تم اختيارها بعناية لتعكس صورة معبرة عن واقع السينما المصرية اليوم
بتنوعاتها واتجاهاتها الجديدة. كان للمخرج يسري نصر الله فيلمين هما (جنينة
الأسماك) و(إحكي يا شهر زاد) ولسامح عبد العزيز (الفرح) ولرامي إمام (حسن
ومرقص) ولعمرو سلامة (زي النهاردة) وجاء فيلم (واحد صفر) لكاملة أبو ذكري
ليتوج هذه المجموعة كواحد من أكثر أفلامنا قيمة وحصدا للجوائز. وكانت
مفاجأة صادمة لي أن يطالب بعض المسئولين المصريين هناك بمنع عرض هذا الفيلم
الممتاز إلي جانب فيلم متميز آخر هو (الفرح) بادعاء أنهما يقدمان صورة سيئة
للواقع في مصر. والمقصود طبعا أنهما يعرضان صورة لحياة الفقر التي يعيشها
الغالبية العظمي من أبناء هذا الشعب وينتقد السلبيات ومظاهر الفساد في
المجتمع والدولة في مصر بصورة لا يجوز عرضها في مثل هذه المناسبات. وعلي
الرغم من أنني لم يكن لي أي دور في اختيار هذه الأفلام التي تختارها غالبا
لجنة المهرجانات والتي لست عضوا فيها، إلا أنني دافعت عنها بقوة وصممت علي
عرضها. ولحسن الحظ وجد تصميمي قبولا، وتأكد للجميع بعد عرض هذه الأفلام
أنها التعبير الأمثل عن التفتح الرقابي الذي لابد أن نعترف جميعا بوجوده
فعليا منذ عدة سنوات والذي أتاح لنا أن نري أفلاما أكثر جرأة مثل (هي فوضي)
و(حين ميسرة) لم يكن بالإمكان أن نراها من قبل.
وشمل البرنامج أيضا محاضرتين لي عن السينما المصرية سافرت مع الوفد خصيصا
لإلقائهما الأولي عن "قضايا المرأة.. ودور المرأة المبدعة في السينما
المصرية " وأقيمت بقاعة السينما الرئيسية بطرابلس وشهدت حضورا جيدا. وقد
سعدت جدا حين علمت أن موضوع هذه الندوة كان مثيرا لإهتمام المجتمع الليبي
بوجه عام والذي ينشغل بشدة بأهمية دور المرأة وحقوقها. وكان الحديث عن
فيلمي (إحكي يا شهر زاد) و(واحد صفر) المشاركين بالأسبوع كنموذجين تطبيقيين
من أنسب ما يمكن. فالأول هو من أنضج افلامنا في التعبير عن قضايا المرأة
بأسلوب درامي وسينمائي بليغ وعبر عدة نماذج متنوعة. وهو يتناول جوانب
مختلفة من معاناتها، عارضا بموضوعية حقوقها المهدرة وناقدا بشكل جاد وجريء
لنظرة المجتمع الذكورية تجاهها. وداعيا أيضا في مضمونه ورسالته بقوة إلي
منحها حقوقها واستقلالها الكامل. أما الفيلم الثاني (واحد صفر) فهو بلا
جدال من أكثر الأفلام تعبيرا وتأكيدا علي تميز المرأة وتمكنها من مختلف
مجالات العمل السينمائي تأليفا وتصويرا وإخراجا. وتنضم من خلاله كاملة أبو
ذكري إلي قافلة كبار المبدعين في تاريخ السينما المصرية بعد أن حصدت أهم
الجوائز في كل المهرجانات التي شاركت بها. وبعمل أعتقد أنه سيجد لنفسه
مكانا متقدما في قائمة أفضل أفلام العقد الأول من القرن الجديد من خلال
استفتاء النقاد الذي بدأ يعد له الزميل النشيط حامد حماد.
وكانت محاضرتي الثانية عن " اتجاهات السينما المصرية الحديثة " وأقيمت
بالمركز الثقافي المصري بطرابلس بحضور ضعيف وغياب تام من الجالية المصرية
بكل أسف .. وغياب الجالية المصرية عن حضور مختلف فعاليات الأسبوع الثقافي
كان أمرا مثيرا للضيق والدهشة. ولم يتمكن مستشارنا الثقافي هناك من أن يقدم
لنا مبررا منطقيا لهذه المسألة. ولكن عوض ضعف الحضور العددي تميزهم الكيفي
الذي كشفت عنه أسئلتهم وآراؤهم وكان من بينهم عدد من النقاد والسينمائيين
الليبيين الذين اعترض بعضهم علي آرائي كثيرا واستكثروا علي السينما المصرية
أن يكون لها مجرد إتجاهات وليس حتي مناهج أو مدارس. وهو ما رأيته تطرفا
زائدا في انتقاد سينما لها تراثها وتاريخها الكبير وراحت مؤخرا تعاود
محاولاتها الجادة نحو التنويع سواء في الشكل السينمائي أو القوالب الدرامية
التي توظفها. كما تشكلت بها مؤخرا أجيال ترسم لنفسها طرقا مستقلة وتقاوم
قدر الإمكان ما تفرضه عليها الظروف التجارية والإقتصادية الصعبة جدا في
السينما المصرية.
وقد تمثلت هذه الاتجاهات بشكل واضح مثلا في فيلم مثل (الفرح) الذي يؤكد
إتجاها بدأه صناعه الثلاثة - مؤلفه ومخرجه ومنتجه - في فيلم (كباريه). وهو
يسعي إلي توظيف فن السينما للتأكيد علي دعاوي أخلاقية من منظور ديني
وبأسلوب نقدي للمجتمع وبتقنيات سينمائية بسيطة ولكنها متقدمة واعتمادا علي
شكل بانورامي مع قدرة درامية علي التكثيف والتعبير بطريقة جذابة بعيدا عن
أساليب الوعظ والمباشرة التي كانت سائدة في مثل هذا النوع من الأفلام
قديما. وقد أثار الفرح فرحة الجماهير في ليبيا، إنعكست في إقبالهم عليه
وآرائهم حوله حيث رأوا أنه يمثل اتجاها حميدا للسينما المصرية ويطرح رسالة
مهمة للمواطن بمقاومة المفاسد والإصلاح من ذاته وسلوكه بالتمسك بدينه
ومقاومة شهواته وضعفه أمام المادة . كما يمكن اعتبار فيلم (زي النهاردة)
ضمن الأفلام المصرية الجديدة التي تنتمي إلي نوع نادر في السينما المصرية
ولكنه انتشر في الأعوام الأخيرة وهو أقرب لأفلام الغموض البعيدة عن العنف
والجريمة وبأساليب أقرب للشاعرية أو الهادفة للتلامس مع المشاعر الخاصة
للإنسان مع قدر من التأمل لمناطق تبدو غامضة في حياتنا ومشاعرنا وعلاقاتنا.
هذا فضلا عن اتجاهات أخري كثيرة في السينما المصرية نحو أنواع وأساليب لم
تكن مطروقة في أفلامنا ربما أتاحها أو ساعدها علي الظهور ما تحققه ثورة
الأفلام المستقلة يوميا من تجارب ومحاولات تخرج عن المألوف بتحرر كبير عن
شروط السوق وظروفه الصعبة. وقد أثار انتباهي قلة محاولات السينمائيين
الليبيين في هذا الإتجاه الذي بإمكانه أن يمنح فرصا عديدة لمواهب كثيرة
هناك تجد صعوبة في تمويل أعمالها. وإن أسعدني بالحظ بمشاهدة أفلام تسجيلية
وروائية قصيرة متميزة بهذه التقنيات للمخرج صلاح قويدر.
كما أضيفت إلي برنامجي محاضرة ثالثة بأكاديمية الدراسات العليا بناء علي
دعوة د. نور الدين محمود سعيد أمين قسم الفنون الدرامية ود. سالم عيسي
بالحاج أستاذ الإعلام. وكانت عن " حركة النقد السينمائي في مصر بين الواقع
والمأمول ". وكانت في رأيي أقوي المحاضرات ليس لقيمة كلمتي بالطبع وإنما
للمداخلات الواعية والتي عبرت عن وعي ثقافي وأكاديمي وحضاري واهتمام حقيقي
بالسينما المصرية من المثقفين والأكاديميين والدارسين. وكان الإخوة هناك في
نقدهم الشديد للسينما المصرية ولنقادها أيضا يعبرون عن غيرتهم علي فن يرونه
ينتمي إليهم علي اعتبار أن السينما المصرية مازالت هي السينما العربية
الجماهيرية الوحيدة في الوطن العربي. كان لقائي بهم فرصة للنظر إلي أفلامنا
من زاوية جديدة ومن خلال عين أكاديمية ناقدة ولكنها محبة بل وعاشقة
لأفلامنا وتراثنا السينمائي. فهم متابعون ممتازون للأفلام المصرية التي
تعرض لديهم تقريبا في نفس توقيت عرضها بمصر. كما أنهم يهتمون بقراءة ما
تنشره صحفنا من نقد سينمائي بعد أن أصبحت المواقع الأليكترونية سفيرا سريعا
وقويا يخترق حدود الزمان والمكان ويصنع حالة من التواصل والتلاقي.
ومن أهم ما أثاروه في الندوة أن النقد السينمائي لدينا مازال في أغلبه يهتم
بالموضوع ويبتعد عن تحليل مفردات الصورة إلا قليلا مع ملاحظتهم لأن السينما
المصرية تطورت في التعبير البصري كثيرا وهو الجانب الذي لم يتمكن النقد
لدينا من ملاحقته بالقدر الذي يستحقه. كما أثار إنتباهي بشدة حديثهم عن
تقصير السينما المصرية في مواجهة التيار الغربي المستفز والموجه ضد قيمنا
وثقافتنا والذي لا يفرق بين الإتجاهات الدينية المختلفة المعتدلة والمحافظة
والمتطرفة والمتشددة. وأن السينما الهندية أصبحت تلعب دورا كبيرا في
التأكيد علي عظمة قيم الإسلام والشرق عموما، وهو دور لا تنشغل به السينما
المصرية علي الإطلاق.
اعترض الكثيرون أيضا علي تصريحات فنانينا وفناناتنا التي تلعب دورا خطيرا
في الإساءة لمفهوم الفن والعملية الفنية وتفتح الأبواب الصدئة المتهالكة
المغلقة من جديد لمناقشة جدوي الفن وقيمته وشرعيته. إن هذه الآراء
والتصريحات التي تحفل بها صحفنا كفيلة بأن تفتح علينا أبواب الجحيم وأن
تعيدنا بالفعل إلي العصور الحجرية وأن تسمح بالفعل لأصحاب الآراء المتطرفة
أن يهاجموا الفن والفنانين. وأن يطيحوا بأي جهود تبذلها الحركة الفنية أو
النقدية للتأكيد علي قيمة الفن ودوره الكبير في الارتقاء بمشاعر الإنسان
وتوعيته وتثقيفه .
لم أشعر في حياتي بالاستمتاع بمحاضرات ألقيتها بقدر سعادتي في الأسبوع
السينمائي المصري بليبيا. فالناس هناك في حالة تعطش حقيقي للحوار عن
أفلامنا برغبة صادقة في إخلاص النصيحة وبحب حقيقي ومشاعر أخوية. في ليبيا
لا يمكن أن تنتابك أي مشاعر بالغربة حتي ولو كنت مريضا مزمنا بها مثلي.
فأنت هناك بالفعل بين أهلك وناسك وأشقائك الذين يحبون بلدك وفنك وأفلامك.
وينتقدونها بفهم وموضوعية وسعيا وراء تطويرها لتظل تعبر عنهم وتمتعهم
ولتحتفظ السينما المصرية بمكانتها كسينما جماهيرية عربية.
جريدةا لقاهرة في
11/05/2010 |