هي المرة الأولى ربما ، على ما نعلم، التي يتم فيها إنجاز فيلم روائي
فلسطيني، ولو قصير، بناء على واحدة من «الخراريف» الشعبية!.. ربما هي المرة
الأولى، نقول، ونحن نعرف أن السينما الفلسطينية الجديدة، في غالبيتها الأعم
تنتمي إلى سياق «سينما المؤلف»، حيث يتولى المخرج كتابة القصة والسيناريو
والحوار، وهو السياق الذي بات على شيوع واسع جداً في عموم السينما العربية،
طيلة ثلاثة عقود، منذ مطلع الثمانينات، على الأقل.
واتكاء الفيلم على شيء من «الخراريف»، مستلهماً «خرفية» بعنوان «شويش شويش»،
من كتاب «قول يا طير» الذي جمعه وحققه الأستاذ «شريف كناعنة»، لا يلهينا عن
حقيقة أن تحقيق هذا الفيلم، إنما هو في النهاية نتاج مسيرة طويلة، بدأت عام
2007، بالفوز في مسابقة السيناريو، وبالتالي حصول مخرجه على منحة إنتاج
جزئية، ومشروطة، اقتضت خضوع السيناريو لعمليات تطوير، بإشراف المخرج ميشيل
خليفي، عبر «ورشة كتابة السيناريو»، تلك التي جرت باعتبارها جزءاً من
«برنامج التدريب»، في إطار «المشروع الفلسطيني للمرئي المسموع»، الذي تقوم
به «مؤسسة عبد المحسن قطان»، بالتعاون مع «الاتحاد الأوروبي/ الشراكة من
أجل السلام»، و«القنصلية الفرنسية العامة في القدس».
تحقق فيلم «شويش شويش» عام 2008، وكان علينا الانتظار حتى نتمكن من
مشاهدته، على الرغم أنه شارك في العديد من المهرجانات، لعل من أبرزها
مشاركته في الدورة السابعة من «مهرجان البحر المتوسط للأفلام القصيرة»
المنعقد في طنجة 2009.
وخلال هذه الفترة، أي عام 2009، أطل علينا الفنان الشاب «رياض دعيس»، بصور
متعددة، لعل أولها وأبرزها دوره التمثيلي في فيلم «ملح هذا البحر» للمخرجة
الفلسطينية آن ماري جاسر، وقيامه بالعمل معها بصفة «مدير اختيار الممثلين»،
كما ظهر ممثلاً في الفيلم الروائي القصير «ليش صابرين» للمخرج الشاب مؤيد
عليان.
سنعرف أن «رياض دعيس»، ينتمي إلى الجيل الجديد من الشباب الفلسطيني ممن
درسوا وتعلموا وانخرطوا في ميدان العمل في مجال إنتاج وصناعة الأفلام. هو
درس إنتاج الأفلام في سان فرانسيسكو. كتب وأخرج ثلاثة أفلام قصيرة، عرضت في
مهرجانات دولية. يقيم في القدس، حيث يعمل في «مركز تطوير الإعلام في جامعة
بيرزيت»، كما يقوم بتحقيق وثائقيات، وتقارير تلفزيونية، وأفلام إعلانية.
ويعمل على تأسيس «جماعة السينما المتنقلة»، التي تقوم بعرض الأفلام في
القرى والمخيمات في الضفة الغربية.
هكذا يبدو «رياض دعيس»، طموحاً إلى حدّ كبير، حاملاً بجدية لمشروع سينمائي
لم تتضح ملامحه بعد، ولكنه يتلمس هذه الملامح، ويحاول تكوينها، ونراه يخط
دربه، على الرغم من الصعاب التي تواجه صانع الفيلم السينمائي الفلسطيني.
ولعلنا لا نبالغ حين نقول إنه نموذج للسينمائي الفلسطيني الشاب المجتهد،
فهو لا يكاد يترك فرصة للعمل في السينما، دون اغتنامها، بدءاً من العمل في
مجال الإنتاج، والتمثيل، والتدريب، وكتابة السيناريو، وصولاً إلى الإخراج.
هكذا كأنما السينما تغدو أسلوباً في الحياة، وطريقة في التعبير، وأداة
مقاومة، وسبيل إثبات وجود وحضور وهوية.
يعود فيلم «شويش شويش» إلى العام 1936، حيث كانت الثورة الفلسطينية الكبرى،
والاضراب الفلسطيني الكبير. يومها تحول قسط واسع من الفلاحين الفلسطينيين
إلى ثوار، حملوا ما تيسّر لهم من سلاح، ونهضوا بثورتهم ضد الانتداب
البريطاني، وقد رأوا المؤامرة تستكمل دوائرها، والكارثة تتحضر للوقوع.
لن نرى شيئاً من هذا على شاشة الفيلم، (كما يليق بفيلم روائي قصير)، بل
سندركه حالما نرى شخصية الفلاح «حرب»، وهو يأتي إلى مكان ريفي مقفر، ليس
فيه إلا أسرة فلاحية فلسطينية تتكون من أم عجوز، وابنها وابنتها.
يواري المجاهد بندقيته طيّ التراب، في دلالة على أن الثورة انتهت. وسندرك
أنه يريد الاختباء لدى هذه الأسرة، ريثما يتمكن من العودة إلى أهله في غزة.
وبمقدار ما يدل قدومه إلى هذا المكان على انتهاء الثورة، فإن هذا القدوم
سيتحول إلى ضوء كاشف يسلط أشعته على هذه الأسرة والعلاقات القائمة بين
أفرادها الثلاثة، وأحوالهم، ومشاغلهم.
سيساعد المجاهد هذه الأسرة في أعمال فلاحة الأرض وحرثها. ويبدو ماهراً، على
الرغم مما يشكوه من إصابة، ربما، في ساقه الأيمن. ولن تتوانى الأم عن
التعبير عن تقديرها لمجهودات «حرب»، فتقول له: «لولاك السنة الأرض كان ما
انحرثت»..
الابن، «سرحان»، من جهته سيبدو متأففاً ليس من حضور هذا الرجل فقط، بل
أيضاً من أعمال الحرث والزراعة.. حتى دابة الحراثة تبدو كأنها تعانده، فلا
يفتأ يلعنها واصفاً إياها «مجنونة»، فيما تتحول الدابة ذاتها إلى «عاقلة»
بين يدي المجاهد الذي تحول فلاحاً!
الابنة «نجمة» تنطوي على شيء من الأسرار، التي يفصح عنها الفيلم على مهل.
سنعرف أنها مطلقة، بعد أن تم تزويجها باستعجال، لمن لم يناسبها. وفي اليقين
أن النظرات المتبادلة مع « حرب» ، مشاهد تحسسها لأنوثتها المفرطة، ستطوف
بمظان المشاهدين إلى تخيلات وتوقعات، لن يذهب إليها الفيلم أبداً، بل
سيتوقف عند نهاية مفاجئة، ومدهشة في آن!
الأم؛ « أم سرحان «، وهي العنصر الأساس في الفيلم، والتي استقبلت المجاهد
الراغب بالتواري لديهم، والتي منحته كل عطف، وعناية، ورعاية، وقابلته
بالامتنان، على الأقل لما قام به من جهد في إعادة إحياء الأرض واستنقاذها
من مواتها.. سنكتشف أن لديها توقاً شديداً للوقوع على زوج، يسترها آخر
عمرها، وقد انقطعت بها السبل، بين ولد عاق وابنة معقوقة.
تتداخل الأحداث، وتتشابك، وقد بيّن الفيلم خلال 21 دقيقة فقط، هي مدته
الكاملة، طبيعة هذه الشخصيات، سواء بتكوينها، أو تاريخها، أو بحرمانها،
وبحثها المحموم عن مصير، مستقر، حلم مأمول، سلام داخلي.. أو ركضها وراء
مصالح ورغبات وشهوات ومنافع!.. في توافقها وتناقضها، وتضادها..
يقوم الفيلم بحكايته على أربع شخصيات فقط، يؤديها كل من: ربى بلال، صالح
بكري، حسين البرغوثي، ريم اللو.. فيما سنشهد مروراً بعيداً يؤديه الممثل
محمد شعيبي. وتدور أحداث الفيلم في بؤرة واحدة، لا تعدو أن تكون بيت الأسرة
الطيني المقبّب، وفسحة الأرض التي تمتلكها الأسرة وتزرعها. ومع هذا التقشف
الواضح على مستوى الشخصيات والمكان والأحداث، يحتقن الفيلم بالكثير مما
يمكن تلمسه، وملاحظته، والحديث عنه.
ننتبه إلى الأداء المتمكّن الذي يتولاه الممثلون، كلٌّ في دوره المرسوم.
فالفنان الشاب صالح البكري، الذي حقق حضوراً فنياً كبيراً خلال السنتين
الماضيتين، عبر العديد من الأفلام الفلسطينية والإسرائيلية (« ملح هذا
البحر» للمخرجة آن ماري جاسر، «الزمن الباقي « للمخرج إيليا سليمان، «
زيارة الفرقة» للمخرج عيران كوليرين)، سيقوم هنا بإضافة أخرى إلى حضوره
الفني المتميز، مستفيداً من بنيته الجسدية، وملامحه الحزينة، وعينيه
الزرقاوين، وطوله الفارع، وصوته الرخيم.
والفنانة ربى حسين، السمراء ذات الجمال المحدود بمواصفات فلسطينية عادية،
ذاك الطراز الذي يمكن رؤيته في المخيمات الفلسطينية، والذي لا يمكنه
اعتباره فاتناً، إلا أنها استطاعت بأدائها المعتمد على جوانياتها، وتعبير
عينيها، ولفتاتها، إضفاء حيوية على دورها..
وتمكنت الفنانة ريم اللو من تقديم صورة الأم الفلسطينية، بين عطفها وحنوها،
وغضبها ونفورها، وانسياقها وراء أوهامها، بأداء متوازن.. فيما لم يكن
الفنان حسين البرغوثي أقل مما هو مطلوب منه، منفراً من سلوكه، وتصرفاته،
وطبيعة علاقاته المزعجة سواء مع والدته، وأخته، وحتى حرب، على الرغم من رقة
ملامحه، وطراوة بنيته.
ويلفت النظر في الفيلم براعة التصوير، وذكاء الكاميرا، ونشاطها وهي تدور في
المكان، وتلتقط التفاصيل الدالة على ما لم يقله الفيلم. سنرى أن المخرج
يعتمد كثيراً على اللقطات الواسعة البانورامية، ربما ليذكرنا باتساع المكان
وخوائه، وانغلاقه رغم ذاك على شخصيات الفيلم المحدودة، التي يضيق عالمها
الخارجي كما عالمها الداخلي.
وإذ ينتقل إلى اللقطات القريبة، فإنما في لحظات الرغبة في التأكيد على
النبرات، وردود الأفعال، والتفاصيل المعبرة. كما في مشهد فزع المجاهد «حرب»
من صوت طائرة بريطانية تعبر الأجواء.. عندها، لن نرى الطائرة، لكننا سنقترب
مع الكاميرا إلى وجهه لندرك مدى الذعر الذي دبَّته في أوصاله.. يتلو ذلك
سخرية «سرحان « ، الواقف إلى أعلى صخرة، واصفاً إياه بالمجنون.
وعلى شريط الصوت، سيعمد المخرج إلى توظيف ما نسمع بشكل متناغم مع ما نراه.
ففي مشهد قدوم المجاهد هارباً إلى هذا المكان، نسمع نباح كلاب.. وسيكون
الصوت كافياً خلال مرور الطائرة، فيما يتعالى عواء الذئاب أو الضباع، وقد
تُركت الأم ليلاً في مكان قفر، لا تملك حولاً، ولا طولاً، إلا أن تصرخ: «لا
تترك أمك للضباع «
وفي كل حال، يمكن للمرء إبداء بعض الملاحظات على الفيلم، أو الحكاية ذاتها،
مع أنها «خريفة» فلسطينية، ربما أبرزها، من الناحية الاجتماعية، موقف الابن
«سرحان» تجاه والدته، خاصة عندما يقول عنها بأنها وحرث عجوز مستجوزة
وحرث!.. ومن الناحية السياسية الوطنية، ذاك الموقف عندما تاتي «نجمة» إلى
المجاهد «حرب» الذي تحول فلاحاً لديهم، فتسأله: «أنو أحسن: طخ النار وإلا
الحراثة؟..»، فما يكون من «حرب» إلا الإجابة: «الحراثة أحسن»!.. ليبقي
قولنا عالقاً في حلقنا: نعم الحراثة أحسن.. ولكن ليس والبلاد محتلة!
المستقبل اللبنانية في
11/04/2010 |