أعجبني كثيرا جدا الفيلم السوري "نصف ميللجرام
نيكوتين" للمخرج الشاب محمد عبد العزيز، واعتبرت عرضه في مهرجان دبي
السينمائي
السادس (2009) مفاجأة سارة لكل عشاق السينما الفنية، تلك السينما التي تعبر
بمفردات
الصورة، والكلمة، والإيماءة، والنظرة، والإشارة، أي التي تستخدم مفردات
الشعر، ولكن
ليس من خلال ترجمة الشعر إلى صورة، بل من خلال البناء، والعلاقة بين
اللقطات،
والطريقة التي يتعامل بها فنان الفيلم، مع النص، ومع الكاميرا، ومع
الشخصيات التي
تقف أمامها تؤدي بحساب، ما يطلبه منها، يبتكر من المشاهد ما يحرض على
التفكير،
ويصوغ من اللقطات، ما يتطلب منا جهدا للإلمام بأبعاده التشكيلية والاستمتاع
بها.
هذا فيلم يتجاوز كل ما ظهر في السينما السورية من أفلام خلال العقد
الأخير
على الاقل، فهو يبتعد عن "الرسالة"، و"النقد السياسي المستتر"،
و"الدراما الأدبية"،
مقتربا من التعبير البصري الذي يتحرر من كل القيود والحدود السابقة، محلقا
في سماء
السينما الخالصة، كنموذج فذ على الفيلم التجريبي.
أعجبني أيضا في هذا الفيلم
البديع، الجرأة على تجسيد الخيال، ونسج الرؤية الشخصية، المشغولة بالبعد
الفلسفي في
علاقته بالاجتماعي، والابتعاد عن التعبير المباشر، حيث يتلاعب السينمائي
هنا
بالأسلوب ويطوعه لرؤيته الجامحة، مهما بلغت، ودون حسابات للسوق أو حتى
للذوق السائد
الذي يرغب في مشاهدة قصة درامية تدور داخل ديكورات نمطية لشخصيات تتصارع ثم
تتصالح.
المأزق الحالي
لا يروي الفيلم قصة تتصاعد في خط درامي واضح
حتى تصل إلى الذروة ومنها إلى ما يعرف بـ"التطهير". ليست هناك قصة واحدة بل
مزيد من
القصص القصيرة، والشخصيات الكبيرة، بحجم الحياة نفسها ومن قلبها: ربما
تنتمي بعض
هذه الشخصيات إلى الواقع العربي، وربما أيضا تنتمي للواقع الإنساني عموما،
وهي تلخص
لنا المأزق الحالي في ثقافتنا الذي ينبع من الاعتداء على البراءة.. براءتنا
التي
يعبر عنها الفيلم من خلال شخصية الطفل "زين" وهو صبي في الثانية عشرة من
عمره،
أحلامه بارتفاع السماء: أن يطير، وأن يصبح طيارا، لكنه في
الواقع، ملتصق بالأسفل،
فهو نازح من الريف إلى المدينة، يقوم بمسح
وتلميع الأحذية.. كل الأحذية، لكنه لا
يكف عن أحلامه بصحبة صديقته الصغيرة التي
تتبعه أينما يذهب، يقص عليها عما يقابله
في حياته اليومية من شخصيات، بما في ذلك من أساطير تحيط ببعض هذه الشخصيات
مثل
الشيخ الذي يقال إنه يطير بين المساجد لكي يؤم المصلين.
وهناك "زكريا" سائق التاكسي الذي كان يشك في زوجته بعد أن أنجبت ابنة
لكونه
يعتقد أنه عاجز جنسيا، وهو ما يدفعه إلى
قتل الإبنة ثم محاولة الانتحار باستمرار
دون أن يتمكن من تحقيق ذلك إلى ان يموت في حادث قدري.
أما الزوجة (الممثلة
الكبيرة مي سكاف) فقد تحولت بعد افتراقها
عن الزوج الذي فقد رشده، إلى عاهرة، لكنها
تشعر بالفراغ والعذاب والوحدة القاتلة، تعيش وقد امتلأت نفسها بالمرارة،
طيبة
ولكنها أيضا تقوم بإغواء الطفل، ويصبح التفاح الأحمر الذي تلقي به في كل
مكان من
حولها، رمزا لهذا الإغواء
.
وإمام المسجد الشيخ رازي، هو الزبون الأول عند زين،
وهو أعمى، يعيش لكي يكفر عن خطيئته، فقد أراد أن يرسم الله، فأصيب بالعمى،
وفي عالم
الظلمة أدرك، كما يقول، ان اللون الأساسي للرؤية ليس الأبيض، بل الأسود،
لون الظلام
الذي يعيش داخله لكي يرى ما لم يره وهو صحيح البصر.
وللشيخ رازي ابنة منقبة، هي "أروى"
التي ترتبط بعلاقة حب عذري مع شاب مسيحي هو "كمال"، وتحرم عليه رؤية وجهها
أو لمسها. وهو رسام أقرب إلى الشاعر الملهم الذي يستوحي من
غموض صورة "أروى" النقية
رسومات تشبه العذراء مريم. ورغم اختلاف
الأديان، يقوم كمال باصطحاب الشيخ رازي
يوميا لكي يلحق بالمصلين، ويتخاطب خفية مع
أروى. وتتفجر المشاعر بينهما ذات يوم،
عندما يقودها إلى مرسمه بعد أن فرش الطريق
كله بالورود الحمراء.. رمز الحب.
تداخل القصص
هذه القصص الثلاث تتداخل وتتقاطع معا في خطوط
تثري السرد السينمائي وتستدرج المتفرج لكي يشارك في تلك "الرؤية" الجريئة
الجامحة:
هذه المرأة- العاهرة – الضحية، وهي تقوم بإغواء الصبي "زين"، يجمعهما معا
في الفراش
دخان النيكوتين- أي السجائر التي تحترق في الفيلم بدون توقف، ويتصاعد
دخانها دلالة
على اضطراب الحياة، واشتعال الرغبة في الانتقام لدى المرأة- الزوجة- الأم
التي فقدت
ابنتها، والزوج الذي يشك في نفسه وفي زوجته والعاجز عن مواجهة الحياة، أو
الغياب
عنها بالانتحار.
زين .. المتشرد الهارب إلىالمدينة الفسيحة من بلدته، ثم يواصل
الهرب من واقعه المزري في المدينة عن طريق التمسك بأحلامه في التحليق، يصر
باستمرار
على رسم سمكة كبيرة يعتبرها رمزا لنجاته، وهو يدمن التدخين كوسيلة للتغلب –
دون
جدوى- على الشعور بالنقص في مواجهة الكبار- ثم ينتهي بالموت في حادث مأساوي
علىالطريق، في اللحظة التي يكمل فيها رسم السمكة على أرض الطريق قرب نهاية
الفيلم.
آروى التي ترغب بمشاعرها، في الامتزاج مع كمال في علاقة شرعية حقيقية
كاملة،
لكنها تكتفي بالوقوف على العتبات، توحي كل حركات جسدها بالرغبة
في الاكتمال بالآخر،
لكن الدين يحظر، واختلاف الدين يعوق
التوافق بين الإثنين، بل إن مجرد التعبير عن
الحب هنا، محرم، ومحظور في هذا السياق.
كمال يعجز عن إقناع الشيخ رازي برغبته في
الاقتران بابنته أروى حتى بعد أن يبدي استعداده لاعتناق الإسلام، فالشيخ
يريده أن
يتخذ قراره، ليس تحت أي ضغط، بل استجابة لضميره ولرغبته ولشعوره الحقيقي،
فينصحه
بأن يعود إلى المسيح، ويفكر، ويتأمل قبل أن يتخذ قراره، في تسامح ديني يعكس
"رؤية"
فنان الفيلم لعلاقة الدين بالبشر.
لكن أمنية "كمال" أن يرسم أروى. وتشترط هي عليه قبل أن تكشف له عن
وجهها لكي
يرسمها، أن تكون تلك المرة الأخيرة التي
يراها، بعدها يفترقان، وتتحرر أروى من
النقاب، ربما بعد أن تدرك أنه ستار كبير
لحجب النور، نورالحياة، ويعتزل كمال الحياة
الدنيا ويغرق في الرسم والتأمل، وكأنما يتبادل الإثنان الأدوار!
دلالات شعرية
ولاشك أن الفيلم يمتليء بالدلالات الشعرية
التي لا يصلح إيجازها أو تقديم تفسير مباشر مختصر لها، بل تأتي على شكل
إشارات
كامنة تحت جلد الصورة، التي تخفي أكثر مما تبوح، وتلمح اكثر مما تفضح.
غير أن
المتفرج يمكنه أن يرى بوضوح، كيف يعرض
الفيلم لتعقد العلاقات في المجتمعات العربية
اليوم: النظرة إلى الدين، والعلاقة بين الصغار والكبار، وكيف أن الصغار
ليسوا على
هذا النحو من البساطة التي يتصورها الكبار: هناك مشهد ساخر في الفيلم نرى
فيه
مجموعة من الصبية يصطفون، يدخنون السجائر، ويشاهدون أحد أفلام الجنس بينما
يمسكون
في أيديهم بكتب ومجلات، كلها تتناول موضوع الجنس!
وهناك مشهد آخر- يدور على صعيد
الخيال- لزين وهو يحتضن فتاته الصغيرة داخل سيارة، تأثرا بأفلام "الكبار"
التي
يشاهدها. وهناك بالطبع ذلك المشهد ذو الدلالة الخاصة، الذي يجمع المرأة-
العاهرة،
مع زين في الفراش، قبل ثم بعد اللقاء الجسدي وهما يدخنان.
ولاشك أن هناك جرأة
كبيرة في التعبير عن العلاقة بين الحب
والدين والجنس، واستخدام "موتيفة" الإدمان..
أي إدمان التدخين وحرق السجائر، ربما دلالة على الرغبة في الارتكان على
عامل "وهمي"
لا يزيد الأمور إلا اشتعالا. و"نصف ميللجرام نيكوتين"- عنوان الفيلم، يشير
إلى ما
تحتويه السيجارة الواحدة من تلك المادة.
ويمضي الزمن في الفيلم إلى أن نرى
العاهرة، الطيبة، الضحية، التي تحيط نفسها بالتفاح الأحمر في كل مكان،
دلالة على
رغبتها في الاحتفاظ بالقدرة على الإغواء على الدوام، بعد أن يتقدم بها
العمر، دون
ان تكف لحظة عن التدخين، فهو فعل مواز للرغبة في الانتحار أيضا.
في الفيلم سيطرة
مدهشة على الحركة، والإيقاع داخل المشهد:
التحكم في زمن المشاهد واللقطات بمقياس
دقيق، كما يمتلك المخرج القدرة على التحكم
في أداء الممثلين وتطويعهم، واستخدام
التنويع في الزوايا والاستفادة من
الديكورات التي تشكل رؤيته الخاصة للعالم الداخلي
للشخصيات، في سياق سينمائي يبدع فيه جميع الممثلين ويتميزون.
ولاشك أن المخرج
محمد عبد العزيز، في أولى تجاربه
السينمائية، يكشف عن حس تشكيلي رفيع، وعن قدرة
كبيرة على استخدم التكوين وحركة الكاميرا والتلاعب بالزمن، واستخدام
الديكورات
المبتكرة التي تعبر عن رؤيته الجامحة، واستخداماته للورد الأحمر والتفاح
الأحمر،
والألوان القانية القوية التي تعكس حسه السيريالي المتفجر، بالدنيا
وبالعالم. ورغم
أي ملاحظات سلبية قد تبدو على هذا الفيلم من حيث الجنوح إلى المبالغة في
بعض
الأحيان خاصة في شخصية "زكريا"، إلا أن من المهم النظر إلى هذا الفيلم
باعتباره
نموذجا فذا على تلك الروح التي تميل إلى التجريب، وإلى اختبار لغة خاصة
جديدة،
والبحث عن أسلوب بصري في معالجة موضوع مهم، بجرأة، ومن خلال شكل جديد يحطم.
و"نصف
ميللجرام نيكوتين" في هذا السياق، فيلم تجريبي بلا شك، يلعب مخرجه الفنان،
في
المساحة بين الوعي واللاوعي، وبين الاجتماعي والنفسي، والديني والدنيوي،
وأخيرا..
بين الجنة والنار. ولاشك أنه سيصبح أكثر نضجا وأكثر انشغالا بمحتوى الصورة
في
أفلامه القادمة.
وأن يأتي هذا الفيلم من إنتاج شركة تنتمي للقطاع الخاص في
سورية، لهو أمر يستوجب التحية والتقدير.
وتحية أيضا إلى الممثلين خالد تاجا ، مي
سكاف ، رهام عزيز ، زين حمدان ، عبد والفتاح مزين، وإلى مدير التصوير
الكبير غازي
واكيم، صاحب الحس التشكيلي العالي.
الجزيرة الوثائقية في
24/03/2010
فيلم ستة أسابيع .. الأمومة المفقودة
عاصم الجرادات
فراق ... تضحية ... معاناة ... كلها موجودة في ست أسابيع هي الأولى
والأخيرة
التي تعيشها الأم مع طفلتها الوليدة قبل أن تعلن استقالتها من منصب أمومتها
البيولوجية.
يطرح مخرج فيلم ست أسابيع البولوني "مارسين يانوس كرافتشيك" فكرة
التبني في المجتمع البولوني بطريقة مختلفة تماماً فهو يتحدث عن القانون
الذي يُجيز
للأم التخلي عن مولودها بعد ستة أسابيع لكي يتبناه آخرون عندما لا تكون
قادرة على
رعايته، ويقدم القانون مهلة مدتها ست أسابيع لكي تعلن الأم
قراراً نهائياً بخصوص
تخليها عن طفلتها، فتعيش كاميرا الفيلم مع الطفلة في تفاصيل الحياة
الطفولية وتصور
الأشياء في المستشفى ومكان رعاية الطفل من منظور الطفل بطريقة فنية فريدة.
فحسب
القانون يحق للأم البيولوجية فقط كتابة رسالة لطفلتها تقرأها عندما تبلغ
الثامنة
عشرة من العمر، وتحمل الرسالة في طياتها جملة من التبريرات التي ساقتها
الأم عن سبب
تخليها عنها وتبين فيها رداءة الوضع المعاشي ليقدم الفيلم توصيفاً لحالة
الفقر التي
يعيشها بعض أجزاء من المجتمع البولوني بطريقة غير مباشرة في
الطرح، ولكنها مقتصرة
على التوصيف اللغوي بعيداً عن الكاميرا التي لم تستعمل في التقاط مظاهر
الفقر في
المجتمع البولوني .
وكاميرا المخرج فقط كانت ترافق تلك الطفلة في تحركاتها الدقيقة حيث
بدا
الفيلم واقعياً إلى أبعد حد فالتمثيل غائب لأن التعامل كان مع الطفلة ليس
مع أي شيء
أخر قادر على صنع مشهد درامي.
يختم الفيلم لقطاته في استقبال عائلة المتبنية
للطفلة والحصول عليها، وهي ذاتها لحظة الاستقبال تعني لحظة
الوداع لأن الأم قررت
بعد ستة أسابيع تثبيت قرارها في التخلي عن فلذة كبدها.
من حيث الشكل الفيلم
اعتمد على اللغة البصرية، وقلَّ النص الكلامي باستثناء قراءة رسالة الوداع
أو
التبرير وبعض المداخلات القصيرة من الأم.
بطاقة المخرج:
مارسين
يانوس كرافتشيك
من مواليد عام 1978.
يعمل كممثل، درس إخراج الأفلام التسجيلية
في معهد أندريه فاجدا للإخراج السينمائي.
له فيلمي «موعد» 2006، والذي تم عرضه
في خمس وعشرين مدينة وترشح لجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين، إضافةً
لفيلمه
«
ستة أسابيع».
الجزيرة الوثائقية في
24/03/2010
“رجل
من كرمكول” فيلم يوثق مسيرة الطيب صالح
سيبويه
يوسف - الخرطوم
احتفت الأوساط السينمائية بإنتاج فيلم وثائقي ( رجل
من كرمكول ) لتوثيق مسيرة الراحل الروائي الطيب صالح ويعتبر الفيلم الذي
مدته ساعة،
من بواكير الأعمال التي اهتمت بتوثيق مسيرة الطيب صالح واحتشد الفيلم
بمشاهد ترتبط
بالبيئة وطبيعة النشأة للطيب صالح والتأثيرات المحلية التي
اصطحبها كثيرا في روايته
وخاصة رواية (موسم الهجرة إلي الشمال) ورواية (بندر شاه) وغيرها من
الروايات التي
شكلت الوجدان السوداني والعربي بعد مسيرة إبداعية استمرت لأكثر من خمسة
عقود من
الزمان، كما اهتم الفلم باستعراض محطات من هجرة الطيب صالح
نفسه إلى جانب إفادات
مهمة لعدد من الإعلاميين والروائيين المعاصرين.
ويقول سيف الدين حسن مخرج الفيلم إن الفيلم
يعتبر ردا للجميل لمن قدم الكثير للأدب العربي ويضيف بأن
الراحل الطيب صالح يستحق
فيلما روائيا ضخما يرقى إلى قيميته الإبداعية واسمه الأدبي المرموق عربيا
وعالميا.
وقال المخرج إن الفيلم تمت معالجته من خلال
نصوص وردت في رواياته المختلفة إلى جانب
إفادات مع عدد من الذين عملوا معه أو عاصروه هذا إضافة إلى
البيئة التي ترعرع فيها
في منطقة كرمكول في شمال السودان غير بعيد عن العاصمة الخرطوم ثم مهجره في
أوربا.
وكشف حسن بأن خطوات الإنتاج الفيلم انطلقت
بعد أسبوع فقط من رحيله وأضاف بأنهم
واجهوا صعاب جمة، خاصة فيما يتعلق بالحصول على المادة الأرشيفية من أوربا
ويذكر أن فيلم رجل من كرمكول تم عرضه في أكثر
من احتفائية ووجد ثناء المشاهدين والنقاد وإن كان هناك من يعيب
على الفيلم تجاوزه
لكثير من الأحداث والتواريخ في حياة الطيب صالح..
الجزيرة الوثائقية في
24/03/2010 |