لا يختلف اختلافًا جذريًا عن النهار الذي سبقه وقد لا يختلف
أيضًا كثيرًا عن النهار الذي سبقه.
هليوبوليس.. حركة سينمائية شابة مليئة بالشجن كأغنية فلامنكو إسبانية..
تحتوي علي الكثير من الألم المكبوت.. والأحلام المجهضة.. والأمل البائس بغد
لا يؤمن به أحد..
بناء درامي
إن التصدي لفيلم كهذا.. وفي بناء درامي كهذا ومن خلال وجوه ممثلين أغلبهم
من الهواة باستثناء الكبيرة المدهشة عايدة عبدالعزيز وخالد أبوالنجا في دور
رهيف حساس عرف كيف يؤديه وكيف يجعله مؤثرًا وفاعلاً.. ويسرا اللوزي التي
أعطت وجهها الجميل الذي يشع براءة وحلاوة وأملا ليشرق في هذا (الليل
المظلم) الذي اختاره أحمد عبدالله ليكون محورًا أساسيًا لفيلمه الأول الذي
يطرح فيه بقوة تحدي الشباب وعنادهم وتمسكهم بتقديم سينما أخري.. تعبر حقًا
عن شبابهم وحماسهم ودماء الموهبة المتفجرة في عروقهم.
لقد كان بإمكان المخرج الشاب.. أن يصنع فليمًا روائيا علي طريقة قاطع شحن
أو سواه وأن يدخل دار السينما التجارية من بابها العريض.. كما فعل الكثيرون
غيره ولكنه في كبرياء الفنان الواثق من نفسه.. رفض التنازلات المؤلمة التي
قبلها رفاق له قد لا يقلون عنه موهبة ولكنهم بالطبع يقلون عنه عنادًا أو
إصرارًا وتحكمًا في مستقبلهم. لقد انتظر أحمد عبدالله طويلاً.. وصنع فيلمه
بدماء شرايينه ونظرته المبتكرة الحلوة إلي العالم الذي يحيط به راصدًا
بحساسية ورهافة تفاصيله الصغيرة المؤثرة مرتكزًا علي الحساسية والفهم
اللذين يفترض أن يلقاهما من جمهوره.
ظل فيلمه حبيس العلب شهورًا طويلة ممتدة قبل أن يجد الفرصة لكسر الجدار
والخروج إلي النور بعد إراقة دماء السينما المصرية.. التي مازالت تجري في
عروقها وأنها لم تتجمد ولم تتخثر بعد.
إن مواهب شابة أخري.. ستتبع هذه المغامرة الصعبة.. وأن أمالاً كثيرة
ستنتعش.. وستفتح كما تتفتح زهرة الأقحوان بضوء الشمس.
إن علاقة الفن الجيدة كانت دائمًا تقوم علي العناد والإصرار والتمسك
بالرؤية مهما كانت صعبة أو خاصة أو دقيقة التحقيق.
(هليوبوليس) يعيد الانتظام إلي الأنفاس اللاهثة التي ابتدأت تغادر الروح
والجسد.. ويبشرنا بأن سينمانا مازالت بخير.. مادام فيها فنانون شباب
يستحقون أن تلصق صفة (الشباب) بالأعمال التي يقدمونها وأن الأعمال الفنية
مهما وضعت حولها وفي إطارها الستائر الثقيلة لابد لها أن تشع.. بكل جوهرها
وألقها وتحديها.
وقديمًا قال أحد حكماء الصين.. (إن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة) وربما كانت
قدم الفنان الشاب أحمد عبدالله.. هي التي تخطو الآن في سينمانا المتعثرة
هذه الخطوة.
جريدةا لقاهرة في
11/05/2010 |