الفيلم الوثائقي الذي اسلط الضوء عليه اليوم، يعود إلى ما قبل خمسة عشر
عاما،
لكني عدت لمشاهدته أخيرا، ليس فقط لأهميته وأهمية الاكتشافات التي تمكن
مخرجه من
تقديمها عن شخصية المخرج السينمائي الأمريكي الرائد أورسون ويلز، صاحب فيم
"المواطن
كين" أحد اهم الأفلام في تاريخ السينما، بل لأنه منذ ظهوره في 1995، لم
يستطع أي
فيلم وثائقي آخر، أن يتجاوزه، أي أن يضيف جديدا إلى ما أضافه هذا الفيلم،
بل إنه
يُعد أيضا، دراسة بالصورة والصوت، لواحدة من أكثر الشخصيات السينمائية
غرابة وتفردا
وتقلبا وسوء حظ أيضا، في عالمنا، ومنذ اختراع السينما حتى اليوم.
هذا الفيلم
هو "جوقة
رجل واحد" One Man’s Band
وهو يقع في 90 دقيقة، اشترك
في إخراجه المخرج اليوغسلافي السابق (من مواليد سلوفينيا) فاسيلي سيلوفيتش،
والمخرجة أوجا كودار، وهي من مواليد زغرب في كرواتيا، لكن أهميتها تعود إلى
أنها
كانت أيضا الزوجة الأخيرة للمعلم الكبير أورسون ويلز ورفيقة دربه طيلة
السنوات
العشر الأخيرة من حياته، وقد عملت مساعدة له في كتابة السيناريو لبعض
أفلامه التي
لم يجد معظمها طريقه إلى العرض، أو لم يكتمل تصوير بعضها الآخر لأسباب
يتعرض فيلمنا
الوثائقي هذا لها ويترك الكثير من علامات الاستفهام معلقة امام البعض الآخر
منها.
ولعل السؤال الاول الذي قد يتبادر إلى الأذهان هنا هو: وما الذي يستطيع أن
يقدمه فيلم وثائقي جديد عن عالم أوروسون ويلز الذي رحل عن دنيانا قبل ربع
قرن؟ فقد
ظهرات من قبل عن ويلز عشرات الكتب والدراسات والمقالات النقدية والأفلام
الوثائقية
التي حاولت تقديم صورة مكثفة للعالم الخاص والفريد لذلك الفنان العظيم
وتجاربه
الفريدة في التمثيل والإخراج والكتابة، فما الجديد الذي جاء فيلم "جوقة رجل
واحد"
لكي يقدمه؟
يلقي الفيلم أضواء جديدة على الكثير من الجوانب الغامضة والخفية في
شخصية أورسون ويلز، كما يعرض أجزاء نادرة لم يسبق عرضها، من أفلامه العديدة
التي
شرع في ابتكارها وإعدادها وتصويرها أحيانا، دون أن يتمكن أبدا من استكمالها
لأسباب
كثيرة معقدة يتطرق إليها الفيلم. ويقول الفيلم أيضا إن هناك أفلاما أخرى
كان ويلز
قد انتهى بالفعل من إخراجها لكنها لم تعرض قط لأسباب قانونية لاتزال قائمة
حتى
يومنا هذا. ولو قدر لهذه الأعمال أن تعرض الآن فلاشك أنها ستضيف الكثير جدا
إلى
تجربة أورسون ويلز السينمائية، وتفتح آفاقا جديدة للتعرف الحقيقي على حجم
موهبته،
بل وعلى قدرته الدائمة على الاكتشاف والابتكار والتجديد في الشكل
السينمائي، في حين
أن الكثيرين يتصورون أنه انتهى في تجديده عند رائعته "المواطن كين" (1941)
الذي
لايزال منذ ظهوره منذ نحو سبعين عاما، قادرا على تحدي الزمن، وعلى تحدي
الكثير من
الإضافات الفنية اللاحقة على ظهوره بسنوات بعيدة.
وكان ويلز في الرابعة والعشرين من عمره عندما أخرج هذا الفيلم الذي غير وجه
تاريخ السينما وأسس بشكل كبير، للـ"الفن السينمائي" في مقابل "الصناعة"
السينمائية.
وبعده، لم يستسلم ويلز كما يتصور كثيرون لمقاييس هوليوود السائدة، بل واصل
تجاربه
وابتكاراته، حتى أنه يمكن القول إنه يعتبر أعظم التجريبيين في تاريخ
السينما.
في
فيلم "جوقة رجل واحد" يستخدم لقطات عديدة للقاء التاريخي الذي جمع بين ويلز
قبيل
وفاته، وأعضاء معهد الفيلم الأمريكي
American Film Institute
أو مؤسسة دعم السينما
الأمريكية كتاريخ وثقافة، ومقرها نيويورك.
فقد أقام له هؤلاء حفل تكريم خاص
ومنحوه جائزة المعهد، ربما كانت الوحيدة التي حصل عليها طيلة حياته من
مؤسسة
أمريكية، عن مجمل إسهامه الفني في تطوير لغة السينما. وخلال اللقاء الذي
نشهد منه
لقطات متقطعة عبر المراحل المختلفة من الفيلم، يرد ويلز على سؤال بشأن
علاقته
بالجمهور فيقول بحسرة واضحة، إنه كان يسعى طوال حياته، للوصول إلى ذلك
الجمهور وليس
إلى القطيعة معه.
غير أن أفلام أورسون ويلز التي لم تختبر اختبارا حقيقا في سوق
الفيلم، واجهت في الحقيقة، صعوبات ومتاعب جمة وعراقيل من جانب شركات
الإنتاج
السينمائي في الولايات المتحدة، فقد وضع المنتجون أمامه العراقيل والشروط
الصعبة،
وارادوا إرغامه على الامتثال لشروط الإنتاج الأمريكي الذي يحسب طبقا
لدراسات جدوى
في الأسواق، في حين أن موهبته الجامحة كانت ترغب دائما، في تطويع إمكانيات
الصناعة
لخياله الخاص الجامح.
كان ويلز، المشبع تماما بالثقافة الحقيقية: الأدب والمسرح
الشكسبيري والفن التشكيلي وفن التصوير الفوتوغرافي والتمثيل المسرحي، أكثر
طموحا في
أفلامه من مجرد الطموح المعتاد للمخرج السينمائي. فقد كان يسعى إلى العثور
على
معادل يجمع هذه الفنون جميعها، في بوتقة واحدة، يمزجها بالتجربة الشخصية
للفنان،
يصبغها بصبغته الشخصية، ويدفع الحياة فيها والحركة إلى أقصاها. وكان
بالتالي، ينفق
الكثير من الوقت والجهد من أجل تحقيق غرضه دون كلل. ولم تكن شركات الإنتاج
السينمائي الأمريكي تستطيع ان تقبل بذلك, ومن هنا جاءت مشاكله، فقد أشيع
عنه مثلا
أنه لا ينهي أفلامه بسهولة، وأنه عنيف متقلب المزاج، في حين كان ويلز يتمتع
بطاقة
هائلة وقدرة فذة على العمل الشاق المتواصل، وإرادة لا تعرف الكلل، من أجل
تحقيق
أحلامه السينمائية الخاصة، والبحث عن تمويل مناسب لها، حتى لو أدى الأمر
إلى قيامه
بمعظم العمليات الفنية الأساسية بنفسه: الكتابة والتمثيل والإخراج
والإنتاج،
واحيانا المونتاج أيضا. وكان بالتالي نموذجا للمخرج صاحب الرؤية، أو ما
يعرف
بالمخرج- المؤلف بكل معنى الكلمة.
ويكشف فيلم "جوقة رجل واحد" عن طاقة ويلز
الهائلة، كما يلقي الأضواء على أعماله الطموح، التي لم يتوقف قط عن تطويرها
والابتكار فيها. ومن هذه الأعمال مثلا فيلم "الجانب الآخر من الريح"
The Other Side of the Wind
الذي يعرض فيلمنا هذا مشاهد عديدة منه للمرة الأولى. وقد انتهى ويلز من
تصوير الفيلم بالكامل إلا أنه لم يتمكن ابدا من عمل المونتاج له، وبالتالي
يظل
حبيسا في العلب.
ويقول فاسيلي سيلوفيتش، أحد مخرجي "جوقة رجل واحد"، إن الفيلم
لم يكتمل بسبب ما وقع من مشاكل بين طرفي الإنتاج فيه، وهما منتجان من فرنسا
وإيران،
وكان من الصعب للغاية أن يقوم أي مخرج آخر غير ويلز الذي توفي عام 1985،
بالإشراف
على المونتاج له، لأن المونتاج كان دائما المرحلة الاهم في العمل السينمائي
لدى
ويلز، وخلالها كان يمنح الفيلم طابعه المميز، وأسلوبه الشخصي، لكنه يرى أن
المخرجة
أوجا كودار، مساعدته، هي الوحيدة التي يمكنها استكمال الفيلم. وفي المشاهد
التي
تظهر هنا من "الجانب الآخر من الريح"، يتبدى بوضوح الطموح الفني عند ويلز
في بناء
المشاهد وتصميم الحر كة
في داخلها، واختياراته للألوان، ولقطاته الفريدة القريبة
(كلوز
اب).
وكان أورسون ويلز قد شرع في سنواته الأخيرة، في تصوير فيلم عن مسرحية
شكسبير
الخالدة "الملك لير" يقوم هو بدور البطولة فيه أي بدور الملك لير نفسه.
وكان لديه
مشروع آخر بدأ في تصويره عن مسرحية "تاجر البندقية" نرى منه ومن الفيلم
السابق
ذكره، لقطات فريدة تبرز قدرة ويلز الكبيرة كممثل من طراز فريد يميل إلى
التقمص
التام، والتعايش الكامل مع الشخصية التي يؤديها، كما صور أيضا بعض المشاهد
من فيلم
بعنوان "الحالمون" عن مجموعة قصص قصيرة للكاتبة الدنماركية كارين بليكسن
التي كانت
تكتب باسم إسحق دينيسين (وهي مؤلفة رواية "خارج افريقيا"
Out of Africa
الشهيرة
التي تحولت إلى فيلم بنفس العنوان حصل على عدد من جوائز الأوسكار). وكان
ويلز من
أشد المعجبين برواياتها وقصصها، وقد سبق أن أخرج للتليفزيون، فيلما عن إحدى
قصصها
هو فيلم "قصة لا تموت"
The Immortal Story
وكان ويلز قد شرع أيضا في تصوير فيلم
جديد عن الرواية التي يكن لها إعجابا كبيرا وهي رواية "موبي ديك" ومنح
الشخصية
الرئيسية فيه أبعادا جديدة من خلال رؤيته الخاصة لها، وادائه وأسلوب
إخراجه. وبدأ
ويلز تصوير الفيلم الذي لم يكتمل، في عام 1972 ثم توقف في العام التالي،
وهو لا
يقوم فقط في هذا الفيلم بالدور الرئيسي، بل بادوار أخرى ثانوية في نفس
الوقت.
الساحر
والساخر
في "جوقة رجل واحد" مشاهد عديدة مأخوذة من البرامج
التليفزيونية التي ظهر فيها ويلز كضيف ثابت، ابتكر اشكالا جديدة للسخرية،
منها ذلك
العرض التليفزيوني الذي كان يقدمه مع مجموعة من الدمى المتحركة، وعروض أخرى
كان
يمارس فيها هوايته الغريبة في القيام بأعمال السحر، وبرامج صورها في
بريطانيا
وأيرلندا وجسد فيها انطباعاته الساخرة عن الشخصية الإنجليزية والأيرلندية،
وغيرهما.
ويضم الفيلم ايضا لقطات نادرة صورتها المخرجة أوجا كودار لاورسون ويلز
أثناء قيامه بإخراج أفلامه الأخيرة، أوأثناء قيامه بالتدريبات التمهيدية
على
الأداء(البروفات)، كما يعرض الفيلم لرحلات ويلز العديدة خارج الولايات
المتحدة. لقد
كان ويلز ، على نحو ما، سينمائيا أوروبيا، هضم جيدا التراث الثقافي في
الأدب
والمسرح الأوروبي، وتاثر بهما، وربما كانت تلك الخاصية وراء الكثير من
أسباب إحساسه
الشخصي بالغربة والعزلة عن المجتمع الأمريكي، وهو إحساس نشعر به طوال
مشاهدتنا لهذا
الفيلم الوثائقي المدهش.
يضم "جوقة رجل واحد" ستين دقيقة من لقطات من الأفلام
المجهولة لاورسون ويلز، وثلاثين دقيقة من ذكريات زوجته الأخيرة كودار، عن
حياتهما
معا وعن نظرتها إليه، ليس فقط كزوج، بل كفنان مدهش، ومبدع كبير. وفي الفيلم
أيضا
لقطات من حفل تكريمه في معهد الفيلم الأمريكي، نرى كيف يوجه له أحد النقاد
سؤالا
يتعلق بعدم استكمال أفلامه الأخيرة، فيستنكر ويلز هذا القول، ويرفض
الاعتراف بأنه
توقف عن العمل، مصرا على أنه سيواصل العمل إلى أن ينتهي من هذه الافلام
قريبا. لقد
كان ويلز نموذجا للقدرة الدائمة على الاستمرار في العمل حتى آخر نفس في
حياته، وهذا
أهم ما يكشف لنا الفيلم عنه.
الأوسكار والنظام
لم يحصل أورسون ويلز على أي من جوائز
الأكاديمية الأمريكية لفنون السينما (الأوسكار9، لا كمؤلف بارز وكاتب
سيناريو، ولا
كممثل عظيم، ولا كمخرج من الرواد، بل ولا حتى عن فيلمه الذي أدهش كل رجال
صناعة
السينما في زمانه ولايزال يعد من أهم عشرة أفلام في تاريخ السينما، أي فيلم "المواطن
كين". ولم يحصل ويلز أيضا على جائزة الأوسكار التي تمنح تكريما للمخرجين
العظام عن مجمل أعمالهم السينمائية، لكن أعماله القليلة المكتملة التي
تركها، تتحدى
الأوسكار، وتثبت للمقارنة مع الأعمال الرفيعة في الفن. ومن هذه الافلام: "فالساتف"،
الذي استوحاه عن مسرحيات عدة لشكسبير، و"الرجل الثالث" الذي صوره في فيينا
بعد
الحرب العالمية الثانية، و"سيدة من شنغهاي"، و"آل أمبرسون العظام"،
و"المحاكمة" عن
رواية كافكا الشهيرة، و"لمسة الشر"، و"عطيل" الذي صوره في أربعة بلدان من
بينها
المغرب، وقد عرضت النسخة الكاملة منه للمرة الأولى في مهرجان كان السينمائي
عام 1993،
وفيلم "التزوير" وهو آخر أفلامه كمخرج.
كان ويلز قادرا على جعل الفيلم
السينمائي سينمائيا خالصا، يحمل بصمته الشخصية، أيا كان المصدر المأخوذ عنه
الفيلم،
سواء عن مسرحيات شكسبير أم عن القصص والروايات البوليسية، وسواء كان يحتوي
على
أبعاد فلسفية أم نفسية أم سياسية. وكان قادرا على أن يجعله أيضا، شديد
الجاذبية
ومختلفا تماما عما قبله. وكان يضطر إلى القبول بالتمثيل في أفلام عديدة،
حتى من تلك
التي لم يكن يحترمها كثيرا، من أجل تدبير بعض المال الذي يمكنه من مواصلة
عمله
كمخرج، يقوم أيضا بإنتاج أفلامه الفنية.
وهنا تحديدا، يكمن سر شقائه ومجده في
آن. فهو المتمرد الأعظم على "النظام" أي نظام الإنتاج التقليدي في هوليوود،
المتجاوز لعصره فنيا وفكريا، الطامح إلى خلق لغة سينمائية خالصة. إلا أنه
أيضا،
ضحية النظام الذي حاربه، ولفظه، وحرمه من فرصة استكمال الكثير من أفلامه
المدهشة
التي لا تزال تنتظر من يكملها، ويخرجها من معطف الساحر ويعيدها إلينا. ولو
قدر لهذه
الأعمال أن تعرض اليوم ستكون كفيلة بتغيير وجه السينما إلى الأبد.
الجزيرة الوثائقية في
05/05/2010 |