هنالك نوعية من
الاعمال السينمائية التي تمر بلا دعاية وبلا ضجيج ولكنها تفعل فعلها فيمن
يتورط الى
دخول الصالة حيث يجد نفسه امام بركان من التفاعلات والاحاسيس
الجياشة التي تتداعى
بسخاء فياض يجعل المشاهد يعيش متعة المشاهدة والدهشة وايضا الورطة لانه
امام فيلم
عامر بالتفرد والتميز عبر كم من النجوم التي تراهن على قدراتها يقودهم مخرج
متمكن
من ادواته وحرفته. وهكذا هو فيلم «خمس دقائق في السماء» الذي
يأتي مقرونا ببالغ
السخاء، يفيض أحاسيساً جياشة وعواطف مضطربة يحركها (اليستير ليتل) و(جو
غريفين)
الأول قاتل والثاني شقيق المقتول في مواجهة
بعد 33 عاما من الحادثة... هل يكفي
عزيزي القارئ ام تورطت انت الآخر في قراءة هذا المقال .
إذن لا بأس فهى
دعوة للمشاهدة.
لحظة مجلجلة بالتفاعلات حيث ذلك اللقاء القدري بما يحمله من
مواجهة وبعد وبقدر ما يعكسه اللقاء من آلام وشجون وذكريات جريحة ومحبطة
بقدر ما
يبعث على الحيرة، ذلك أن الفيلم لا يخاطب العقل بقدر ما يخاطب الوجدان، ولا
يقدم
أفكارا بقدر ما يقدم مشاعر، وهذا لا يعني أن الفيلم خال من
الآراء والأفكار،
فالمشاعر التي يقدمها تعكس موقفا واضحا للوجود في الحياة. هذا العمل الذي
عرض في
عدد من الصالات العالمية هو في الاصل فيلم تلفزيوني (بريطاني / ايرلندي) عن
قصة
الكاتب غي هيبيرت، وإخراج الألماني أوليفر هيرشبيغل الذي درس
الرسم في أكاديمية
الفنون في هامبورغ، بدأ رحلته مع الإخراج من خلال تجارب في الفيديو
والتصوير
الفوتوغرافي.
وبعض الأعمال التجريبية التي اجتذبت اهتمام المنتجين في
التلفزيون الألماني، ويعتبر هذا العمل هو الرابع في مسيرته بعد فيلم
(السقوط) الذي
حاز على جوائز كثيرة ، حيث رصد الـ 12 يوما الأخيرة في حياة الزعيم النازي
أدولف
هتلر.
ونعود الى بيت القصيد حيث تشبه المعالجة السينمائية لفيلم (خمس دقائق
من السماء) مشاهد المسرح الطويلة التي تطلق العنان أمام الممثل
للإبداع والإجادة،
وهذا ليس غريبا على (هيبيرت) باعتباره في الأصل كاتبا مسرحيا. وعلى مدى
ساعة ونصف
الساعة هي مدة العمل نعيش مباراة رائعة في الأداء بين النجم الايرلندى (ليام
نيسون)
الذي أجاد في دور اليستير ليتل والعائد الى
السينما بعد ايام الحزم والالم لرحيل
زوجته النجمة نتاشا ريتشاردسون، و(جيمس نيسبت) المبهر في شخصية
شقيق المقتول الذي
شاهد الجريمة في صغره وظل تأثيرها على وجدانه ومشاعره سنوات عديدة عانى
فيها من
اتهام أمه لتقصيره في إنقاذ أخيه الأكبر... وحينما يأتي اليوم وتأتي
المواجهة تفيض
الاحاسيس بل تتفجر لتطرح كم الاسئلة والمعاني الكبيرة.
ومنذ اللحظة الاولى
نجد ان الفيلم يتعرض لأحداث قصته من جزأين او محورين ، الأول يروي حادث
مقتل شقيق
جو وهو في التاسعة من العمر على يد فيلا اليستير ليلتقيا في
السابعة عشرة، وذلك عام
1975
عندما تعم الفوضى ايرلندا الشمالية وينضم اليستر إلى عصابة تستهدف
الموالين
لبريطانيا ويصبح هدفها الانتقام من الكاثوليك وطردهم باعتبارهم من
الجمهوريين
المتشددين.
وبالفعل ينفذ اليستير جريمته بإطلاق ثلاث رصاصات على الأخ
الأكبر لجو غريفين ، متوهما أنها ستجعل منه بطلا تتهافت عليه الفتيات وتفتح
البارات
أبوابها أمامه ليعيش مزهوا وسط أقرانه، لكن يحدث العكس ويقبض عليه ويقضي
عقوبة في
السجن مدتها 16 عاما.
وحينما يأتي الجزء الثاني فإنه يروي اللقاء الذي
ينظمه برنامج تلفزيوني يحمل عنوان (المواجهة)، يجمع بين القاتل وشقيق
المقتول بعد 33
عاما من الجريمة أي في عام 2008، بهدف
تحقيق المصالحة التي تعكس حالة السلام
والوئام في ايرلندا الشمالية.
وتصبح فكرة الجمع هذه لمدة خمس دقائق هي محور
الرصد لردود الأفعال النفسية والعصبية لكلا الشخصين، احدهما ينشد الراحة
بعد سنوات
من الإرهاق الذهني والقلق رغم انه دفع الثمن، والثاني تدفعه غريزة الانتقام
إلى حمل
سكين لتمزيق قاتل أخيه على الهواء مباشرة. خمس دقائق في السما او على
الهواء حدث
سينمائي مذهل وثري بالارهاصات والقلق والتوتر.
حيث المواجهة بين الغضب وطلب
الغفران يسيطران على مشاهد لقاء المواجهة، فبينما تكتسي الحركات المرتعشة
والأنفاس
اللاهثة وجه غريفين، يبدو اليستير أكثر برودا ورغبة في المواجهة التي يصرح
بأنها
صعبة جدا ويمكن أن تؤدي إلى نهاية مأساوية، ومع اللحظات الحرجة
يرفض جو غريفين فتح
الباب الفاصل بينه وبين قاتل أخيه، تاركا علامات الاستفهام حائرة على وجه
اليستير
والتي تجيب عنها فتاة ضمن طاقم التصوير التلفزيوني بقولها: هو خائف من قتلك.
بعدها تسير الأحداث بشكل حذر تجاه نهاية لا يمكن التنبؤ بها، عندما يذهب جو
غريفين إلى بيته ويجلس مع زوجته وابنتيه، حيث يفاجأ برسالة من
اليستير يطالبه فيها
بلقائه عند البيت القديم الذي تمت فيه الجريمة، فهل يقبل جو أم يرفض؟، وهل
يذهب
للانتقام أم يبقى حبيس الغرف المظلمة لتأنيب الضمير؟
(خمس
دقائق من السماء)
يعتمد على المشاعر الداخلية الدفينة التي تتطلب من الممثل نوعا من الانفعال
العميق
المتفهم، ولذلك جاء أداء (ليام نيسون وجيمس نيسبت) بارعا في تقديم عمل
كلاسيكي يصمد
في وجه الزمن مع توالي الأجيال، ويعكس ميلودراما إيمان الإنسان
بالحياة وقدرته رغم
العناء أن يصنع غدا أفضل.
فيلم لا ينتهي حينما تضيء الصالة انوارها وينصرف
الجميع الى حياتهم الى عالم الواقع . فيلم يظل يحاصرنا يدهشنا بحواراته
ويستفزنا
بما يقدمه من طروحات تجعل احاسيسنا تتراطم وتتداخل فتارة نجد انفسنا مع
الانتقام
واخرى نصلي للغفران والبحث عن السلام.... سلام النفس وسلام
الذات وسلام المستقبل
والاجيال... ولكن هل يبرر لنا التفكير بالسلام ان نذهب الى الغفران رغم
قسوة الغياب
والفقدان.. شخصيا اذهب الى الغفران والسلام والغد.. ولكن نهايات العمل تظل
مفتوحة
على مصراعيها مثل قدر الكثير من الشعوب والامم والاشخاص.. عذرا
لانني ورطتكم في
متاهة هذا العمل وطروحاته السخية بالاحاسيس المتداخلة.
ويبقى ان نقول فيلم «خمس دقائق في السماء» فيلم يذهب الى عقولنا
وقلوبنا ولهذا يأتي الجدل.
Anaji_kuwait@hotmail.com
النهار الكويتية في
28/03/2010 |