أربعة أيام في مدينة تطوان المغربية هي في الواقع ضعف تلك المدة، حيث اليوم
يومان في انقسامه بين صباحات الفندق البحري، مكان إقامة بعض الضيوف،
ومساءات وسط البلد حيث تُقام عروض أفلام المهرجان الدولي لسينما بلدان
البحر الابيض المتوسط. المهرجان بصبغته المتوسطية حاضر أكثر في جغرافيا
المدينة مما هو في قلبها وفي الواقع والفعل. نحن في مدينة متوسطية، تحتفل
بمرور ربع قرن على انطلاق مهرجانها، لقاء سينمائياً في البداية ومن ثم
مهرجاناً متخصصاً بالسينما المتوسطية. والتسمية لم تنطلق من التسليم بوجود
ما يميز هذه السينما بخصائص تدرجها في إطار "المتوسطية"، بقدر ما كانت
تحديداً جغرافياً لخارطة المهرجان الذي أدرك منظموه منذ البداية صعوبة
اعلانه مهرجاناً دولياً، اي في مسابقاته، ومحدودية تخصصه بالسينما العربية.
فتطوان مدينة مفتوحة على المتوسط، من إحدى ضفافها يمكنك ان تشاهد أضواء
إسبانيا. انها بهذا المعنى، ولأسباب تتعلق بالهجرة بالطبع والصلات
التاريخية، أقرب الى اسبانبا مما يجمعها هي الى لبنان وفلسطين مثلاً. أو
لنقل ان الأرضية المشتركة ظاهرة للعيان هنا، فيما هي تحتاج الى اكتشاف
بالنسبة الى البلدان المتوسطية الاخرى. والواقع ان أحداً، لاسيما في العالم
العربي، لم يعد يهتم بمسألة التسميات والتخصصات في ما يتعلق بالمهرجانات.
فكلنا يدرك انها واجهة، تفاعلية أحياناً وثابتة في أحيان أخرى. ولكن شاءت
الصدف ان يستضيف المهرجان هذا العام فيلماً "خلافياً"، يصب في صلب الموضوع
والنقاش حوله. "الطريق الخطأ"
Off Course شريط وثائقي للايطالي سالفو كوتشيا، عُرض في ثاني أيام المهرجان في
إطار مسابقة الأفلام الوثائقية. يتخذ الشريط من رحلة المصور الفوتوغرافي
الفرنسي انطوان جياكاموني سردية اساسية. فذلك المصور الذي عُرف بارتكاز
عمله لسنوات طويلة على تصوير مشاهير الموسيقى بتقنية خاصة (من خلال
المرآة)، تعرض قبل عقد او اكثر لفقدان بصره. بعد أشهر من المعاناة، استعاد
بصره ولكنه قرر ان يأخذ عمله الفوتوغرافي في اتجاه مختلف هو تصوير الناس.
يزاوج الفيلم بين ثلاثة خطوط. الخط الأول يتكون من رحلة المصور عبر بلدان
متوسطية مختلفة، عرّفها المخرج خلال تقديمه الفيلم بأنها رحلة خارج حدوده.
وإذا استعدنا ما قاله المصور في البداية، نقلاً عن انطوان دو سانت إكزوبيري
من "الأمير الصغير" من ان المرء يرى الاشياء افضل بقلبه وانه لا يستطيع ان
يرى الاشياء المهمة، ندرك ان رحلة "أنطوان" انما هي محاولة التقاط ما لا
يمكن التقاطه. انه بالمعنى الكلاسيكي وربما التقليدي بحث عن "الحقيقة" من
خلال شخصيات، حكاياتها أو كنه وجودها مرتبط بمظهر حياتي او قيمة كالموسيقى
والدين والزواج والعائلة والشعر والفلسفة... من خلال هؤلاء، يبحث انطوان عن
المعنى او الحقيقة ليكتشف لاحقاً ان جميعهم اوجه تكمل بعضها البعض. على خط
آخر، يطرح الفيلم، تحديداً من خلال الشاعر والمفكر أدونيس وأحد المؤرخين
الفرنسيين، نقاشاً حول تاريخ المنطقة او بمعنى ادق حول مواصفات
"المتوسطية". لا يدعي الشريط تحليلاً ودراسة معمقين لتلك الحالة المتوسطية
اذا جاز التعبير، ولكنه يطرح أسئلة ويضيء على جوانب تاريخية وحضارية
وثقافية. لا يخلو الفيلم من كليشيهات كمثل تركيزه على "الصوفية" كحالة
دينية جمالية، باتت، بسبب من تداولها، تحتاج الى النقد أكثر مما تحتاج الى
التسليم بها. كذلك، خلّفت رحلته في بلدان متوسطية اسئلة حول اسباب تجاهل
فلسطين واسرائيل، كصراع ارخى بظلاله على المنطقة منذ اكثر من نصف قرن
ولاتزال مفاعيله قائمة. ولكن بعيداً من ذلك، يحتفظ الفيلم بقيمة انسانية
لجهة ما يقدمه من نماذج خاصة، تطرح بخصوصيتها ما يتجاوز تجربتها الفردية.
ولعل اكثر ما يمنح الفيلم "شرعية" مقاربته الجمالية التي تستحضر تجربة
مخرجه في مجالات فن الفيديو والتجهيز. فصورته كناية عن طبقات متداخلة،
يتجاور فيها التوثيق مع صورة حميمة للشخصيات، تحاول ان ترسم علاقاتها
بالأمكنة. ويعتمد الفيلم في جزء منه على سرد متخيل، القصد منه اسباغ
مقاربته بالشعرية ولكنه في الواقع يأخذ الفيلم في اتجاه آخر، يسكنه الحنين
الى ماضٍ غابر لا يخلو من اسطورية. الشخصيات هي بطلة هذا الفيلم وهي
بتجاربها المتفردة تحيل على المكان، أو تقود اليه، بوصفه تاريخاً وجغرافيا
والأخير يطرح السؤال المركزي: ما هي المتوسطية؟ وبقدر ما تحتاج الاجابة عنه
الى بحث معمّق وتحرٍّ حول وجودها قبل مناقشة مواصفاتها، بقدر ما استطاع هذا
الشريط ان يسكن قلب المهرجان في وصفه اختزالاً له وعلامة استفهام حوله في
آن معاً.
كان هذا الشريط ليصلح افتتاحاً للمهرجان من دون شك. ولا ندري تماماً اذا ما
كان هذا الاحساس يولده الفيلم ام انه نتيجة الاستياء من فيلم الافتتاح
الفعلي "ولاد البلاد" للمغربي محمد اسماعيل، الذي "توّج" ليلة افتتاح طويلة
من الخطب والتقديمات والتكريمات. فباستثناء القيمة المعنوية لتكريم الممثلة
الايطالية التونسية المولد كلوديا كاردينالي والتكريم الشعبي للممثل
"المحلي" المغربي محمد البسطاوي الذي حاز كثير الترحيب من الحاضرين، جاء
فيلم اسماعيل فصلاً نهائياً "موجعاً" لتلك الأمسية الافتتاحية. بدءاً بتأخر
وصول نسخته السينمائية من بلجيكا والركون الى عرضه على "دي.في.دي" في مسرح
"الاسبانيول" العريق وانما الذي ما عاد يصلح للعرض السينمائي، تكشّف الفيلم
عن ضعف درامي وتقني لا يُغتفر في فيلم افتتاح. تنطلق الاحداث مع ثلاثة
أصدقاء في "الرباط" يبحثون عن عمل، في موازاة نشاط اثنين منهم الاحتجاجي
على حالة البطالة المستشرية بين الشباب الجامعي في البلاد. بعد سلسلة من
المحاولات الفاشلة في العثور على عمل وفشل قصة حبه بسبب هجرة صديقته الى
الخليج، يقرر "مفضل" (رشيد الأولي) العودة الى قريته. هناك، يلتقي حبيبته
الاولى التي تزوجت من رجل ثري تاجر مخدرات، لقي مصرعه خلال عملية تسليم قبل
أيام من وصول "مفضل". في القرية ايضاً اصدقاء، أحدهم تحول الى الاسلام وبات
من دعاة الجهاد، وآخر هو خطيب اخته، اضطر الى العمل سائق تاكسي على الرغم
من دراسته الجامعية. مرة أخرى، يجد "مفضل" نفسه امام معضلة البطالة، فيطلب
المساعدة من والد حبيبته الذي يتاجر ايضاً بالحشيش، ويلقى في النهاية مصرعه
في مشهد هو ذروة الهشاشة الدرامية والتمثيلية والتقنية. المشكلة الاساسية
في فيلم "ولاد البلاد" انه ينسب لنفسه خطاباً اجتماعياً نقدياً قديماً
ومسطحاً خلف حكاية تقليدية مفككة البناء والسرد ويفشل في الاثنين.
بالألوان الطبيعية
في مسابقة الفيلم الروائي الطويل، عرض المخرج المصري اسامة فوزي فيلمه
"بالألوان الطبيعية" الذي ترافق ابصاره النور مع تعذر عرضه في مهرجان الشرق
الاوسط السينمائي في أبو ظبي في شهر تشرين الأول/أوكتوبر الفائت بسبب وصول
نسخة غير صالحة للعرض. ومن ثم اثار الفيلم بعيد عرضه في الصالات المصرية
ردود فعل كثيرة ارتبطت بما سُمي "مضمونه الجنسي الفاضح". بعيداً من هذه
الشكليات، كثيرون انتظروا عرض الفيلم للوقوف على آخر تجارب اسامة فوزي الذي
صنع لنفسه انطلاقة سينمائية مبشّرة مع ثلاثة افلام هي "عفاريت الاسفلت"
(1996) و"جنة الشياطين" (1999) و"بحب السيما" (2004). في الأخير، تراجعت
اللغة السينمائية تحت وطأة الموضوع (الدين وتحديداً القبطي الذي وُلد
المخرج فيه ونشأ عليه) الذي أراده صدامياً ومباشراً، بخلاف ما كان عليه في
"جنة الشياطين". وانما على الرغم من ذلك، احتفظ "بحب السيما" بقيمته كشهادة
فردية على تجربة عاشها المخرج أو اختبرها. الهاجس في "بالألوان الطبيعية"
يكاد يخلو من الشخصي. كأننا بالمخرج يقرر ان الأوان قد آن للانتقال الى
معالجة العام ورصده. هكذا يحشد في فيلمه عناوين عريضة من الدين والتطرف الى
الحلال والحرام مروراً بالفساد والضياع في وصفها أزمة الشباب المصري
المعاصر. ولكن القالب الذي احتوى "بحب السيما" بشيء من الخجل، يأتي في
التجربة الجديدة فاقعاً. انه الكاريكاتورالذي تنطق المقاربة به منذ المشهد
الأول: يجثو "يوسف" على سجادة الصلاة ويتلو دعواته لله بأن يجعل امه ترضى
عن طموحه بدراسة الفنون الجميلة بدلاً من الطب. جمله المتلعثمة تصوغ
مونولوغاً طويلاً من الهزر حول "الكيمياء العضوية" التي لا يفقه شيئاً منها
و"الجنة تحت أقدام الأمهات" وغيرها بنبرة تتوسّل خفّة تنشد جذب المشاهد.
والواقع انها نبرة ستنسحب على الفيلم في ادعاء انه يخاطب عقول الشباب
وهواجسهم. وبعد مشاهد كاريكاتورية مشابهة من مثل انهيار والدته ازاء وصول
رسالة القبول من جامعة الفنون وصدمة "يوسف" بفكرة "رسم الجسد العاري"- وليس
الجسد- في المعهد وتراجعه عن قراره مرتين بسبب ذلك، تنطلق رحلته الدراسية
في معهد الفنون الجميلة. والأخير يتحوّل بين يدي اسامة فوزي النموذج الذي
يُراد به اختزال المجتمع. هناك خلف اسواره، نعثر على الملتحين كما على
اصحاب الوشوم، ونقع على المنقبات كما على الكاشفات عن بطونهن وسيقانهن.
ونلتقي المثليين ومختلفي الجنس والأساتذة الفاسدين كما الصالحين وبينهم
اللامبالون. تنسحب هذه "النمذجة" على شخصيات الفيلم: "يوسف" و"الهام"
الآتيين من تربية دينية محافظة؛ "علي" اللامبالي؛ "ابراهيم" الوصولي؛ وأخرى
متحررة ذات جذور المانية. والمشكلة الكبرى في جعل الشخصيات "نماذج"- عدا عن
انه يسطحها ويفرّغها من التركيب- انه يقودها الى مصائر محددة سلفاً بصرف
النظر عن تجربتها خلال الدراما. فـ"علي" يُعاقب في نهابة المطاف بحرمانه من
طفله نتيجة لسلوكه غير المبالي و"ابراهيم" يقع ضحية أفعاله الوصولية بينما
يفترق طريقا "يوسف" و"الهام" ظاهرياً فقط، هي بتطرفها وهو بـ"تحرره" من
خلال معادلة تقليدية في فهم الدين على قاعدة ان الاسلام انما يشوهه رجال
الدين والخوف من الله انما هو نتيجة التربية المتشددة. في الشكل والأسلوب،
يتبع الفيلم اسلوباً مسرحياً، بدءاً من تقسيمه "فصولاً" بحسب السنوات
الدراسية (على غرار: "معهد الفنون الجميلة: السنة الأولى" ومن ثم "السنة
الثانية" وهكذا دواليك) ووصولاً الى منح كل ممثل مونولوغاً ومروراً بجعل
معهد الفنون خشبة للاحداث المضحكة المبكية. يثقل على الفيلم استخدامه
المفرط للموسيقى والاغاني معززاً أكثر النزعة المسرحية الاستعراضية.
وحوارات الفيلم أقرب الى خطب تتراوح بين الوعظ والإرشاد في شتى الموضوعات
وهناك دائماً الخطاب والخطاب المضاد. فالفيلم الذي يدعي ادانة الخطاب
المحافظ والديني والمتشدد، يعالج مظاهر الانفتاح والعصرية باستهجان و"إكزوتيكية"
كما تبرهن اللغة البصرية في التقاطها لمظاهر "الحداثة" المختزلة بطريقة
اللبس وقصات الشعر وصباغه ووشوم الجسد. من الواضح ان ما يقصده المخرج إدانة
"الحداثة الخارجية" او "لعب الدور" الحداثي كما يقول "علي" في مونولوغه
الأخير. ولكن هذا المظهر، وان كان خارجياً، فإنه لايزال وسيلة لاعلان
الاختلاف والتمرّد. فإذا كان هذا مرفوضاً على قاعدة انه ليس تغييراً أصيلاً
واذا كان التطرف الديني مرفوض كذلك، فماذا يبقى؟ بمنطق الفيلم، "يوسف" هو
خشبة الخلاص والنموذج الانساني الذي "استطاع"، بحسب الفيلم، ان يفلت من
قبضة التطرّف من دون أن يبيع نفسه او ان يُخدع بمظاهر الحداثة الخارجية
الكذّابة. انه ببساطة "متصالح" مع تلك المتناقضات من دون أن يضع نفسه في
مواجهة معها لأنه يختار ببساطة أن يكون خارج المعادلة برمتها. ولكن كيف
والفيلم يقول على لسان إحدى بطلاته ان العالم الخارجي لا يختلف عن عالم
المعهد؟ العلاقة بين الصورة والمضمون في فيلم "بالألوان الطبيعية" تكاد
تكون معدومة، ذلك ان ما يُراد قوله يُساق في حوارات مباشرة في مونولوغات
الشخصيات الاساسية كما في حواراتهم بين بعضهم البعض وبينهم وبين اساتذتهم.
وبتكراره لبعض المواقف المراد به التعبير عن الفساد وخلل العلاقات، انما
يتخذ الفيلم نبرة وعظية وتلقينية كأن الاشارة الى ذلك او الايحاء به غير
كافٍ لتصل الرسالة الى المتفرّج. لذلك يبدو المشهد "الفارسي" (نسبة الى الـfarce)
حيث تختلط الموسيقى الغربية المعاصرة بتلك المصرية الشعبية بالآذان القرآني
والوعظة المسيحية عبئاً أكثر منها إضافة اسلوبية او رؤيوية. فهذا المشهد لا
يبرز حدة لأن سياق الفيلم برمته "فوق-واقعي" وبالتالي فإن المسافة بينهما
ليست كبيرة. فضلاً عن تقدبمها في قوالب جاهزة، تفتقر الشخصيات الى الصدقية.
وذلك عائد بشكل كبير الى غياب ادارة الممثل التي ان التقت مع تقديم وجوه
جديدة تؤدي الى نتائج كوارثية على صعيد التمثيل. الممثلون الجدد الذين يقوم
الفيلم عليهم لم تبرز مواهبهم أو سجنهم النمط (مثل التونسية فريال يوسف
التي تجسد كليشيه الفتاة المغوية والوصولية). في المحصلة، لن نشكك بان
"بالألوان الطبيعية" انما هو تعبير عن هواجس اسامة فوزي، ولكن ما يقدمه
الفيلم لا يتجاوز نقاشاً ربما يخوضه المخرج ورفاقه يومياً في جلساتهم حول
أوضاع الشباب، حوار يصلح انطلاقة لتجربة سينمائية بالطبع ولكنه لا يبرر
ابداً ان تكون السينما ترجمة له بلغوه وتشتته ومباشرته.
المستقبل اللبنانية في
31/03/2010 |