بعد أن عرفنا المخرج الفلسطيني نصري حجاج من خلال فيلمه الوثائقي الأول "في
ظل الغياب" الذي تتبع فيه حركة اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين من خلال
قبورهم المزروعة في كل مغارب الأرض ومشارقها،هاهو يطل علينا هذه الأيام
بفيلمه الوثائقي الثاني الموسوم بـ"كما قال الشاعر" الذي تحدث فيه عن حياة
الراحل محمود درويش وشعره وتجربته ولكن من خلال رؤية خاصة تبتعد عن النظرة
المباشراتية الموغلة في التصريح وتحاول الاقتراب من البعد التخييلي الرمزي
خاصة وأن الفيلم يتناول مسار شاعر عرف بالتلميح والترميز.
والفيلم رحلة عبر الكاميرا في تجربة شاعر فاضت روحه عن الممالك والمكان
ولاحقته العصافير والقوافي والنسائم في الزمان،هو الذي حاول أن يسقط عنه كل
جوازات السفر ويحلق في المدى والأعالي والأغاني فغنى وردد ومن ورائه رددت
أجيال وأجيال:
"كل العصافير التي لاحقت
كفي على باتب المطار البعيد
كل حقول القمح،
كل السجون..
كل القبور البيض
كل الحدود..
كل المناديل التي لوحت
كل العيون
كانت معي، لكنهم
قد أسقطوها من جواز السفر
عار من الاسم، من الانتماء؟ في تربة ربيتها باليدين؟
أيوب صاح اليوم ملء السماء:
لا تجعلوني عبرة مرتين
يا سادتي يا سادتي الأنبياء
لا تسألوا الأشجار عن اسمها
لا تسألوا الوديان عن أمها
من جبهتي ينشق سيف الضياء
ومن يدي ينبع ماء النهر
كل قلوب الناس.. جنسيتي
فلتسقطوا عني جواز السفر".
"كما قال الشاعر" هو محاولة من نصري حجاج لملامسة البعد الكوني في تجربة
محمود درويش والانطلاق من لحظة الفراق الصعبة والشعر المحرض على الحياة الى
معانقة قضايا الهوية والذاكرة والمكان والموت والحلم والانسان والشر
والخير، لذلك ابتعد عن الشهادات والمقابلات المباشرة وجمع في الفيلم كتاب
وشعراء من العالم سافروا في حقيبة محمود درويش الشعرية وقرأوا نصوصه
محاولين استرجاع اللحظة الابداعية الخالدة فحضر الكاتب البرتغالي الحائز
على جائزة نوبل جوزيه ساراماغو والكاتب النيجيري وول سوينكا "المنوبل" هو
أيضا والكاتب الأمريكي مايكل بالمر والسياسي والشاعر الفرنسي المعروف
دومينيك دوفيلبان والشاعر الكردي الكبير شيركو بيكاس والشاعر الفلسطيني
أحمد دحبور والشاعرة الالبنانية جمانة حداد.
هذا حوار مع المخرج نصري حجاج واسترجاع لحركة الكاميرا والصورة عبر الكلمات
التي تحاول أن تفسر الرؤية الفنية في فيلم "كما قال الشاعر" الذي سيعرض بعد
أيام في ضمن تظاهرة "اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقي بتونس" وعدة قضايا
أخرى ستكتشفونها تباعا.
·
فيلم عن محمود درويش بعد فترة
قصيرة من موته ألا يعتبر هذا تحديا كبيرا وتسرعا قد يسبب لك بعض العواقب؟
- لا أعتقد أن هناك نوع من التسرع في انتاج فيلم عن محمود درويش وذلك لأنني
على علاقة خاصة منذ أكثر من أربعين سنة بشعر محمود درويش وعالمه الوجداني
وأتابع كتاباته وتطور تجربته.ومن ناحية أخرى الفيلم لا يتحدث عن حياة محمود
درويش بالمعنى الوثائقي الكلاسيكي انما هو فيلم عن الشعر أكثر منه عن
الشاعر وعن معنى الموت في حياة الفلسطيني من خلال تجربة وشخصية مهمة مثل
شخصية محمود درويش.أنا أستطيع أن أزعم أنني أفهم وأحس كل كلمة يكتبها محمود
درويش والتحدي هو كيف تستطيع أن تصنع فيلما وتسميه وثائقي ويبتعد عن
الوثائقي الكلاسيكي ويقترب من عالم درويش ويصل الى قيمة شعره ههنا يكمن
التحدي حسب رأيي وطبعا التقييم الأخير يبقى من مشمولات النقاد والجمهور.
·
كيف وجدت تجاوب الجمهور والنقاد
بعض عرض الفيلم في بعض الدول العربية؟
- هناك أناس أحبو الفيلم بشكل جيد وهناك نقاد كتبوا عن الفيلم بشكل ممتاز
جدا مثل الناقد السينمائي المصري الذي يعيش في بريطاننيا أمير العمري وكذلك
الناقد الأردني ناجح حسن وقد كتبت عدة مقالات جيدة في كثير من الصحف
العربية والعالمية، والجمهور بشكل عام أحب الفيلم غير أن هناك نوعية معينة
من الجمهور في رام الله قد جاؤوا لمشاهدة الفيلم وفي ذهنهم أنهم سيشاهدون
محمود درويش الذي يعرفونه وعاش معهم وهذه الفئة من الجمهور تظن أن درويش
ملك لها وحدها وبالتالي أثرت هذه النظرة على مشاهدتهم ورأيهم.
أنا لم أقم بهذا الفيلم لإرضاء أي أحد، وإنما قمت بهذا الفيلم حسب رؤيتي
لشعر محمود درويش ولمعنى ومغزى الموت لذلك هناك من لم يعجبه هذا الفيلم
وهناك من طالب بقصائد معينة كسجل أنا عربي وعابرون في كلام عابر وأنا زين
الشباب وفارس الفرسان.بينما أنا اخترت القصائد التي تعني لي شيئا مهما في
حياة محمود درويش دون الدخول في المباشرة لأنه هو نفسه لم يكن يحب هذه
النوعية من القصائد.
·
*تحدتث كثيرا عن الجانب الذاتي
في هذا الفيلم، فهل يعني هذا أنه ملتصقا بذاتك أكثر ماهو موضوعي وموجه الى
الجمهور؟
- طبعا أنا لا أقدم دراسة سوسيولوجية عن محمود درويش وانما أقدم رؤية خاصة
بي عنه وعن الموت بشكل أساسي والخيارات الشعرية التي اخترتها ليلقيها
الكتاب والشعراء الذين صورت معهم والتسجيلات الشعرية بصوت درويش لها معاني
فلسفية تتعلق بالموت والحياة والمنفى والحب والهزيمة واحتمال الانتصار وهذه
الاختيارات هو ما أحسه أنا من شعر محمود درويش.
·
هل هناك جوانب خفية من حياة
درويش سيشاهدها المشاهد أم أنها مجرد رحلة تتبع للأماكن التي عاش فيها
درويش؟
- ليس هناك جوانب خفية لأنني لا أحكي سيرة محمود درويش الشخصية، أنا أقدم
فيلما له رؤية خاصة لذلك لام علي بعض من جمهور رام الله وقالوا لي لماذا
ليس هناك مقابلات ولماذا لم يتحدث مثلا سارماغو أو سوينكا أو مايكل بالمر
أو دوفيلبان عن محمود درويش؟ وهذا لم يكن ضمن نظرتي الفنية لأنه بنظري ليس
هناك أي شخص مهما كان اسمه يمكن أن يقدم اضافة على أهمية وعظمة محمود درويش
في حديثه وشهادته عن هذه القامة الابداعية.من هنا أزحت وابتعدت منذ البداية
عن موضوع المقابلات والشهادات المباشرة بل انك على طول الفيلم لا ترى محمود
درويش وانما تسمع صوته فقط وهذا يغلب الجانب الايحائي والخيالي والرمزي في
الفيلم.ما يهمني هو الصوت والقصيدة لأنه في نهاية الأمر الذي سيبقى من
محمود درويش هو شعره وصوته الى الأبد وينتقل من جيل الى جيل في ضمائر
الناس.
·
من هم أبرز الشعراء الذين قرأوا
شعر درويش؟ وكيف تمت عملية الاختيار؟
- هناك الكاتب البرتغالي المتحصل على جائزة نوبل للآداب جوزيه ساراماغو
وأيضا الكاتب النيجري وول سوينكا وهناك السياسي المعروف والشاعر الفرنسي
دومينيك دوفلبان والشاعر الامريكي الكبير مايكل بالمر وأهم شاعر كردي معاصر
هو شيركو بيكاس الذي يعتبر محمود درويش الأكراد وهناك شاعر اسرائيلي اسمه
اسحاق لاؤور وهو من الشعراء المناهضين للصهيونية والاحتلال وله مواقف
متميزة في هذا المجال ونذكر أيضا الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور والشاعرة
اللبنانية جمانة حداد والشاعرة الفلسطينية الشابة داليا طه وهي تمثل الجيل
الجديد.
وقد حاولت في عملية الاختيار أن أبتعد من الأول عن الكليشيهات وعن الشخصيات
التي أرتبط ذكرها عند الناس باسم محمود درويش، فكلما ذكر سميح القاسم ذكر
محمود درويش ونفس الشيء بالنسبة لمرسال خليفة وماجدة الرومي، ببساطة أردت
أن أبتعد عن كل ماهو متوقع وذلك لايماني أن درويش ليس شاعر قبيلة أو منطقة
جغرافية معينة وإنما هو شاعر كوني انساني شمولي.
·
ولكن هناك من اتهمك أنك غيبت
قصدا أسامي مثل سميح القاسم ومرسال خليفة وسليم بركات رغم علاقتهم الوثيقة
بدرويش؟
- أنا لا أفهم لماذا الاصرار على أسامي معينة؟ ولماذا الاصرار على أن يقرأ
سميح القاسم شعر محمود درويش ولماذا الاصرار على سليم بركات رغم علمي
بعلاقته الوثيقة بمحمود درويش.. ولكن درويش قبل أن يعرف سليم بر كات كان قد
كتب سنة 1969 قصيدة اسمها "الى كردستان" وترجمت الى اللغة الكردية والاكراد
الذين كانوا مضطهدين اعتبروا هذه القصيدة كمنشور تضامني من شاعر مهم مثل
محمود درويش ومن هذا المنطلق أخترت أن يكون الشاعر الكردي الذي سيقرأ شعر
درويش يكتب باللغة الكردية وليس باللغة العربية وسليم بركات كما نعرف كلنا
يكتب باللغة العربية.
أما بالنسبة لمرسال خليفة فأنا اخترت منذ البداية بالنسبة للموسيقى أن
أبتعد عن آلة العود لأنني أعتبر محمود درويش شاعر كوني لا تحدده جغرافيا
ولا قبيلة ولا عشيرة ولا شعب واحد، والعود يذهب مباشرة بالمشاهد الى الشرق
بمعنى أن هذا فيلم عن شاعر من الشرق وهو ما أردت الابتعاد عنه وحاولت أن
تكون الألة الموسيقية بهذا الفيلم ألة كونية وهي ألة البيانو التي تعبر عن
الشرق وعن الغرب..وأنا شخصيا لا أميل الى آلة العود.
·
*عفوا عن المقاطعة أستاذ نصري،
ولكنك تتحدث عن فيلم يحاول أن يبرز الهوية والعود هو معبر جيد عن البيئة
العربية والهوية؟
- لا هذا ليس شرطا أن يكون العود هو المعبر عن الهوية وانما الشعر هو الذي
يعبر عن الهوية.. أنا لا أحب هذا النموذج الموجود في أغلب الأفلام
الوثائقية العربية الذي يحضر فيه الحزن والشجن من خلال ألة العود،أنا حاولت
أن أبتعد عن هذا وأقدم رؤيتي الخاصة وأعتقد أن موسيقى الفنانة اللبنانية
هبة القواس قد قدمت وشكلت اضافة في هذا الفيلم وكان العزف ارتجاليا وهي
تظهر في الفيلم بعزفها وكأنها تقرأ شعر محمود درويش من خلال موسيقاها.
·
ونحن نتحدث عن الموسيقى هل حاولت
أن تعطي أهمية كبيرة وتبرز هذا الجانب خاصة أن الفيلم يتحدث عن شاعر متلبس
بالايقاع والغنائية والموسيقى؟
-الموسيقى بالنسبة الي في هذا الفيلم ليست موسيقى تصويرية وانما هي جزء لا
يتجزأ من الفيلم وكما يقرأ مايكل بالمر وبقية الشعراء شعر محمود درويش
بلغات مختلفة كانت هبة القواس تقرأ درويش من خلال موسيقاها،وهي تعزف في
الفيلم ارتجاليا ولم تكتب الموسيقى مسبقا وهذا ما شكل اضافة والشيء الوحيد
الذي طلبته منها أن تعزفه دون ارتجال هو لحن أي أغنية لمحمد عبد الوهاب في
مشهد بيت محمود درويش الذي كان يحب كثيرا هذا الموسيقار،وأنا حينما ذهبيت
الى بيته في عمان للتصوير وفتحت جهاز التسجيل لأعرف أخر أغنية كان يستمع
اليها وجدت "س دي" لمحمد عبد الوهاب لذلك أخترت أن تعزف هبة القواس أي
أغنية لعبد الوهاب.
·
خلفت مشاركة الشاعر الاسرائيلي
اسحاق لاؤور في الفيلم بقراءة بعض المقاطع من شعر درويش، تساؤلات وردود فعل
كثيرة خاصة أن القراءة كانت باللغة العبرية فلو توضح لنا سر هذا الاختيار؟
- محمود درويش هو ابن فلسطين التي هي محتلة وساحة صراع دائم ومستمر، هذا
العدو رغم جبروته وغطرسته فإن مكانة درويش وأهميته فرضت على هذا الكيان أن
يترجم درويش وأن يعترف به لأنه شاعر الشعب الفلسطيني انطلق من فلسطين وعانق
الكونية.
وهذا الاعتراف بأهمية محمود درويش كشاعر هو اعتراف بحضور السعب الفلسطيني
الذي حاول الكيان الصهيوني على مر التاريخ نفيه من الوجود.. اسحاق لاؤور
شاعر اسرائيلي تقدمي معاد للصهيونية والاحتلال ويكتب شعرا ينقد هذه الأوضاع
وهذا الواقع وهو صديق للشعب الفلسطيني وترجم الى اللغة العربية، وهذا
الشاعر كانت تربطه علاقة صداقة بمحمود درويش وقد أبدى استعداده أن يشارك
بالفيلم وأنا رحبت بهذه الفكرة لأنني كنت أبحث عن شاعر اسرائيلي تقدمي
لأنني أريد أن يسمع الجمهور شعر درويش باللغة العبرية، أي اعتراف العدو
ولغة العدو بهذا الشاعر الكبير.
وشارون نفسه كان يقول إنه يشعر بالغيرة من درويش لأن شعبه يحبه ولديه اجماع
حوله.. وقصائد محمود درويش مترجمة الى اللغة العبرية وهو حاضر بقوة في
الثقافة الاسرائيلية وقد حاولت أن أظهر هذا في الفيلم عبر عديد المشاهد فما
الضرر إذن أن يقرأ شاعر اسرائيلي شعر درويش باللغة العبرية ما دام هذا فيه
نوع من الاعتراف بالثقافة الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
·
هل يعتبر هذا الفيلم تكملة لفيلم
"في ظل الغياب" والقبر الذي كان ينقص رحلتك السابقة في البحث عن القبور
الضائعة؟
-حتى أكون صريحا معك كنت أتمنى أن لا انجز هذا الفيلم بهذا الشكل وأن لا
يظهر قبر درويش لأن فقدان هذا الشخص يعتبر قمة الكارثة والتراجيديا
الفلسطينية خاصة في هذا الوقت وهذه اللحظة العصيبة وكأن الانهيار الحاد
الموجود على المستوى الفلسطيني- وأنا أعتقد أن هناك انهيار بالواقع
الفلسطيني وانقسام حاد وصعود لأصولية اقصائية حادة وتفتت واحتلال بشع لا
يريد أن يتنازل- كأنه قمة المأساة وكأن رحيل محمود درويش بهذه اللحظة يشبه
أسطورة اغريقية يذهب البطل فيها في النهاية كذروة للانهيار الكامل.. قلت
أتمنى أن لا أنجز هذا الفيلم مع أنني كنت سنة 1991 في دائرة الثقافة بتونس
تحدتث مع محمود حول فكرة انجاز فيلم مستوحي من احدى قصائده الطويلة وهي
قصيدة "الهدهد" التي تحتوي على نفس صوفي كبير وهناك بعض المشاهد في "فيلم
كما قال الشاعر" مستوحية من تلك اللحظات التي تحدتث فيها مع محمود
درويش.ومن هنا فأعتقد أن هناك هذه الحالة الفلسطينية المرتبطة بالموت
ومثلما هناك في فيلم "في ظل الغياب" حضور لمعاني الموت للأسف تحضر حالة
الموت في هذا الفيلم من خلال لحظة رحيل محمود درويش.
·
*بين تتبع خطى وأثر فراشة درويش
وملاحقة رائحة الوطن في ذاكرة المكان كيف استطاعت حركة الكاميرا أن تقتنص
اللحظة الفنية الجمالية؟
- أنا اعتمدت على عنصر أساسي في الفيلم هو الفراغ من خلال الأماكن التي عاش
فيها درويش مثل بيته بعمان أو بيت أمه وغرفته بالجديدة أو السرير الذي توفي
عليه في المستشفى بهيوسطن وكذلك في قريته البروة التي صارت مستوطنة
اسرائيلية وفي المسارح التي قرأ فيها مثل المسرح البلدي بتونس والأديون
بباريس ومدرج جامعة دمشق وجرش وقصر رام الله الثقافي وغيرها من
الأماكن..يعني كانت الكاميرا تتحرك بالفراغ لترصد الحضور عبر الابداع
وحساسية تحريك الكاميرا الذي قامت به مديرة التصوير اللبنانية جوسلين أبي
جبرايل وهي امرأة أعتز بصداقتها وحرفيتها وهي قارئة نهمة لدرويش وتحب
شعره.والى جانب هذه الحركة كان هناك مشاهد متخيلة تحضر ببعدها الرمزي
وبعدها المباشر من خلال احساسي بشعر محمود درويش مشهديا وروائيا.وبهذا
المعنى أقول أن الكاميرا استطاعت أن تلتقط الاحساس الذي أردت ايصاله
للمشاهد وعن جدارة أستطيع أن أؤكد أن الصورة هي عنصر أساسي في نجاح هذا
الفيلم.
·
أنت لك علاقة خاصة بالمكان
وبذاكرة المكان وفيلمك السابق "ظل الغياب" كان تتبع لحركة المكان من خلال
القبور والأن تتبع حركة درويش من خلال الأماكن التي عاش فيها فما سر هذه
العلاقة الخاصة بالمكان؟ وهل هذا نتيجة لحالة الفقد التي تعيشها ويعيشها كل
فلسطيني؟
-أنا مشكلتي الأساسية تاريخيا هي البحث عن المكان ولا أقيم وزنا
للزمان،بمعنى أنني في هذا العمر المتقدم في نهاية العقد السادس مازلت أحس
أن لي مشاريع كثيرة يلزمها أكثر من أربعين سنة.مشكلتي مع المكان أنني ولدت
في مكان هو لا مكان،ولدت في مخيم لا هو قرية ولا هو مدينة شيء هجين اخترعوه
على اثر نكبة 1948 ليقيم فيه خليط من المهجرين واللاجيئن الفلسطينين الذين
قدموا من مدن وقرى مختلفة.ولدت في خيمة مفروضة على عائلتي وعشت 28 سنة
الأولى من حياتي في مكان لا أعرف حتى ماذا يسمى من الناحية السوسيولوجية
وبذلك تولدت عندي حالة من الفقد،وبالتالي أعتقد أن اشكالية المكان لا
تشملني أنا فقط وانما تشمل كل الفلسطينين الذين عاشوا حالة من التشرد
والغربة.نحن لا نملك حتى جواز سفر الذي قد يعطيك احساس بالمكان.من هنا
فالمكان حاضر بقوة،حاضر بغيابه وبحضوره،حاضر بالبحث عنه دائما وبالاحساس
بالرعب والألم والوجع والفقد والخسارة.
·
بين الفيلم الوثائقي والفيلم
الروائي،هل كان فيلم "كما قال الشاعر" أكثر قربا من الوثائقية أم فيه جانب
روائي خفي؟
- في اعتقادي أنه رغم عراقة الفيلم الروائي تاريخيا وامتداه في الزمن،فانه
ليس هناك حتى اليوم اجماع حول هذه المسألة،بل هناك دائما نقاشات وتساؤلات
حول هوية الفيلم الروائي وأين حدود الفيلم الروائي وحدود الفيلم الوثائقي.
ومع ذلك بالنسبة الي "كما قال الشاعر" هو فيلم وثائقي ولكن ليس بالمعى
التقليدي أي أنه لا يقدم معلومة جاهزة عن شخصية محمود درويش وانما هناك
ايحاءات وتخييل يساعد المشاهد على استنباط المعلومات واكتشاف المواضيع
والأماكن.
فمثلا حالما يبدأ الفيلم بلوحة تعزف فيها هبة القواس على البيانو وبدل
النوتة الموسيقية نشاهد على البيانو قصيدة لاعب النرد بخط يد محمود درويش،
وهذا ايحاء خفي يأخذنا أيضا مع العزف الى قرية البروة ونقول "البروة فلسطين
يولد الأن طفل وصرخته في شقوق المكان" وقد اخترت عناوين الأمكنة بالفيلم من
شعر درويش ولم أكتبها أنا عكس ما هو دارج في الفيلم الوثائثي.
ثم نذهب من البروة الى الجديدة أين عاش حتى خروجه من فلسطين نهائيا سنة
1970 ونشاهد هذه الكلمات " الجديدة فلسطين في بيت أمي صورتي ترنو الي ولا
تكف عن السؤال" وبعد ذلك يتم الانتقال الى الغيوم والسرير الذي توفي عليه
بالمستشفى ومن ثمة ننتقل الى الجنازة التي لم أضع فيها تابوتا وانما نشاهد
جماهير غفيرة تحمل علم فلسطين وكأن فلسطين هي التي ماتت بموت درويش وهذا
كله نشاهده عبر ايحاءات مختلفة ولا نقوله بصفة مباشرة.
اذن الفيلم هو وثائقي وروائي في نفس الوقت،هو من نوع الوثائقي الذي يدفع
المشاهد الى التأمل واستنباط المعلومات وليس هناك صيغة مباشرة لذلك لم يكن
هناك مقابلات مثلا.ومن خلال الشعراء العالميين الذين يقرأونه نمرر هذا
البعد الكوني في شعر درويش وتجربته دون حاجة السقوط في اللغة المباشرة
والتصريح بالمعلومات الكثيرة التي عادة ما نقرأها في الدراسات الأدبية.أنا
أستطيع أن أزعم أن هناك في فيلم "كما قال الشاعر" نوع من تحديث لغة الفيلم
الوثائقي لأنني أتحدث عن شاعر وليس عن سياسي أو حرفي.
·
لماذا لم تضم قائمة الشعراء
الذين قرأوا شعر درويش شاعر من تونس رغم علاقة درويش الكبيرة بتونس؟
- ولم يوجد شاعر سوري أيضا ولا شاعر عراقي ولا شاعر مصري ولا شاعر مغربي
ولا شاعر بحريني.. في هذا الفيلم لم تكن تهمني السياسة ولا التوزيع
الجغرافي العربي يهمني،أنا أتحدث عن الأماكن كما أحسها ومن منطلق تأملي
وجداني عاطفي.العرب الوحيدين الذين قرأوا هم فلسطينيون ولبنانية لماذا هذا
الاختيار؟ لأن التجربة الفلسطينية هي أهم تجربة في حياته الانسانية
والشعرية ثم أيضا التجربة اللبنانية لأن محمود درويش عاش في لبنان من سنة
1971 الى سنة 1982 وعاد الى لبنان عدة مرات وأثرث فيه التجربة اللبنانية
كثيرا على المستوى الشعري، لبنان هو مجلة شعر والحداثة بالشعر،لبنان هو
الشعراء الكبار في العالم العربي مثل أدونيس ويوسف الخال ونزار قباني وأنسي
الحاج وسعدي يوسف ومظفر النواب وشوقي أبو شقرا.اذن هذا الاختيار مرتبط
بمفاصل التجربة الشعرية عند محمود درويش وليس العلاقة الحميمة ببلد دون
غيره،فالكل يعرف العلاقة الكبيرة التي تربط درويش بتونس والمكان الوحيد
الذي بكى فيه درويش هو المسرح البلدي بتونس وهذا شيء عاطفي مهم جدا.. من
هنا فأنا اخترت المكانين اللذان أثرا بشكل واضح وقوي في تجربته الشعرية
وهما فلسطين ولبنان ولذلك قمنا يوم 4 فيفري بعرضين في نفس الوقت والساعة
والدقيقة بحيفا في فلسطين وببيروت.
·
هل حاولت في هذا الفيلم الخروج
من ربقة الموضوع المقيد المختصر في محمود درويش والتحليق في سماء المطلق
واستحضار أسئلة الهوية والذاكرة والموت والحياة والحلم والشعر باعتبار ان
"السينما هي الحلم" كما يقول هيتشكوك؟
- أعتقد أن هذا يبقى من مشمولات المشاهد الذي سيقيم نجاح الفيلم في التطرق
الى هذه القضايا المهمة أم فشله.أنا حاولت أن أقترب من شعر محمود درويش من
خلال الصورة والموسيقى وبقية التقنيات السينمائية، حاولت أن أقترب من عمق
الصورة في شعر درويش هل نجحت في هذا أم لا؟ لا أعرف هناك من أعجبه الفيلم
وهناك من لم يعجبه.. ولكنني حاولت من خلال رؤيتي الخاصة أن أنطلق من شخصية
درويش لملاسمة معاني وقضايا متنوعة مثل الموت والوطن والهوية والشعر.
·
هل تعتبر الترجمة من والى
العبرية تطبيعا أم أن ذلك يدخل في اطار الحوار الثقافي حسب رأيك؟
-هي ليست قصة حوار ثقافي وانما السؤال هو كيف نستطيع أن نحارب عدو دون أن
نعرف لغته أو أدبه أو مسرحه أو سينمائه أو موسيقاه وبالنهاية ثقافته؟.وقد
قرأت أخيرا دراسة مهمة لموسيقى فلسطيني اسمه خالد جبران يتحدث فيها كيف
استطاع الاسرائيليون على مر التاريخ ومنذ بداية الاحتلال، أن يسرقوا
الموسيقى الشرقية ويدخلوها في موسيقاهم وكيف وظفوا الموشحات والمألوف
والقدود في أغانيهم الدينية.. من هنا اذا لم أستمع الى الموسيقى
الاسرائيلية كيف سأكتشف سرقاتهم؟اذا لم أقرأ الرواية الاسرائيلية كيف
يمكنني أن أعرف كيف يتحرك المجتمع الاسرائيلي خاصة أن الرواية تعكس واقع
المجتمعات.اذا لم أشاهد المسرح الاسرائيلي كيف سأفهم نمط تفكير المجتمع
الاسرائيلي؟ أنا قرأت مسرحيتين لكاتب اسرائيلي اسمه هانوخ ليفن توفي سنة
1999 وتأسفت كثيرا لأنه مات قبل أن أتعرف عليه،لأن هاتان المسرحيتان من
أجمل ما قرأت وفيهما ادانة للجرائم الصهيونية والعنصرية والاحتلال،فكيف
سأستطيع أن أعرف أن داخل المجتمع الاسرائيلي هناك مبدعون وكتاب يحاولون
خلخلة الصورة السيئة التي يحاول النظام الاستعماري الصهيوني أن يكرسها
ويناصرون القضية الفلسطينية؟
حسب رأيي لابد من السعي الى التعرف على الأدب والسينما والمسرح والموسيقى
الاسرائيلية وكل هذا يدخل في باب التعرف على العدو وثقافته وهذا سيعود
بالفائدة علينا بالنهاية.. لماذا لا تترجم مثلا رواية "باب الشمس" الى
العبرية حتى تتعرف الأجيال الصهيونية الجديدة على وجهة نظرنا وكيف غيرت
الحقائق وكيف زور التاريخ.هذا الاسرائيلي ليس هو فقط جندي داخل دبابة وانما
هو انسان في نهاية الأمر.وأعتقد أن من أهم الأشياء في شعر محمود درويش هو
أنه استطاع أن يؤنسن هذا الاسرائيلي حتى يفهمه.يجب أن نتعرف على هذه
الثقافة الاسرائلية ثم نحاكمها.
·
هل تعتقد أن السينما الفلسطينية
بمختلف اتجاهاتها استطاعت أن تخدم القضية الفلسطينية؟
- هذا أكيد فحينما يكون لديك سينمائيين مثل ايليا سليمان ورشيد مشهراوي
وهاني أبو أسعد ويقومون بأفلام سينمائية ويشاركون بمهرجانات دولية طبعا هذا
رفع لاسم فلسطين وتثبيث للحضور الفلسطيني في هذه المحافل الدولية، وعلى
الرغم من كل المشاكل التي يعيشها الشعب الفلسطيني هناك حالات ابداعية جيدة
في السينما وهذا يدعو للفخر والاعتزاز.
·
هل نجحت الثقافة فيما فشلت فيه
السياسة؟
- دائما الثقافة تنجح أكثر من السياسة وهذا يشمل كل الشعوب في العالم.مثلا
الكاتب النيجيري وول سوينكا أهم من كل السياسيين في نيجيريا لأنه كاتب أتبث
حضوره في كل العالم وتحصل على جائزة نوبل للأداب، كذلك الكاتب البرتغالي
الكبير جوزيه ساراماغو ماذا تعني البرتغال من دونه ومن دون أمثاله من
الكتاب.
العرب أنلاين في
31/03/2010 |