فيلم "اللقالق": بلاغة الصورة
أمير العمري- لندن
استمتعت بمشاهدة الفيلم القصير "اللقالق" (5 دقائق) للمخرج العراقي المقيم
في
بريطانيا جمال أمين. هذا فيلم كالطلقة، واضح ومباشر في فكرته ومغزاه، لا
يلف ولا
يدور، يعرف مخرجه ومؤلفه تماما الفرق بين منهجي الفيلم القصير
والفيلم الطويل، فهو
يدخل إلى فكرته وموضوعه الرئيسي والوحيد مباشرة، فلا يجب أن توجد في الفيلم
القصير
الجيد أية مواضيع أو أفكار أخرى فرعية تشتت انتباهنا، فالفيلم القصير الجيد
مثل
القصة القصيرة الجيدة، التي قد تكون مكونة من بضعة أسطر، تنقل
لنا الصورة والحدث
والفكرة. وهذا بالضبط ما يفعله جمال أمين هنا.
"اللقالق"
فيلم يعبر عن رؤية
مخرجه في الصراع القائم: بين الشرق والغرب، بين الأنا والآخر، ولكن ليس على
صعيد
وجودي بل على أرضية شديدة الواقعية. إنه يجسد ببلاغة بصرية مثيرة للإعجاب،
فكرة
فقدان الثقة بين الأوروبيين والعرب المسلمين حاليا، دون صراخ
ودون خطابة، من خلال
شخصيتين فقط لشاب عربي اسمه "محمد"، وهو من أبناء المهاجرين العراقيين في
الدنمارك،
تعلم في مدارسهم ويتحدث لغتهم، وصديقته الدنماركية "ماريا"، أو بالأحرى
زميلته
السابقة في المدرسة التي يلتقيها في لحظة ما فينفجر بركان التشكك الدفين
وانعدام
الثقة بل والكراهية.
يلتقي الإثنان بالمصادفة في طريق ضيق داخل حديقة عامة.
تسأله الفتاة عن أحواله فيلخص لها في ثوان وضعه الحالي: فقد انتقل من دورة
دراسية
إلى أخرى، ومن عمل إلى آخر، وبعد أن كان يرغب في دراسة الطيران ليصبح
طيارا، أصبح
واضحا أمامه أن هناك استحالة في تحقيق ذلك الهدف الآن، بعد كل
ما جرى في الحادي عشر
من سبتمبر 2001، وهو لا يقول كل ذلك بالطبع، لكن هذا ما تفهمه أنت كمشاهد
من تحت
جلد الصورة، ومن بين سطور الكلمات. إننا في أوروا بعد أحداث سبتمبر التي
اصبحت
تختلف كثيرا عما كانت قبل تلك الأحداث. ويلخص هو وضعه للفتاة
في النهاية بقوله إنه
انتهى إلى العمل كجزار!
أما "ماريا" كما تقول، فقد أكملت دراستها، وتخرجت مدرسة
واصبحت معلمة، حصلت على وظيفة في نفس المدرسة التي كان الاثنان
يتعلمان فيها من
قبل، حيث عرفا بعضهما البعض.
كل هذه المعلومات نعرفها خلال دقيقة أو دقيقة
ونصف.
ماريا توجه لمحمد بعد سؤالها عن أحواله سؤالا ذا مغزى في الفيلم، فهي تسأله
عن عصبيته، عن انفعاله.. أي أنها تحصره وتؤطره في الصورة
النمطية التقليدية الشائعة
لدى الغربي عن "العربي". ويحاول هو أن يفسر لها الأمر فيقول إنها طريقته في
التعبير
وهي ليست بالضرورة انفعالا عدوانيا.
لكن
الفتاة لا يبدو عليها الاقتناع،
فالتعبير عن المشاعر يتناقض بالطبع مع ذلك البرود أو الهدوء الظاهري الذي
يتعلمه
الأوروبيون عموما، وسكان بلدان الشمال الأوروبي خصوصا.
وفي ثانية واحدة تقبل
فتاة دنماركية على دراجتها تحاول المرور بين محمد وماريا، فتصطدم بمحمد
بطريقة فظة،
ثم تسبه بكلمات نابية كأنما هو المخطيء، في حين أنه كان من الممكن أن هي
تتفاداه
بسهولة إذا ما تريثت، لكن من الواضح انها لم تقم وزنا للأمر،
بل غلبتها حماقتها.
ويتفاعل هو مع السباب الموجه إليه ومع الصدمة التي نالها فيرد عليها
بالمثل، وهو رد
فعل طبيعي حتى من جانب أي شاب أوروبي في مثل هذه الحالة، لكن صديقته ماريا
تستنكر
سلوكه بشدة وتقول ما معناه إنه لم يتغير وإنه عدواني لايزال
يعتدي على الأطفال في
حين كان ينبغي أن يعتذر للفتاة!
بطبيعة الحال يتطور الموقف بينهما فيرفض محمد
منطقها المتحيز ويتهمها بالعنصرية وتتهمه هي بالعدوانية وتطلب منه العودة
إلى
بلاده. ولا يبدو أن هناك نهاية لهذا التشكك وانعدام الثقة والاستنفار
القائم بين
الطرفين.
الحوار هنا مكتوب ببراعة شديدة، وباقتصاد، وبطريقة ذات مغزى. الفتاة
مثلا تتهمه بأنه "يفكر من اليمين لليسار.. منذ أن كان طفلا"،
ويرد هو عليها بأنها
تفكر "من اليسار لليمين".. دلالة على التناقض التام في المفاهيم والثقافات.
يبدأ
الفيلم بأصوات اللقالق التي تحلق في السماء ولا نراها بل نسمع فقط أصواتها
على
خلفية سوداء، ثم تتسلل موسيقى ناعمة رومانسية تساهم مع اللقطات
الناعمة للحديقة
بأشجارها، في إضفاء أجواء هادئة.
وعندما تلتقي ماريا بمحمد في الحديقة، تنحصر
الصورة في لقطات قريبة close up
ومتوسطة medium،
ومع اشتداد المناقشة وتحولها إلىما
يشبه الشجار، نبدأ في الإحساس باهتزازا الصورة وتأرجح
الشخصيات داخل الكادر بفعل
اهتزاز الكاميرا المحمولة. وعندما تصل الحدة بين الاثنين إلى ذروتها تشحب
الألوان،
وتتحول الصورة إلى الأبيض والأسود، في استخدام درامي خلاق للألوان في هذا
العمل
القصير البليغ، وكأنما أراد المخرج أن يقول لنا إن التناقض بين
الثقافتين يتمحور
بالفعل بين الأبيض والأسود، أي أنه تناقض غير قابل للحل في الوقت الحالي،
طالما ظلت
المفاهيم المستقرة أو الأفكار المسبقة لدى كل طرف عن الآخر، خاطئة.
نعم الفيلم
يصور محمد في البداية كضحية للاعتداء العنصر، لكنه أيضا لا يبرؤه تماما،
فهو أيضا
مسؤول عن تلك الصورة التي تصل إلى الآخر، وهو يسارع إلى الرد
على ماريا عندما تتساء
عما إذا كان قد تعرض للعقاب البدني من جانب والده في طفولته إلى عنفه ضد
الأطفال،
فيتهمها بأنها ربما تكون قد تعرضت لتحرشات جنسية من جانب زوج أمها في
طفولتها!.
ومع استمرار الجدل والتهامات المتبادلة، وتأكيدا على امتداد الصراع، وتعمق
التناقض، ترتفع الكاميرا تدريجيا مبتعدة عن الإثنين، نحو
السماء، في حين يخفت صوت
المشاجرة بينهما، وتتسلل موسيقى حزينة تكثف تلك النهاية التي لا توحي بأي
أمل في
إمكانية التوصل إلى حل في الوقت الراهن، ونستمع على شريط الصوت إلى أغنية
تردد
كلماتها "لقد كنت أحلم".
لا يضيع المخرج وقتا، كما أشرت، بل يدخلنا مباشرة إلى
موضوع فيلمه، وينجح تماما في التحكم في إيقاعه، والإبقاء عليه سريعا متدفقا
مثل
طلقة تصيب المتفرج بالصدمة، لتدفعه إلى التفكير.
ويتحكم جمال أمين في ممثليه
تحكما مثيرا للإعجاب فضلا عن اختياره الجيد لهما، ولا أعرف من أين أتيا،
فأغلب الظن
أنهما من غير المحترفين أيضا. وهو يجعل بطله "محمد" يتحول إلى استخدام كلمة
عربية
نابية في وصف ماريا بمعنى "عاهرة" عندما يحتد في شجاره معها، وهي
إشارة ذكية تؤكد
أنه عندما ينفعل فهو يفكر بالفعل باللغة العربية، رغم إجادته
لغة البلد الذي يعيش
فيه، فهو من جهة عاجز عن الاندماج والذوبان ومن جهة أخرى، هو متمسك بهويته
الأصلية.
والفيلم عمليا، مكون من مشهد واحد، لكنه على الرغم من ذلك، ورغم كونه
يدور في نطاق لا يتجاوز الدقائق الخمس، إلا أن مخرجه ينجح في
الاستفادة من كل
المكونات البصرية التي تثري هذا المشهد الواحد، وتصنع منه فيلما قائما
بذاته، فهو
يستخدم الانتقال بين اللقطات، سواء بالقطع أو بتحريك الكاميرا أحيانا، كما
يبرز
علىالخلفية التي تدور فيها الأحداث، بل إن اختياره للمكان في
الفيلم له دلالة خاصة،
فهذا المكان تحديدا، أي الحديقة، حيث الفضاء المفتوح والهدوء والسكينة، هو
مكان
يفترض أن يساعد المرء على الاسترخاء، لكنه هنا يتحول إلى بؤرة تشتعل
بالصراع، تفور
فيها المشاعر، في تناقض واضح مع الطبيعة الساكنة الخارجية.
معروف أن طائر اللقلق
من الطيور المهاجرة، وهو كما نعرف، يتركز بأعداد كبيرة في العراق حيث
يتكاثر قبل أن
يهاجر إلى أوروبا. واختيار العنوان يشير بلاشك، إلى شباب
المهاجرين العرب، من
العراقيين بوجه خاص، الذين يمثلهم "محمد" في الفيلم.
أخيرا، "اللقالق" فيلم
قصير، لكن الأفلام لا تقاس بزمن عرضها، بل بقدرتها على التعبير والإقناع،
ببلاغتها،
وقدرة مخرجيها على الإخلاص للحيز الزمني للفيلم، دون أن تكون هناك أي لقطة
زائدة،
أو ناقصة في السياق البصري، وهو ما ينجح فيه جمال أمين بدرجة مثيرة
للإعجاب.
الجزيرة الوثائقية في
10/03/2010 |