أيام سينما الواقعً: طرح المسائل الملحة
يامن محمد
انقضى مهرجان أيام سينما الواقعDOXBOX10
ولا يسع المراقب أخيراً إلا أن يشير إلى
نقاط أو بالأحرى إلى أفلام كمحطات على درب المهرجان في أيامه السبعة أو
الثمانية...
بحسب أهميتها الفنية... أو أهمية موضوعها... أو مكانتها بالنسبة لتنظيم
المهرجان
نفسه وموقعها من فعالياته أو إقبال الجمهور، إن كان في شدة ذلك الإقبال أو
في شحه،
ولكنه وعلى كل الأحوال وبما يتعلق بالنقطة الأخيرة، وبالرغم من أن البعض
لاحظ أن
الأفلام بشكل عام مع جودتها لم تحمل صخب أفلام الدورة السابقة،
إلا أن الحضور كان
وافراً وربما أخذ التلقي لهذا العام عند الجمهور أبعاداً أكثر عمقاً وأكثر
بعداً عن
الانفعال السريع، كما تبدى ذلك في النقاشات التي كانت تدار بعد العروض
وبحضور
المخرجين إذا استثنينا ردات الفعل ذاتها الحاصلة في الصالتين
أثناء عرض الأفلام.
وما يدل على ذلك ربما؛ الاتفاق بشكل عام على بعض النقاط من تقييمات وأحكام
وملاحظات
حول هذا الفيلم أو ذاك، والتلقي الهادئ المشوب بالتقدير لجهود صانعي
الأفلام وكانت
البداية مع فيلم الافتتاح:
اصرخ shout
انتظر جمهور
المهرجان بحرارة فيلم "اصرخ" الهولندي لمخرجتيه سابين لوبه باكر، وإستر
غولد، ذلك
الموضوع "المحلي" بالنسبة إليهم، الفيلم الذي قرر صانعوه أن يتحدث عن
جولانيَّين
يقرران الدراسة في دمشق عاصمة وطنهم البعيد رغم قربه. كنا متشوقين للاطلاع
على
تجربة سينمائية تقارب موضوعاً بات تفكير السوريين فيه مزمناً
منذ العام 1967 وقد
تمت مقاربته سابقاً بكثير من الطرق التي أصبحت مزمنة هي الأخرى سينمائياً؛
متشوقين
للخوض في سبر تجربة مختلفة كل الاختلاف متشجعين بمن يمتلك عين الغريب التي
لطالما
وصفت أنها أصدق، و"هنا" أكثر فنية وغوصاً نظراً أيضاً لحساسية الموضوع،
ورغم أن
الفيلم حظي بفرصة التصوير على جانبي الحدود، إلا أنه افتقد حقيقة إلى
الرؤية
الثنائية، ونقصد بها على سبيل المثال تبيان الطرق التي يتدبر
بها الجولانيون
أوضاعهم في ظل ظروف غاية في التعقيد تنمو منذ أكثر من أربعين سنة، وظهر أن
المخرجتين الأجنبيتين برحلتهما التي لا يخلو طابعها من الاستكشاف لم تضيفا
إلى ما
قدمته التجارب المحلية بهذا الصدد الكثير، شاهدنا بكاء على
الفراق، وحسرة على
الإبعاد القسري عن الوطن الأم، رحلة جديدة ومشوقة لطالبين إلى عاصمتهما
دمشق،
مناداة بين الأهل المشتاقون بمكبرات الصوت على طرفي الحدود المصطنعة، وكل
هذا حقيقي
وصحيح وموجع، لكننا كنا نحتاج إلى المزيد، شيء أكثر من الذي تقدمه المحطات
التلفزيونية، فالقنوات الفضائية عرضت وتعرض الكثير من هذه
اللقطات والمشاهد التي
أصبحت محفورة في ذاكرة كل واحد فينا... ولكن هذه المحاولة الطموحة من قبل
المخرجتين
تثير الجدل وتستحق النظر بمجرد إقدامهما عليها، هما القادمتان من بعيد.
معقل الخطيئة
ضمن تظاهرة رجال ونساء جاء فيلم "معقل
الخطيئة" للألماني "توماس لاوترباخ" ليقدم لنا هو الآخر رؤيته عن المجتمع
الإسلامي
وبشكل خاص عن المرأة المسلمة ، ولكن بطريقة غير مباشرة، ودون القدوم إلى
الديار
المسلمة، بل استغل وجود الأتراك في ديار الألمان، وقيام مخرج مسرحي بدعوة
نساء
ألمانيات من أصل تركي ليمثلن في عمل مقتبس عن مسرحية "ميديا"
الإغريقية.. النساء
بمجملهن تفاجأن بالجو الجديد والعمل المسرحي القائم على
الارتجال وسكب ما في نفسيات
الممثلين على الخشبة، ولكن من بينهن "ممثلة" محجبة، وبقناعاتها الخاصة،
تدخل في
تناقض بين قناعاتها وبين تجربتها الجديدة في المسرح "الغربي" ما يفتح الباب
واسعاً
أمام جملة من المتقابلات، صراع عاشته المرأة "آيسل"... راح يتكشف ورقة بعد
ورقة
بنقاشاتها مع البقية، حتى الوصول إلى قرارها في مغادرة الخشبة وترك
المسرحية، عندما
لم تستطع تقبل مشهد "جريء" عن علاقة جنسية بين شخصيتين، لم تستطع ولم ترد
الفصل بين
الواقع والتمثيل، واصفة المسرح بأنه "معقل الخطيئة"... لكنها سرعان ما
راجعت نفسها
وعادت لتكمل العمل... في رحلة الفيلم تقابلت ثقافات مختلفة تبعاً للانتماء
القومي،
وتقابلت قناعات مختلفة في الإطار القومي الواحد، وأيضاً نوازع في الذات
الواحدة،
وربما في مستوى آخر تقابل بين الرجل والمرأة، وفي بعض المواضع
بين أديان (ديانتين)
ظهر ذلك في مونولوج يلقيه ممثل ألماني... ومن جهة أخرى واكب هذا التعدد في
الأفكار
بصيغتها المجردة.. تعدد آخر في مستويات "العرض" تبعاً لوجود العرض المسرحي
في
الفيلم، الواقعي والخيالي، السينمائي والمسرحي... وفي تقاطعاتها جميعاً في
نقطة
واحدة إنما بلغ الصراع ذروته.. كل ذلك أكسب "معقل الخطيئة" بنية متينة
ونوعاً من
الشاعرية نعتقده في الكثير من الأحيان حكراً على السينما الروائية.
وللجمهور رأي في
النقاش مع توماس بعد الفيلم: البعض رأى أن "آيسل" تمت مهاجمتها من البقية
(فريق
المسرحية) والضغط عليها هي المنفردة برأيها، وآخرون وجدوا ظلماً في أنها
ليست
المخولة للدفاع عن نفسها في هذه المجابهة فلم تكن الكفتان
متوازنتين، وأحد النقاد
راح إلى أبعد من ذلك قائلاً أن ليس من حق الغربيين النظر إلى ما يرونه
مساوئ الشرق
بهذه الطريقة المجحفة على الدوام بل يكفيهم البحث فيما "وصل إليه الجسد
الغربي من
دمار" أما المخرج فأكد مجدداً أنه صنع فيلمه راصداً وليس مسؤولاً عما جرى
في
الواقع. ومن هذا الفيلم وضمن التظاهرة عينها والتي ربما هي أهم
تظاهرات أيام سينما
الواقع المنصرم.. لا بد أن نعرج على الجدل العميق وقد اجتاحنا بهدوء،
صارخاً وبصوت
أعلى محذراً أن الوقت حان حقاً لتحرير المرأة ولكن ليس هي فقط، قادماً هذه
المرة من
إيران:
غياب السيد أو السيدة "ط"
يبدو أن "فيما إمامي"
و"رضا درينوش" مخرجي الفيلم الإيراني: غياب السيد أو السيدة "ط" (ط: طفل)
لم يرضخا
بسذاجة مبتدئي السينما التسجيلية لمقولة ظالم ومظلوم في العلاقة بين الرجل
والمرأة (للأسف قدم للفيلم بهذه الصيغة في كتالوغ
المهرجان)... بل غاصا عميقاً وراء هذه
الأزمة الإشكالية الرابضة فوق صدر العالم الثالث بأسره، وتركا
للكاميرا أن تكشف
وحسب، ولكن إلى حين. درينوش وإمامي عايشا زوجين في علاقتهما المتأزمة منذ
أربعة عشر
عاماً متمثلة بشكلها المباشر بعدم القدرة على الإنجاب.. والمحاولات المريرة
للإخصاب
المخبري... الرجل يحاول أن يتزوج بامرأة أخرى متبعاً كل السبل وقد جرب ذلك
مرة دون
أن تستمر التجربة، وبقي مع زوجته الأصلية... مع التقدم في
المشاهد تباعاً يكشف
الفيلم عن الرعب الحقيقي الكامن في بنية العلاقة بين الرجل والمرأة أصلاً،
في جملة
ظروف محيطة كقيود تأبى الانفكاك عن رقبة كل منهما، فيبدو الزوج الذي ظهر في
البداية
ظالماً قاهراً وشريراً في سعيه المحموم والمعلَن للزواج بأخرى
في تعاسة لا تقل عن
التي تعيشها زوجته، هكذا أعاد المخرجان بحنكة المشاهد الأولى (كما هي) في
مرحلة
متقدمة من الفيلم. لقد اكتشف بعد الزواج بكل بساطة أنه ليس سعيداً مع
زوجته.. ولكن
ما العمل الآن؟ حتى إنه لا يستطيع تحمل تبعات الطلاق المادية..
نرى نزيفاً يومياً
وألماً يطوف في المكان، قهر يمارسه الزوج المتألم على زوجته المتألمة ..
تدخل
الأقارب المتخاصمين والمخاصمين للزوجين.. هو تعايش مفروض ليس على الزوجين
فقط بل
على محيطهما أيضاً.. في النهاية وبمساعدة المخرجين بدفع
التكاليف، ينجح الحمل...
فنرى الجميع يرقصون(مع الأقارب)، وكأن إنجاب الأولاد في هذه المجتمعات ليس
إلا حلاً
أخيراً للاستمرار في العيش والانشغال بهم عن الأزمات الحقيقية.
القمر في داخلك
فما حال امرأة سلوفاكية تعيش في فرنسا،
كمخرجة فيلم القمر في داخلك "ديانا فابيانوفنا".. هل هو العلم الذي دخل في
مفردات
وتفاصيل الحياة وجعلها أسهل؟ الشفافية؟ والتصالح الاجتماعي؟ المستوى
المعيشي
الأفضل؟ تطرق ديانا باباً محظوراً، الدورة الشهرية، وتستعيد
رحلة مفعمة بالأحاسيس،
حلوها ومرها، مما عايشته كامرأة سابقاً وما تعايشه من شهادات شخصية وأخرى
علمية،
مسكونة بمحاولة لتقريب الرجل من فهم ما تشعر به المرأة ليصل إلى فهمها
(المرأة) في
النهاية. مع هذه الرحلة تتلمس المخرجة ذاتها أكثر متقدمة في
التخلص من الرعب الذي
بدأ مع بداية بلوغها لتحوله إلى إحساس عارم بالأنوثة والخصب الذي يورق
ويزهر كل من
وما حوله.
حول "أصوات من سورية"
يبرز من بين الأفلام
السورية الخمسة التي تنافست على جائزة أفضل فيلم سوري فيلمان حاولا الخروج
من دائرة
الريبورتاج التلفزيوني، إلى فضاءٍ أرحب يتيحه مفهوم "الفيلم التسجيلي"
الأول "كلام
حريم" لسامر البرقاوي وعدنان العودة، والثاني "حجر أسود" لنضال الدبس...
فاقتحم
الأول دون مواربة المجتمع البدوي من خلال رصد أحوال أقارب عدنان العودة
وأهله الذين
تحدثوا بأريحية إلى كاميرا المخرج البرقاوي مظهرين تناقضاتهم ومفارقات
طريفة إلى
درجة الألم، فهناك من لا يتذكر أسماء أولاده الكثيرون.. وتلك
يضربها زوجها فتغني له
أغنية في نهاية الفيلم مع ضحكات النساء حولها، وهناك من يرى أن لا فرق بين
المدينة
والمكان الذي يعيشون فيه على الإطلاق فكل "رفاهيات" الحياة متوافرة وهي:
الماء
والكهرباء والأكل. ومن الملفت أن جرأة العودة والبرقاوي وصراحتهما أثارت
نقاشاً
حامياً وحفيظة بعض الحضور الذين اتهموهما بتشويه صورة تلك
البيئة وتغييب "سوالفنا
الزينة" كما صرحت إحدى الصحفيات، آخذةً على الفيلم إغفاله لإيجابيات هذه
البيئة،
وصحفي آخر أصر على وصف الفيلم بأنه كارثة سينمائية.
حجر أسود (إنتاج
نضال الدبس- خالد خليفة)
نضال الدبس من الناحية الأخرى اقترب أكثر
ليرصد دمشق القاع. والعنوان، حجر أسود، يدل على اسم منطقة في دمشق بقدر ما
يعبر عن
أوضاع يعيشها مشردوا الضواحي.. هناك عائلة بأكملها لا يعرف أفرادها القراءة
أو
الكتابة، أطفال يعيلون أسرهم، تفتيش في القمامة، شجارات
دامية.. كل ذلك تبدى
بمعايشة طويلة لحياة أربعة أطفال. ترك الدبس فيلمه يأخذ مداه الزمني
(63دقيقة)
بإيقاع منتظم فاسحاً المجال للحصول على
صورة بانورامية لحيواتٍ متنوعة لكنها متحدة
ومتوحدة معاً في شرطٍ آسر لكياناتٍ تأبى إلا أن تنمو.. يرتادون
سينمات رخيصة..
أفلام تجارية متدنية.. مسبح ناءٍ يلقون أجسادهم العارية المجرّحة فيه. ورغم
أن
الدبس لم يولِ الاهتمام الكافي للحصول على صورة سينمائية أغزر دلالة، ورغم
بعض
النمطية التي اندرجت عليها الموسيقا المرافقة ومباشرتها (وهي
صفة مشتركة مع غالبية
الأفلام السورية المشاركة) إلا أننا نستطيع أن نبشر أن فيلم نضال الدبس
خطوة أساسية
وهامة (وقد تكون الوحيدة حتى الآن) نحوَ سينما تسجيلية جديدة في سورية
تقترب
باحتراف وعلم من الشارع وتنقل نبضه بالتنقيب عن خفاياه، دون
ادعاءات أيديولوجية،
ودون إقحام الرأي الشخصي الفج، وبلا مقولات سياسية مباشرة لطالما ارتبطت في
سورية
مع مفهوم الفيلم التسجيلي. نحن هنا مع نضال الدبس وخالد خليفة (السناريست)
نخطو
خطوة جديدة ومنتظرة منذ زمن للبدء بمقاربة الواقع الحي والمعاش بالإخلاص
للسينمائي
بعيداً عن لغة التلفزيون.
الجزيرة الوثائقية في
10/03/2010 |