ذهبت أشاهد الفيلم الأمريكي الجديد "نشاط خارق"
Paranormal Activity
مدفوعا بخبر
قرأته عن احتجاج اتحاد أولياء الأمور الإيطاليين على التصريح بعرض الفيلم
في
إيطاليا، على المشاهدين من كل الأعمار، بعد أن أثار الفيلم لدى الكثير من
الأطفال
الذين شاهدوه فزعا شديدا مما أدى إلى نقل الكثيرين منهم إلى
المستشفيات بعد إصابتهم
بالصدمة مما أدى إلى إعادة النظر في التصريح بعرضه للجميع، خاصة وأن
السلطات
البريطانية المسؤولة عما يعرف لدينا بـ"الرقابة"، وهي في الحقيقة مجلس
لتصنيف
الأفلام حسب الأعمار المختلفة، أجازت الفيلم في بريطانيا لمن هم فوق الـ15
عاما،
كما أجيز في الولايات الأمريكية للبالغين فقط.
وبعد أن شاهدت الفيلم أعترف أنني
تفهمت قليلا موقف السلطات الإيطالية التي رأت أن يعرض دون قيود رقابية.
وربما يكون
التأثير الصادم الذي وصل إلى بعض المشاهدين من الأطفال، حدث بسبب طبيعة
الفيلم
"الوثائقية"، أو بالأحرى، محاكاته للطابع الوثائقي المعتاد في أفلام
الفيديو "المنزلية"
التي أصبحت منتشرة كثيرا في الوقت الحالي بعد الانتشار الكبير لكاميرات
التصوير الرقمية (الديجيتال).
مخرج الفيلم وصاحب فكرته أورين بيلي صور بنفسه
الفيلم بكاميرا فيديو رقمية صغيرة في بيته، بعد أن أعده إعدادا جيدا
للتصوير، وتكلف
إنتاجه 15 ألف دولار فقط، ومعظم مشاهد الفيلم جاءت بالكاميرا المحمولة
باليد أي
التي تتحرك وتهتز، فتهتز معها الصورة، مما يساهم في اضفاء
الواقعية عليها.
وقد
أصبح هذا الفيلم لهذا المخرج، الذي لم تتوفر لديه تجربة سابقة في الإخراج،
وكان
يرغب أساسا أن يصبح مبرمجا لأنظمة الكومبيوتر، قنبلة انفجرت في
السوق السينمائية
الأمريكية بعد نحو ثلاث سنوات من تصويره. فقد صور الفيلم في أواخر 2006
وأصبح جاهزا
للعرض في 2007، ثم عرضه صاحبه على عدد من المهرجانات الشهيرة التي رفضت
عرضه، كما
رفضه عدد من الموزعون، ثم قبل مهرجان مغمور أن يعرضه وشاهده
مسؤول عن التوزيع
السينمائي في شركة ميراماكس الأمريكية الشهيرة فاشترت الشركة حقوق عرضه،
وحاول
مسؤولو الشركة اعادة تصويره بامكانيات احترافية أكبر وبطاقم من الممثلين
الكبار،
إلا أن الأمر استقر في النهاية على المغامرة بعرضه كما صوره
صاحبه. وحقق الفيلم 22
مليون دولار عند عرضه في عطلة نهاية الأسبوع في اكتوبر الماضي، ويقال إن
إيراداته
تجاوزت حاليا 100 مليون دولار.
هذا النجاح لاشك أنه يغري الكثيرين، من هواة
السينما الذين لم يدرسوا فن الإخراج السينمائي، بالتجريب والمحاولة، جريا
وراء
النجاح والشهرة والثروة التي تحققت لأورين بيلي، الذي تعاقد بالفعل على
إخراج فيلمه
الثاني بإمكانيات أكبر.
ولكن ماذا يصور هذا الفيلم تحديدا، وما مصدر الرعب فيه،
وكيف تأتى له أن يحقق كل ما حققه من نجاح؟
الفيلم يدور كله داخل منزل المخرج،
المكون من طابقين والكائن في بلدة أمريكية. بطلاه شاب وفتاة هما "ميكا"
وصديقته "كيتي".
والأخيرة تطاردها هواجس متراكمة، وتشعر منذ أن كانت في الثانية عشرة من
عمرها، بأن هناك أشباحا تطاردها أثناء نومها، كما تسمع أصواتا غريبة أحيانا
لا تدري
مصدرها. هذه الأشباح والأصوات تنتقل معها من منزل إلى آخر، وقد
أتت الآن إلى منزل
صديقها "ميكا" بعد أن انتقلت للعيش معه أخيرا.
اما "ميكا" فهو لا يأخذ ما تقوله
له "كيتي" على محمل الجد، بل يستبعد تماما فكرة وجود أشباح شريرة في العصر
الحالي،
ولكنه يحاول طمأنة كيتي بأن يضع الكاميرا التي يملكها في مواجهة فراشهما كل
ليلة،
لكي تصور ما يمكن أن يدور في الليل اثناء نومهما، حتى يثبت لها أن لا شيء
هناك.
ويحاصر ميكا كيتي أيضا بالكاميرا أثناء النهار، يصور ويسجل كل تحركاتها
وانفعالاتها وأحاديثها معه، الأمر الذي يسبب لها الإزعاج
أحيانا. ويبدو ميكا هنا،
كمجنون تصوير، يلهو بالكاميرا في حين أن صديقته اصبحت تعتقد أيضا أن
الكامرا يمن أن
تستفز تلك "القوة الشريرة الخفية" صاحبة النشاط غير العادي.
ليلة بعد ليلة تسجل
الكاميرا اثناء نوم البطلين. وفي الصباح يراجع ميكا ما صور عبر شاشة
الكومبيوتر
المحمول، ولكن لا يحدث شيء. ونحن نرى الصورة من خلال منظور
الكاميرا حيث يكتب لنا
المخرج التاريخ على الشاشة، كما يظهر الوقت بالساعة والدقيقة من خلال عداد
الكاميرا.
وتدريجيا كيتي تسمع أصواتا في الليل، هي أصوات دقات غريبة أو طنين،
أو أحيانا، طرقات أو وقع أقدام على الأرض. وأحيانا تسجل
الكاميرا أيضا تحرك باب
غرفة النوم. أما الحادث الأغرب فيأتي عندما تسجل الكاميرا ما تفعله كيتي،
عندما
نراها تنهض من نومها، تقضي وقتا طويلا واقفة أمام الفراش قرب باب الغرفة
تتأمل في
ميكا المستغرق في النوم. وتستمر على هذا المنوال ساعات قبل أن
تعود للنوم. هل هناك
قوة معينة تناديها!
ميكا يسعى لإقناعها بطرد هواجسها تماما فيقرر أن يرش مسحوقا
أبيض في أماكن محددة عند العتبات، على أرضية الطابق العلوي، لكي ترصد أي
آثار
للأقدام يمكن أن تأتي في الليل.
في الصباح يكتشف ميكا لفزعه الشديد أن هناك
بالفعل أقداما غير إنسانسة عبرت ودخلت غرفة النوم.
ما العمل؟ يستدعي الاثنان
الدكتور فريدريكس وهو رجل يملك قدرات خاصة على التنبؤ وقراءة ما لا يراه
المرء،
يستمع، وينصت، ويوجه من الأسئلة ما يشاء لكيتي، ثم يغادر بعد أن يقول إن
هناك قوة
شريرة تطارد كيتي وتتبعها من مكان إلى آخر، وينصح الإثنين
بالاستعانة بخبير في طرد
الأرواح الشريرة لأن ما تشكو منه كيتي لا يدخل في نطاق تخصصه، كما يحذرهما
من أي
محاولة للتواصل مع ذلك الكائن الشيطاني.
يتأكد ميكا من وجود "نشاط غير طبيعي"
يحدث في الليل، بل واثناء النهار أيضا، فبعد أن يخرج الاثنان من المنزل ذات
يوم،
تنقلب بعض قطع الأثاث، وتشتعل نار محدودة ثم تنطفيء، ويتحرك باب في السقف
يؤدي إلى
غرفة الخزين في أعلى التي يعثر فيها على صورة لكيتي وهي في
الثانية عشرة، والصورة
عليها آثار حريق. وتقول له كيتي إن من المستحيل أن تأتي هذه الصورة هنا،
فقد احترقت
منذ سنوات طويلة. ويقرر الاثنان اللجوء للدكتور فريدريكس مجددا.
ويحضرالرجل، يقف
وينصت، ولكنه سرعان ما يعتذر ويطلب مغادرة المنزل فورا لأن
وجوده، كما يقول، قد
يثير القوة الغريبة أكثر ويدفعها إلى الشر.
ما يحدث بعد ذلك أن الفيلم ينتهي
ببساطة، وكيتي تهبط إلى الطابق السفلى حيث يعلو صراخها فجأة، ثم يهبط ميكا
وراءها،
دون أن تنتقل الكاميرا المثبتة داخل غرفة النوم وراءهما، ثم تصعد كيتي
وحدها وفي
يدها سكين ملطخ بالدماء.
ما الذي حدث؟ من الممكن أن تكون كيتي قد قتلت ميكا
بفعل سيطرة تلك القوة الشريرة الغامضة عليها. ومن الممكن أن تكون القوة
الشريرة قد
قتلت ميكي ثم تلبست كيتي..ولا يهم ما يقع بعد ذلك، وكيف تنتهي القصة، وما
مصير
كيتي، لأن ما يحدث تفاصيل لا قيمة لها، بل إنها في الحقيقة
تضعف كثيرا من الفيلم،
خاصة وأن المخرج صور ثلاث نهايات لفيلمه، في ثلاث نسخ مختلفة، استقر الأمر
في
النهاية على اختيار أكثرها غموضا وأقلها دموية.
وواضح أن مخرج الفيلم اختار من
البداية أن يعتمد أسلوبا يوحي بالطابع التسجيلي للفيلم: فهناك منزل حقيقي
تدور به
الأحداث، وشخصان بسيطان يمثلان الكثير من الشباب مثلهما،والإيحاء بأن
الكاميرا تسجل
بالفعل أن ما يحدث حقيقي، سواء أثناء نوم البطلين أو أثناء
غيابهما عن المنزل، تجنب
قيام خبير الأرواح الشريرة باي محاولات لمواجهة تلك القوة الخفية على نحو
ما شاهدنا
مثلا في الفيلم الشهير "طارد الأرواح الشريرة"
The Exorcist
من عام 1973.
ويبتعد الفيلم تماما عن إظهار أي كائنات خرافية كما هو معتاد في تلك
الأفلام
التي تظهر فيها كائنات شيطانية السحنة في مواجهة الأبطال،
تندفع من القبو، أو تخترق
الجدران أو ما شابه، فنحن على سبيل المثال، نشعر بوجود ذلك "النشاط الغريب"
أو
الظاهرة الغامضة، في المنزل دون أن نراها. وفي مشهد قرب نهاية الفيلم نرى
جسد كيتي
يتحرك بفعل تلك القوة الشريرة التي تجذبها بعنف، فتسقط من على الفراش ويسحب
جسدها
على الأرض إلى خارج الغرفة مع تصاعد صرخاتها مما يجعل ميكا
يستيقظ ويهبط إلى أسفل
لانقاذها من تلك القوة الشريرة وينجح في ذلك بالفعل دون أن نعرف كيف، ودون
أن نرى
تلك المواجهة، ويوحي لنا الفيلم بأن تلك "القوة" خفية، ربما لا تظهر سوى
لمن
تستهدفه أي لكيتي.
لكن ما يقوم به ميكا بعد ذلك من محاولة الاتصال مع تلك القوة
يكون مقدمة لما ينتهي إليه مصيره بالقتل، دون أن نرى جثته ولا الدماء
المتناثرة
منها.
ويستخدم مخرج الفيلم جيدا تلك المنطقة من العقل الباطن التي تمتليء عادة
بالشكوك والهواجس، أثناء النوم، ويجعل معظم الأحداث "الغريبة"
تقع في فترة من
اليوم، ما بين الثانية والرابعة صباحا، وهي أكثر الفترات التي يكون العقل
الباطن
فيها قد بلغ قمة نشاطه، بعد أن يكون العقل الظاهر قد استسلم تماما للنوم.
وبسبب
عدم وجود كائنات شيطانية تظهر في الفيلم، وغياب مشاهد العنف والقتل
والدماء،
والاعتماد على الحوارات الطويلة التلقائية التي تدور بين
البطلين، والتي لا شك في
ارتجال الكثير منها، ومع غياب المناظر الخارقة التي تستخدم فيها عادة
المؤثرات
البصرية الخاصة، لم تجد السلطات الإيطالية المسؤولة ما يحول دون عرض الفيلم
على
جميع الأعمار.
أما الرأي الآخر، وهو رأي الكثير من غير البالغين الذين شاهدوا
الفيلم وتأثروا به، فيكمن في أن ما يخيف أكثر مما يشاهدونه
عادة في أفلام "المؤثرات
الخاصة"، أن الفيلم مصور كما لو كان يحدث بالفعل في الواقع، أي كما لو كان
توثيقا
أو فيلما تسجيليا لظاهرة مخيفة. وربما أيضا بسبب عدم ظهور تلك "القوة
الخفية
الشريرة" أو تجسدها، اكتفاء بالأصوات والعلامات والأفعال.
ويلعب الفيلم كثيرا
على فكرة انتظار أن يحدث شيء، من الأشياء المتوقعة أو المنتظرة عادة في
أفلام
الرعب، أكثر مما يستخدم تلك الأحداث الخارقة بالفعل. وربما
يكون في هذا اتساقا كبر
مع الواقع، فعندما يتماثل المشاهدون مع بطلي الفيلم، يجدون أنفسهم أيضا
يشاركونهم
الترقب والقلق والانتظار، مع القناعة المطلقة بأن "الكاميرا لا تكذب ولا
يمكن أن
تكذب"، فهذا بحث عصر الصورة والكاميرا المنزلية والكومبيوتر، وفي إمكان أي
شاب
اليوم أن يسجل ما يدور في منزله سواء أثناء نومه أو غيابه، وهذه هي الحيلة
التي
يستخدمها المخرج في هذا الفيلم للتقريب، وليس للتغريب.
وأيا كان الأمر، فنحن
بلاشك، أمام ظاهرة سينمائية جديدة تمد تجربة صناع فيلم "ساحرة بلير" (1999)
على
استقامتها، وتكسر احتكار شركات هوليوود الكبيرة بميزانياتها الضخمة، أفلام
الرعب
الرائجة خاصة بعد الرواج الكبير الذي حققه هذا الفيلم. والمؤكد
أن فيلم "نشاط خارق"
يؤرخ لبداية "سينما الرعب المنزلية" بكل ما يعنيه هذا الوصف!
الجزيرة الوثائقية في
03/03/2010 |