ماذا تفعل الحرب بمشروع ملعب لكرة
القدم؟
سؤال لا يقصد منه اختصار حكاية الفيلم العراقي (الكردي) المعنون
بـ"ضربة
البداية" (90
دقيقة) إنما فتح العبارة كي تأحذ مداها، ذلك
المدى المرتبط بالجماهير التي تعشق تلك الساحرة المستديرة وتسقط عليها
الكثير من
أحلامها وأمانيها في اكتناز الفرح والبهجة في لحظات هزيمة عز فيها الانتصار
وانعدمت
فيها البهجة.
فهذا الفيلم .. ومن قبله هذا المخرج الكردي
"شوكت
أمين
كوركي"
اقتنص من فضاء أكبر لعبة جماهيرية على مستوى العالم وسيلته للتعبير
عن معاناة العراقيين في حربهم واحتلالهم وصراعاتهم الداخلية والأهم أنه
ضمنه حلمه
بتسويد قيم التسامح والتجاوز و"الصراع النظيف" وإن بدا بثوب كروي هذه المرة
لكن
حمولاته كانت بائنة ومبشرة أيضا.
اقتنص المخرج فضاء اللعبة (الملعب غير المكتمل
والمعطل بفعل قدوم الحروب) فكان مسرحا لأحداث فيلمه، لتكون أحداث الفيلم
ضمن حدود
الملعب المحدودة باستثناء بعض المشاهد القليلة هنا وهناك، وهو ما كان ميزة
وتحديا
معا، وفعلا أبدع المخرج في مسرحة هذا الملعب دون أن ينتقص ذلك من فيلمه
السينمائي
الذي بدا فيه متأثرا بعوالم المخرج البوسني الشهير "أمير كوستاريتشا".
فاقتنص
الفيلم، عن استحقاق وجدارة، الجائزة الأولى لمهرجان الخليج السينمائي في
دورته
الثالثة عن فئة الأفلام الروائية الطويلة.
مفارقات
كوركي...
من أوزار الحرب أنها تخلق المفارقات، يحدث ذلك
دوما، المفرح منها والمؤلم فيها، ما يتعلق فيها بالحياة والأماني وما يرتبط
منها
بالموت المفجع، وهذا الفيلم يتعامل مع كل ذلك دون ادعاء أو صراخ أو تقليدية...
فبفعل أوزار الحرب رمز الخراب دُفع بمئات العائلات العراقية من خلفيات
عرقية مختلفة
إلى اللجوء لملعب لكرة القدم قيد الإنشاء واستوطنته وبنت مساكنها من
الصفيح ليكون
بمثابة مكان التجاء ونقطة احتماء.
الملعب الذي أصبح يعاني من الدمار وتشوهاته،
ذلك الدمار المعنوي الذي يعكس دمارا رمزيا يعكس دمارا أكبر لا نراه خارجه
وإنما نرى
أثره ونتائجة من خلال الـ 300 أسرة التي التجأت إلى الملعب الذي تحول إلى
مخيم.
البطل الكردي "أسو" هو الابن الأكبر لاحدى العائلات الكردية التي اضطرت
للسكن في الملعب، وهو شاب مثقف ومثالي ومتحمس، يحلم بتنظيم مباراة لكرة قدم
بين
الصبية الأكراد والعرب الذين يعيشون بالمخيم والمناطق المجاورة التي تعاني
من ويلات
الحرب أملا في الترفيه عنهم وعن أخيه الصغير الذي بترت الحرب ساقه بفعل لغم
أرضي
أثناء لعبه الكرة التي تعتبر حلم حياته الذي حرم منه، وكذلك في سبيل إدخال
البهجة
على قلب جارته الجميلة "هيلين" التي تضطرها الظروف لمغادرة الملعب قبل
المباراة
بأيام.
أؤلئك المشردون في هذا الملعب المدمر الذي يرمز للعراق في لحظته الراهنة
لا يتركون ببؤسهم وفقرهم بل تطالهم قرارات الإزالة الحكومية التي تفرض
عليهم مغادرة
الملعب فورا وهو الأمر الذي يقاومونه.
هم اللجوء والتشرد الذي يتشارك فيه الجميع لا
يثني "أسو" ورفاقه عن متابعة مشروعهم الذي بدأ مع تأمينهم لسكن الملعب
مشاهدة
المباراة التي جمعت السعودية والعراق عام 2008 في نهائي بطولة كأس أسيا،
حيث بدت
بهجة الانتصار بالفوز الذي شاهده الجميع مشجعة لـ"أسو" لمنحهم مزيدا من
البهجة
ومشاعر التعويض بالانتصار، فيقرر تنظيم دوري مصغر يجمع الأطفال في المناطق
المجاورة
ليتباروا مع بعضهم البعض وذلك بحسب خلفياتهم العرقية.
وفعلا يحشد "أسو" ورفاقه
كل ما يستطيعون لتنظيم تلك المبارايات لتبدأ المشاكل معها فمن عدم اقتناع
سكان
الملعب بالمباراة إلى صعوبة البحث عن الفرق وتحصيل موافقتها إلى الصعوبات
التي تبدأ
مع أول المباريات والتي تتجسد في عدم اقتناع الفريق العربي بأن يكون الحكم
كرديا،
والعكس صحيح الأمر الذي لا يحل إلا بوجود مصور اجنبي يقوم بدور الحكم.
ومع بدء
أول المباريات يكتشف "أسو" ورفاقه أنهم في زحمة الترتيبات نسو إحضار الكأس
الذي
سيحصل عليه الفائز وهو ما يقوم به "باسو" الذي يجمع ما تبقى معه ويتوجه
لأحد
الأسواق القديمة كي يشتري الكأس ليكون ضحية الإرهاب اليومي الذي يحوله
أشلاء
متناثرة مع غيره من مرتادي السوق الشعبي.
تستمر المباراة بين الفريق الكردي
والعربي بالعنف الكروي وبمزيد من المشاكل في الكرة والتحكيم إلى أن تقتحم
قوات
الشرطة الملعب بالسيارات العسكرية محاولة تهجير الناس وطردهم من مساكنهم
لتهب ريح
قوية محملة بالغبار الذي يأتي ليغطي جثمان "باسو" المسجى الذي يوضع في
الملعب وسط
بكاء الناس وعويلهم في مشهد مأساوي نراه متكررا ويوميا في نشرات الأخبار
لكنه هذه
المرة بعد أن يضعنا في أحلام وأماني هذا الشاب الكردي ومن قبله رفاقه
والذين يؤمنون
بالرياضة التي ربما يمكن أن تصلح مدخلا لإصلاح ما افسدته الحروب
والاحتلالات
والصراعات الداخلية.
ضياع
وعدم وضوح..
طوال دقائق الفيلم الـ 90 جاء الشريط حاملا
للوني الأبيض والأسود باستثناء بعض اللقطات التي حضرت فيها الألوان مثل
ملابس الفرق
الرياضية لكن دون أن تأخذ ألوانها الحقيقية وهو ما جاء خيارا مناسبا لمضمون
الفيلم
ومجرى أحداثه ومعمقا لرسالته، فمن المشاهد الأولى وضعنا المخرج في جو من
عدم اليقين
أو عدم الوضوح وهو ما انعكس على مصائر هؤلاء البشر تماما مثل: مصير العراق
الذي
تتهدده المافيات والميليشيات وقوى الاحتلال ومصير السكان وصولا إلى مصير
حبيبه "أسو"
"هيلين" التي غادرت الملعب وعادت إليه يوم المباراة وفي لحظة وصول جثمان
"أسو"
وكذلك مصير أخ "أسو" الصغير الذي ظل يحاول طوال أحداث الفيلم الانتحار نظرا
لإعاقته ولعدم تمكنه من تحقيق حلمه. فتلك الحالة العالية من عدم الوضوح كان
يمكن
إدراكها من ألوان الفيلم التي كانت بمسحة رمادية مع اللونين الأبيض والأسود
وهو ما
يشي بعدم اليقين والوضوح.
ضربة البداية هو معالجة سينمائية رصينة فيها من
روح المخرج البوسني "كوستاريتشا" (وهو ما لا ينفيه كوركي نفسه وربما يفخر
به أيضا)
من حيث الأجواء الرمادية المسيطرة وأماكن التصوير والعمق في استخدام
المفردات
الفنية والتركيب الدرامي غير المعقد...الخ من مكونات العمل السينمائي التي
بدا
للمشاهد بأن المخرج على قدر عال من التمكن منها حيث أدارها وحركها جيدا
فخرج من
خلالها بفيلم على قدر عال من التميز والروعة وأفضل ما برز في ذلك إدارته
لمكان
التصوير وهو مكان واحد وفي مساحة محدودة، إضافة إلى طاقم الممثلين الكبير
والذي في
جزء منه من غير المتخصصين الذين منحو المخرج، بحب، ما أراد منهم ويزيد
بطريقة عفوية
بعيدة كل البعد عن التصنع و"التمثيل" في الأداء، وهو ما جعل الفيلم يحمل
سمتا
وثائقيا، فبدا وكأنه فيلما يسرد بصريا حياة هؤلاء السكان ويستعرض طموحاتهم
وأمانيهم
البسيطة في ظل واقعهم المعقد.
وهو ما جعل من "ضربة البداية" المنجز الفني الأهم
في مشوار المخرج الكردي "كوركي" ومن خلاله يؤكد على مشروعه السينمائي
وتميزه في
فضاء السينما العراقية التي بدت تتقدم بثبات وقوة في السنوات الأخيرة وأن
كان
معالجاتها مقتصرة على الواقع السياسي الحالي تارة والحديث عن جرائم النظام
العراقي
السابق تارة أخرى دون أن تتناول مثلا جزئية الاحتلال كموضوع مركزي فيها.
رموز
وتضمينات..
نقطة أخرى يجدر التطرق لها تتمثل في أن العوالم
التي رسمها الفيلم هي جزء أصيل من رسالة المخرج "كوركي" وتضميناته الخفية
والصريحة
معا، ففكرة الملعب الذي يتحول إلى مكان للحياة هي فكرة ملهمة ومدهشة لتخليق
دراما
الفيلم وأحداثه، وهو ملعب يقوم أساسا على فكرة الصراع بين فريقين يتباريان
من أجل
الفوز حيث انطلق منها المخرج صوب ما جرى للعراق في رسائل مضمنه تقول أن ما
جرى
للعراق هو جزء من لعب القوى الكبرى في العالم وصرعاتها المميته للسيطرة على
دول
معينة في العالم العربي، فالملعب حمل في طياته فكرة "اللعب القاتل" فما
يجري
بالعراق هو جزء من لعبة مميته هي في جوهرها جزء من لعبة المصالح والصراعات
السياسية
التي تعصف وتقتل البشر وتقصف أحلامهم.
كما يحسب للمخرج توظيفة لكل من كادراته
المتمكنه لتعكس المضامين والرسائل التي يريد ايصالها سواء تلك التي ارتبطت
بواقع
الناس في لحظتهم وحالة شوقهم للنصر والفرح ومن بين ذلك تلك الرسالة العريضة
التي
ترتبط بقيم السلام والتسامح وتجاوز الألم وحالة التقاتل.
كما وظف المخرج مجموعة
من الرموز واستخدمها في بنى الفيلم لتوصيل رسائل أكثر عمقا ودقة وهو ما
يحسب للمخرج
مثل الحصان العربي الأصيل الهائم في الملعب طوال الفيلم حيث كان يظهر في
لحظات
بعضها أثناء المباراة مثيرا الفوضى والهرج والمرج في الملعب. كذلك البقرة
ومجموعة
من الأغنام التي كانت مربوطة على عوارض شبكة المرمي، وشخصية المجنون الذي
ظل ضاحكا
وساخرا من تصرفات "أسو" طالا على السكان من مدرجات الملعب وحيدا وكأنه ينفي
عن نفسه
صفة الجنون وينسبها للمواطنين.
والمؤكد أن المخرج في فيلمه الجديد يستمر في
الطريق الذي انتهجه من خلال عمله السابق "عبور التراب" 2007 الذي قدم فيه
مصالحة
كردية عراقية جديدة بناء على ما هو موجود على أرض واقع تقسيم العراق، حيث
بدت في
فيلمه الأول مصالحة كان الأكراد أبطالها ومن يقودها ويدعو إليها وهو ماتكرر
في "ضربة
البداية".. فالكردي الذي توفي في "عبور التراب" كان من أجل العراق الجديد
الذي رمز له في شخصية الطفل صدام، والكردي "أسو" الذي مات في "ضربة
البداية" مات من
أجل قيم التسامح والوحدة والسلام بين طوائف العراق المختلفة.
يذكر أن المخرج "شوكت
كوركي" من مواليد عام 1973 في مدينة زاخو بكردستان بالعراق، وقد اضطرت
عائلته
للهرب إلى إيران عام 1975 بعد اضطهاد تعرضت له، وظلت هناك حتى عام 1999.
سبقه أعمال
سينمائية قصيرة منها "البالونات تطير" عام 1997، و"المصيدة" الذي حصل من
خلاله على
جائزة أفضل فيلم إيراني في هذا العام.
الجزيرة الوثائقية في
06/05/2010 |