هذه المقابلة التي أجريتها في باريس مع الممثل الفرنسي فنسان لاندون كان
يجب أن
تُنشر يوم الاثنين الماضي في هذه الصفحة، غداة إعلان نتائج جوائز الـ"سيزار"
التي
كان مرشحاً لنيلها في فئة أفضل ممثل عن دوره في "أهلاً" لفيليب ليوريه،
وذلك
احتفالاً بفوزه. لكن شيئاً ما منع اعضاء الأكاديمية من التصويت له، على
الارجح بسبب
كاراكتيره غير المحبب بين زملاء له في الوسط السينمائي، اذ هناك كثر ممن
يشتكون من
غضبه الذي يصبّه على الجميع، والذي هو، في خاتمة الأمر، ما يميزه عن بقية
الممثلين
الذين وقعوا في مطب البورجوازية البعيدة من الهموم التي تحاصر المجتمعات
الأوروبية
الحديثة.
لا نستطيع ان نقول ان "أهلاً" استُبعد من قائمة الـ"سيزار" كونه يتعرض
الى موضوع لا يجمع حوله الفرنسيين، ويتناول الهجرة غير الشرعية من بلدان
تعيش
حروباً نفسية ومادية، الى أماكن أكثر اماناً واستقراراً هي أوروبا. لماذا
لا نستطيع
أن نقول ذلك؟ ببساطة لأن الفيلم المنافس له ("نبي" لجاك أوديار) يطرح هو
بدوره
موضوعاً جدلياً في المجتمع الفرنسي.
اياً يكن، قدّم لاندون في هذا الفيلم خلاصة
ما تعلّمه امام الكاميرا وخلفها طوال الربع
القرن الأخير. المخرج فيليب ليوريه جعل
قصة الشاب الكردي بلال الذي يأتي الى مدينة كاليه الفرنسية بهدف اجتياز
المانش
والذهاب الى لندن للبحث عن حبيبته، قصة سيمون (لاندون)، استاذ سباحة غارق
في تفاصيل
حياة البورجوازية الصغيرة والمملة التي تتيح له امتلاك كل ما يحتاج اليه
لكن تمنع
عنه الشعور بإنسانيته. في هذا السياق، ثمة جملة تلخّص المعضلة برمتها،
يقولها سيمون
لزوجته السابقة التي يرغب، في قرارة نفسه، باسترجاعها: "هذا الشاب اجتاز
أربعة آلاف
كيلومتر سيراً على الأقدام لملاقاة حبيبته، أما أنا فلم أجتز الشارع لمنعك
من ان
تهجريني".
أجوبة لاندون عن أسئلتنا جاءت بكلمات مترددة دائماً وخطاب يعبق بفلسفة
انسانية تسير خارج الدروب المطروقة. بحماسة عفوية يتخللها تفكير عميق
وتأمل،
استعرضنا مع ابن السلالة البورجوازية العريقة هذا (معظمهم من المثقفين)،
تقنيات
تمثيلية بعيداً من القوالب المعلبة والنظريات. من ضمن ما باحه لنا، لم يخف
مثلاً
التزامه خطا سياسيا (الحركة الديموقراطية التي يديرها المرشح السابق لرئاسة
الجمهورية الفرنسية فرنسوا بايرو) لا يلتقي البتة مع خط ساركوزي وخياراته
المتطرفة.
ضمّ سجل لاندون أفلاماً كبيرة مثل "الحقد" لماتيو كاسوفيتس و"الشارب"
لايمانويل
كاريير، ووقف أمام كاميرا كلٍّ من بيار جوليفيه وبونوا جاكو
وسدريك كانّ. أما حياته
الشخصية فلم تكن أقل تسطيحاً، اذ بعد علاقة
عاصفة مع الأميرة كارولين دو مانوكو،
تزوج الممثلة ساندرين كيبرلان قبل أن ينفصلا.
•
صرحت في حوار صحافي بأنك رجل
غاضب! لماذا أنتَ غاضب؟ وممن؟
-
غاضب من كل
شيء. ألا ترى أن هناك ما يستحق أن نغضب من أجله. غضبي حيال السياسات، حيال
الناس،
حيال التجاوزات، حيال الأغبياء، حيال الظلم. ما أقوله ليس اختراعاً عظيماً.
على
الجميع أن يكون غاضباً بدلاً من الإستسلام. يومياً اسمع اصدقاء يقولون لي:
"اهدأ،
كن لامبالياً، اترك الأشياء وشأنها، ولا تبدّد جهدك من غير طائل". فيليب
[ليوريه]
يشبهني في هذا الجانب من شخصيتي. نتشابه في غضبنا. قبل أن نشرع في التصوير،
كل مَن
كان يعرفنا كان يخشى الأسوأ من تعاوننا، اذ لا نضبّ ألسنتنا. أستطيع أن
اؤكد انني
اجد نفسي كثيراً في هذا الرجل، واذا سئلتُ من تريد أن تكون فسأردّ: فيليب
ليوريه.
•
منذ متى وأنتَ في هذه الحال من
الغضب؟
-
منذ زمن بعيد. أنا دائم الحركة.
أقول ما أفكر وأفكر ما أقول.
•
هل الغضب يغيّر شيئاً أم انه محض
وسيلة لإسكات
صوت الضمير؟
-
لا اعرف. لا أطرح مثل هذا السؤال على نفسي. اذا كان الغضب لا
يفيد، فهو على الأقل لا يضر. لا تعود الينا كأفراد مهمة حلّ مشكلاتنا
الكبيرة بل
على الدول التي ترعى شؤوننا، علماً انه علينا من جانبنا أن نمدّ يد العون،
لكن
الفرد لا يستطيع شيئاً وحده. لذلك هناك ما يسمّى حكومات وقوانين ومجالس. ما
يثير
سخطي أكثر من كل شيء آخر، قدرة البشر على الخضوع والاستسلام وعدم قدرتهم
على
التمرد.
•
تعبّر من خلال "أهلاً" عن رفضك
للقوانين التي يحاكَم وفقها المهاجرون
غير الشرعيين. لكن ما البديل؟
-
هذه ليست مشكلتي. كل ما أعرفه أن المادة "ل 622"
منافية لحقوق الانسان. لا يحق لنا أن نضع قانوناً يعاقب بالسجن خمس سنوات
من يساعد
شخصاً آخر، كائناً من يكن، حتى لو كان هذا الشخص من المهاجرين غير
الشرعيين. لا
أعرف كيف يمكن أن يُستبدل هذا القانون، كل ما أعرفه انه شيء غير مقبول. لا
أملك
حلاً، وليست مهمتي اقتراح الحلول، ولو كنت أملك حلاً لأعطيته منذ زمن بعيد.
•
شخصية سيمون في "أهلاً" تذكّرني
بوالت كوالسكي في "غران تورينو" لكلينت ايستوود.
هناك صحوة ضمير مفاجئة لدى الرجلين...
-
لستُ شديد الإعجاب بـ"غران تورينو".
ايستوود يمنح أفلامه أبعاداً دينية، وهذا شيء لا
يروقني. الدين حجة جيدة للناس
الذين يريدون القيام بعمل ما، فيرمون اللوم
على الدين، قائلين ان الدين لا يسمح لهم
بفعل ذلك. لست ضد الدين، لكن لا استطيع التعامل معه.
•
كثر من الفرنسيين
سيتماهون مع الشخصية التي تضطلع بدورها في "أهلاً" والتي تعيش في بيئة
منغلقة على
نفسها (حوض السباحة). ما ان يتعرف سيمون الى الصبي الكردي المهاجر حتى
تتبدل نظرته
ويصبح تدريجياً شخصاً آخر.
-
ما ابحث في الأفلام، شخصيات في تطور دائم. الرجل
الذي ألعبه لا يرى شيئاً مما يدور حوله،
وفجأة يتعرف الى هذا الشاب الكردي ويعلّمه
السباحة ويهتم به لأسباب أخلاقية. في البداية يهتم به لسبب آخر ايضاً هو
استعادة
زوجته والاثبات لها بأنه يستطيع أن يصنع الخير من حوله. وكلما تقدم الفيلم
الى
الأمام، اختفت هذه الأسباب وحلّت مكانها أسباب أخرى أكثر جوهرية، فيبدأ
بالنظر الى
ما خلف المظاهر. ما أحبّه في السينما هو شخصيات مماثلة لا تكون في الضرورة
طيبة
القلب منذ البداية. حتى في الحياة، يؤثر فيَّ الأشخاص الذين يصبحون فجأة
أكثر
تسامحاً وأكثر كرماً فيعترفون بأنهم كانوا مخطئين في مرحلة ما من حياتهم.
تستهويني
تيمة التوبة. ما يعجبني كذلك في الشخصية هو واقع انه يتخطى ذاته. هل يفعل
ذلك من
أجل مصادرة قلب حبيبته، أم يدرك فجأة حقيقة الواقع المر، أم ان نظرته
تشابكت مع
نظرة المهاجر الشاب؟ أجهل الجواب. قد تكون الأسباب الثلاثة مجتمعة. أنا
دائم الحاجة
الى سياق اجتماعي رصين في ما أصوّره، كما هي الحال عند فرانك كابرا مثلاً.
الثوب يصنع الراهب
•
هناك شخصيات تغيّر حياة المشاهد.
لكن هل في مقدورها أيضاً أن تغيّر حياة من
يضطلع بدورها.
-
لا أدري ما اذا كان في امكاننا التحدث عن تغيير. لكن ما احب هو
أن يكون هناك أخذ ورد بين الممثل والشخصية. يهمّني أن أعطي الشخصية ولكني
أتوقع في
المقابل أن استرد على الاقل نصف ما أعطيته. من الواضح أن ثمة تغييراً يحصل
في حياتك
بعد أن تكون قد تورطت في فيلم مثل "أهلاً". إن شأت أم أبيت، فأنا دخلت في
جلد سيمون
طوال الأشهر الثلاثة التي استغرقها التصوير. سيمون ليس شخصاً
مفتعلاً. انه يحمل
رأسي وصوتي وطريقة مشيتي. اذاً، من المؤكد
أنه اثّر فيَّ، لكني لا اعرف ما اذا كان
غيّرني. في المقابل استطيع ان أجزم انني أحمل منه بعض الآثار.
•
في فرنسا،
خلافاً للولايات المتحدة، لا يلطخ الممثلون ايديهم في السياسة، وباستثناء
أمثالك لا
نجد ممثلين "ملتزمين" يساندون قضايا انسانية مهمة.
-
هذا شيء مؤسف. ليس من الصعب
أن نتخذ موقفاً مما يحصل من حولنا. يكفي أن
نفتح أفواهنا. لا ينبغي أن ننتظر قضية
ذات حجم كبير. ثم ماذا تعني قضية كبيرة؟ هل قضية هايتي أكثر أهمية من
المتشرد الذي
ينام على الرصيف؟ الناس يميلون دائماً الى القضايا الكبرى التي تحرك
المشاعر وتلفت
الانتباه، لأن أعداد الضحايا المرتبطة بها أكبر. أما الذي يموت في الشارع
في صقيع
الشتاء، فلا احد يهتم به، لأنه فرد وليس مجموعة.
•
كيف تتهيأ عادة للدور الذي
تريد الاضطلاع به؟ معروف انك غرائزي في تعاملك مع الدور.
-
في الواقع، لا أكفّ
عن العمل. أراقب الناس باستمرار. اراقبهم يتحركون ويمشون
ويأكلون. أسجل هذا كله في
دماغي ثم أخرجه في اللحظة المناسبة. لا
أشعر انني اعمل ولكن أعمل كثيراً. كل مرة
أبدأ فيها بتصوير فيلم جديد، لي أنطباع بأنني لا أعمل، لكن في الواقع أكون
قد أنجزت
أشياء كثيرة: بدءاً من التفكير في لون ربطة العنق التي سألبسها وصولاً الى
ابسط
التفاصيل، وهذا كله تستطيع أن تصنّفه في خانة العمل المتواصل. في مهنتنا،
"الثوب
يصنع الراهب". عندما توضع في تصرفنا الاكسسوارات اللازمة للدخول في الدور
(قصة شعر،
سيارة، الخ؟)، فذلك يفتح امامنا ابواباً كثيرة. التفصيل شيء في
منتهى الأهمية. مع
فيليب لم نمر عبر محادثات طويلة لتكوين
الشخصية. لكن، في كل مرة كان يحدث فيها خلل
في التمثيل، كان ينظر اليَّ ويقول: "ارى فيك الممثل لاندون لا الشخصية".
وكنا نعيد
الكرة. ادارة الممثل لا تعني لي الكثير. اعتبر ان الادارة يجب ان تكون كنوع
من
حضانة المخرج للممثل. على المخرج أن يلقي نظرة غرام على ممثله. الأمر شبيه
بتربية
طفل: عليك ان تلقنه بضعة دروس بديهية، لكن الأهم ان تحرص عليه وتضمه الى
صدرك
وتعتني به. يجب أن أقول ايضاً انني لا استطيع أن اعمل الا في وجود القيود.
كلما
اعترضتني المعوقات كان هذا عنصراً محفزاً. اذ تركتني حراً طليقاً فلا اعرف
ماذا
أفعل. اذا سمعت أحدهم خلف الكاميرا يقول لي "أفعل ما تشاء"، فإني "أضب
كلاكيشي"
وأذهب.
من غابان الى كوبر
•
ممن تستلهم أكثر، من الحياة أم
من السينما؟
-
من الحياة طبعاً. لا استوحي
البتة مما اراه على الشاشة. ما اطلبه من
فيلم هو أن يروي لي شيئاً من العالم الذي
انجز فيه. لا أحب أن أقلّد. حين أقلد، أبدو فاشلاً. لكل ممثل تقنيته. المهم
عندي،
الاشارات والايماء والحركية الجسدية. لا أحب الممثلين الذين يسطّرون
تمثيلهم. لا
أحب المحاكاة. على النصّ ان يُفهم الناس تفاصيل الحكاية وليس التمثيل.
تسطير
التمثيل هو كمن يضع موسيقى حزينة فوق مشهد حزين. اذا اردت الاضطلاع بدور
شرطي فلن
اذهب لتمضية ثلاثة اشهر في مقر للشرطة. كل ما عليَّ ان افعله هو أن اطلب من
شرطي ان
يعطيني بضعة ايماءات يستخدمها على الدوام. وهذا ينسحب على كل الشخصيات التي
ألعبها.
بالنسبة اليَّ، أن أمثل يعني أن أكون. اكتسبت هذا الشيء بالفطرة. لكلٍّ
طريقه. أنا
طريقي هي المراقبة: مراقبة الحياة. مع الوقت تعملت انه ينبغي الاقتصاد في
الامكانات
التمثيلية المستخدمة. ينبغي للكاميرا ان تأتي لاستخراج الأشياء من داخلنا.
•
يقارنونك مع بعض اساطير السينما
الفرنسية. جان غابان مثلاً.
-
هذا الأمر يحرجني
كثيراً. حين يذكرون غابان أو فنتورا [لينو] في معرض الحديث
عني، فلا اعرف ماذا
أقول. أردّ شاكراً. هذا اطراء طبعاً، لكن
لا يمكنني الا ان افكر في المئات الذين
يعملون في التلفزيون والسينما والذين لن
تعني هذه المقارنة لهم شيئاً. يخيفني
دائماً أن أبدو زائفاً ومضحكاً أمام الجميع.
•
في هذه المرحلة من حياتك، وأنت
تجاوزت الخمسين بعام، ألا تزال تطرح الأسئلة عن هويتك كشخص وكممثل؟
-
بالطبع،
أنا لا أكفّ عن طرح الأسئلة عن نفسي، وخصوصاً ما يتعلق بوجودي كرجل. الممثل
ملحق
وهو يفعل ما يقول له الرجل. الرجل هو الأهم. حياتي اكثر أهمية من مهنتي،
أضعافاً
مضاعفة. أفضّل أن أكون انساناً عظيماً وممثلاً متواضعاً على أن أكون ممثلاً
عظيماً
وانساناً متواضعاً. ما النفع أن تكون وغداً؟ ما النفع أن تنال 12
"أوسكاراً" في
حياتك المهنية وأنت لا تهتم بأولادك ولا تدفع ما يجب عليك لتربيتهم ولا
تساعد صديقا
في ورطة! لا أحب أن أموت كحثالة!
•
هل أنت من الذين يبحثون عن كمال
ما؟
-
نعم، لكن في المهنة وليس في الحياة. وهذا أمر مرهق حقاً، وخصوصاً عندما
تمضي وقتك
بحثاً عن الكمال ولا تجده ابداً. أقول دائماً انني عندما أمثل، أضع في
تصرفي ثلاثة
أدمغة: واحد يساعدني في التمثيل، ثانٍ يستمع الى ما يدور من حولي وثالث
يحلل مجمل
المشهد.
•
لدينا دائماً الانطباع بأنك
تتقمص ما يطلق عليه الأميركيون تسمية
The guy next door.
لا تحب ايضاً التحولات في مظهرك الخارجي
وهذا شيء عزيز على قلب كثر
من الممثلين.
- (بسعادة
واضحة). هذا أجمل اطراء قد أسمعه من أحد. أجمل شيء أن
يقال لي: "بعد اربع ثوان من بداية الفيلم نسينا انك انت الذي يقف خلف
الشخصية".
يسعدني ايضاً ان ارى المشاهد يقول عني: "هذا الممثل هو أنا". أحب أن يدخل
الممثل في
دماغي ويفكر نيابة عني. لا أحب التحولات في المظهر الخارجي. ما
إن يلجأ اليها أحدهم
حتى تجده نال جائزة. لا اهتم كثيراً
بالأدوار المركبة، لكني لن أرفضها اذا كانت
رصينة. الى الآن، لم اتلقَّ أي عرض من هذا النوع. لا أحب أن يكون ثمة مسافة
بيني
وبين الشخصية وبيني وبين المشاهد. اذا كنت أضطلع بدور غبي، فسأكون غبياً،
ولن اغمز
المُشاهد من طرف احدى عيني لأُفهمه بأنني كرجل أفضل من الشخصية التي
أمثلها. في
الحياة كما على الشاشة، يبدو أنني افرز نوعاً من طاقة تجعل الآخر يرتاح الى
رؤيتي
ومجالستي، وهذا شيء خارج عن قدرتي على التحكم. عندما أمثل، لا أقول في
قرارة نفسي "يجب أن تتبنى هذه النظرة أو تلك". انظر وحسب. لا نستطيع ان ننكر ان
بعض النظرات
أكثر كلاماً من نظرات أخرى. مهما كان الدور
الذي كان يضطلع به، كان لغاري كوبر
سخرية ما في العين.
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
نقد
"شهادة"
لبرهان قرباني
ايناريتو نسخة
ألمانية!
النهار" – برلين
من الأفلام التي عُرضت في مسابقة الدورة الأخيرة لمهرجان
برلين السينمائي، هناك "شهادة"، الذي تحمس
له الجمهور الألماني وكان مادة تململ عند
النقاد، وهو من انتاج الماني - تركي، يكاد يكون شريط التخرج لمخرجه
الافغاني الأصل
والألماني المولد برهان قرباني. يأخذ "شهادة" من برلين الراهنة مركزاً
للحوادث،
مصانعها، حاناتها الليلية، شوارعها العريضة المبللة، وسماءها الرطبة
والحياة
الرتيبة التي يتيحها هذا المتروبول الأوروبي ذو التعددية الثقافية. هناك
ثلاث
شخصيات أساسية في الفيلم: اسماعيل ومريم وسامي. الثلاثة مهاجرون ذوو
انتماءات
اسلامية سيعيدون النظر في علاقتهم بدينهم بعد حادثة سيتعرض لها كلٌّ منهم
على حدة.
مريم هي ابنة إمام احد المساجد، ستصبح متطرفة بعد اضطرارها الى الاجهاض
نتيجة حمل
غير مرغوب به؛ اسماعيل، الشرطي المتزوج سيغرم بفتاة كان قد قتل جنينها في
عملية دهم
لملجأ يؤوي مهاجرين غير شرعيين؛ سامي الذي سيكتشف ميله الى المثلية الجنسية
بعد أن
يجد نفسه منجذباً الى زميل له في العمل.
يطرح قرباني موضوعاً ملحّاً لا يمر يوم
من دون ان تعيد طرحه الصحف الأوروبية:
مشكلة المهاجرين الإسلام في بلدان غربية
واصطدامهم بثقافات وتقاليد مختلفة عما تربّوا عليه. قضايا مثل الاندماج،
التسامح،
الهوية الدينية، هي من صلب هذا العمل الذي ينحو الى ما بات يُعرف بفيلم الـ"كورال"
الذي يدور على شخصيات لا علاقة في ما بينها سوى تشاطرها مساحة معينة أو
زمناً
معيناً، والذي رفعه الى مصاف أعلى كلٌّ من روبرت ألتمان (في "شورت كاتس")
وبول
توماس اندرسون (في"ماغنوليا")، واليخاندرو غونزاليث ايناريتو (في "حب كلبيّ"
و"بابل"). مشكلة العمل، على أهميته وفصاحته
البصرية، انه لا تفوح منه رائحة اصالة
وابتكار. الرسالة شديدة الوضوح والخيط الدرامي يسارع في أخذ مجمل الحوادث
الى حيث
حفنة كليشيهات حول التطرف الناتج من الانغلاق على الذات. فاتح أكين أكثر
موهبة في
الحديث عن الجالية التركية في برلين. ايناريتو أكثر لؤماً في تحديد مصائر
مواطنيه
المكسيكيين. تنقص قرباني بعض الراديكالية وهذا ما يجعل الفيلم يبدو نسخة
المانية
لما كان يطرحه ايناريتو في فيلميه الشهيرين. لا شيء معقّدا يدور في عقل
المخرج وهذا
شيء يُترجم في الصورة بشيء من البهتان والتبسيط. المشاعر يوليها قرباني
أهمية كبرى
لكن ثقافته الشبابية المتواضعة لا تتيح له بعد رفع العمل فوق مستوى التمرين
الاسلوبي. مع ذلك كله لا صعوبة في الصعود الى قطار المشاعر الذي يسلك دربه
المعتاد
بسرعة فائقة. في هذا الفيلم لا تحرق النار مكانها فقط بل تحرق الارجاء
أيضاً.
النهاية مفتوحة. بمعنى ان ايا من القصص المطروحة لا تجد خواتيمها النهائية،
سعيدة
أكانت أم مأسوية. شيء واحد يتجلى من خلال هذه الأفلمة العصرية لقصص
المهاجرين: لا
انشراح ممكنا في ظلّ عدم التزاوج بين التهميش الأوروبي للإيمان والتدين
الاسلامي.
يتذكر قرباني في الملف الصحافي للفيلم صورة متأتية من طفولته ولا تزال
ماثلة في
وجدانه. آنذاك كان في العاشرة وكانت والدته تعمل في المدينة فيما هو يسكن
مع جده
خارجها. الطلاق الحاصل بين والديه احدث صدمة في تلك المرحلة من حياته، ما
دفع جده
الى المجيء من أفغانستان الى المانيا لمساندة ابنته وولديها الصغيرين.
"الحرب
والسنوات التي امضى خلالها في السجن وخسارة ولده، كلها أشياء حوّلت جدّي
رجلا
متدينا وكان يجعلنا نستيقظ كل يوم فجراً للصلاة. قبل ذهابنا الى المدرسة،
كان يقول
لأخي ولي بضع كلمات بالعربية. هذه الجملة كان يجبرنا على تردادها كي
نتعلمها غيباً.
ثم تعلمنا الفاتحة والشهادة". اذاً في جو من التربية الدينية شبّ قرباني،
البالغ من
العمر 31 عاماً، واليوم تراه يستشهد بفرايم كيشون، الهجائي اليهودي، الذي
عبر عن
مدى صعوبة التزويج بين التنوير والتدين. "سأكذب عليكم اذا قلت إن الله
والتلفزيون
ــ أي المقدس والمدنس ــ يتعايشان في داخلي بسلام تام. اكتشفت منذ زمن قريب
أن
التربية الروحية التي تلقيتها لا يمكن استبعادها من حياتي تماماً. فيلمي
ليس عن
الدين. لم ارد تثقيف الناس. ولم آخذ بيدهم قائلاً: هذا هو الاسلام!".
خارج الكادر
صوت بناهي وصمت أوديار
هناك
سينمائيون يتحدّون السلطة ولا يكترثون اذا أمضوا بقية ايامهم في زنزانة
انفرادية.
وايران، شأنها شأن تركيا سابقاً والصين راهناً، هي أكثر البلدان المتشددة
في هذا
الخصوص، وأكثرها "تخصصاً" في إبعاد المخرجين عن مصدر إلهامهم. علماً انه،
بقدر ما
يبدو هذا الأمر مستغرباً، فالانتاج السينمائي فيها يشهد نهضة
منقطعة النظير منذ
أكثر من عقد، وهو أكثر نشاطاً من بلدان
تمعن بالحرية والديموقراطية. لكن ثمة انقسام
في صف المخرجين، اذ هناك الموالون للسلطة، والذين يعملون تحت وصاية القطاع
العام،
والآخرون الذين كل فيلم جديد ينجزونه يُعتبَر معركة مفتوحة على كل الاصعدة.
جعفر
بناهي من الجنس الأخير، اذ يدخل في عداد الذين اصطدموا بالرقابة الرسمية
مراراً
وتكراراً، وعلى رغم تلقيه تقديراً كبيراً في الخارج (برلين، كانّ...)،
فالرجل أكد
في أكثر من مناسبة انه ليس في وارد انجاز الأفلام خارج الحدود الايرانية،
بسبب
الرقابة المستشرية في بلاده، وهي رقابة قال فيها انها "تقتل الاندفاع" عبر
حذفها
مشهداً من هنا وكلمة من هناك يعتبرون انها مناهضة لقيم الثورة الاسلامية.
"يعقّدون
الامور كثيرا على المخرجين ولا يتركون لهم سوى خيار انتاج افلامهم خارج
ايران. لن
احذف اي مشهد من افلامي، ولن اسمح لهم بالمساس بها لأنها لن تعود افلامي.
هذا يعني
انني سأضطر ربما الى اعتزال السينما. موظفو الرقابة يعتبرون انهم يتمتعون
بحكمة
إلهية". كان هذا الكلام لبناهي قبل نحو خمس سنوات. مذذاك لم نعد نسمع صوته،
معاتباً
أكان أم محتجاً.
هذا العناد كان من الطبيعي أن يتسبب لبناهي بقدر من المتاعب.
في الدورة الأخيرة من مهرجان برلين السينمائي، أقيمت طاولة مستديرة عن
احوال
السينما الايرانية وكان بناهي من المدعوين الى هذا اللقاء. لكنه مُنع من
مغادرة
بلاده للمشاركة فيه. السبب المعلن: اخفاقه في الحصول على تأشيرة تسمح له
بدخول
ألمانيا. أما الثلثاء الفائت، فدهمت الشرطة منزله في طهران وألقت القبض
عليه وعلى
عائلته. القضية، كما يقول المدعي العام الذي تولي الملف، ليست سياسية وليست
مرتبطة
بعمله السينمائي. فالتهمة الموجهة الى بناهي هي في الواقع جنحة. ابتكرت
السلطات
الايرانية اذاً اسلوباً جديداً لقمع الخلاّقين، عبر إيهام الرأي العام
بأنهم مجرمون
وخطرون على المجتمع، وتمريغ صيتهم في الوحل. مرة أخرى، بعد قضية بولانسكي،
لم ينتظر
وزير الثقافة الفرنسي نتائج التحقيق، فناشد السلطات الايرانية الافراج
فوراً عن
صاحب "الدائرة" الذي سبق أن عمل مساعد مخرج لكيارستمي قبل أن يطير صيته عام
1995 في
مهرجان كانّ مع فيلمه "الطابة البيضاء". من يلماز غونيه الى
ابراهام بولونسكي وجوزف
لوزي فجعفر بناهي، جغرافيا الاضطهاد تتغير
بين عقد وآخر، ولا تزال مأساة
السينمائيين في تعاطيهم مع اصحاب السلطة
والنفوذ ثابتة على حالها.
•••
في غمرة انشغالنا بـ"نبيّ"، نسينا أن جاك أوديار هو
قبل أي شيء آخر نجل ميشال اوديار، أهم كاتب حوارات في السينما الفرنسية.
المراجع
تحفل بمقتطفات من الحوارات الطريفة التي كتبها لعدد كبير من الأفلام التي
باتت
اليوم من كلاسيكيات السينما. وقد نسينا أيضاً ان اوديار الإبن شق طريقه
بخطى بطيئة
ولكن أكيدة وعنيدة. بعد "انظر الرجال يقعون"، شاهدنا له "بطل محتشم"، ثانية
تجاربه
الاخراجية، وكان عملاً سليماً ومضبوطاً
لسينمائي اكتسب اصول المهنة من خلال ممارسته
فن المونتاج أولاً، ومشاركته في كتابة السيناريوات ثانياً.
فبعدما تكرس مؤلفاً
له عوالمه الخاصة، وقّع اوديار كوميديا اجتماعية تتجه تدريجياً نحو
البوليسي. هذا
العمل اسمه "على شفتي"، وهو المكان النموذجي لفهم اوديار وسينماه. هنا
نكتشف عملاً
منقحاً، بنبرة متحفظة، وهذه ليست أقل صفاته وخصوصياته، على رغم
أنه يفقد، بين وقت
وآخر، توازنه، ويكشف عن هبوط ملموس في
الوتيرة. فالجزء الأول من الفيلم، الذي في
رأينا استهلك اكثر مما يلزم من الوقت، يحمل قدراً كبيراً من الدقة والذوق،
في حين
أن خيبة الأمل، على رغم ضعف وقعها، تأتي في ما بعد. هذه الخيبة النسبية
كانت آخر
خيبة تحدث لنا خلال مشاهدتنا فيلماً من توقيع أوديار.
ايمانويل دوفوس هي "في
شفتي" سكرتيرة في مكتب لبيع العقارات تعالج ضعف سمعها
بالاستعانة بجهاز سمعي.
انطلاقاً من هذا، يطوّر اوديار خط سير شخصية البطلة، التي في
بعض جوانبها تذكّرنا
بجيمس ستيورات في "فرتيغو" لهيتشكوك. بمعنى
ان السيناريو يستغل اعاقة الشخصية
ليحوّلها صفة. في المقابل، تتمتع كارلا بموهبة لا يحظى بها أيٌّ كان: فهي
تستطيع
قراءة الكلام خارجاً من شفاه الآخرين، ولذا، تعرف ما يقوله في حقها
العاملون معها
في الشركة، من كلام بذيء! من خلال تصويره لناس تائهين في عزلتهم، ومحكومين
بالصمت
والاحتقار، يلفت أوديار الانتباه الى حقيقة تتناقض مع مبادئ الحياة
العملية، لكنها
تتناسب مع ما يدعو له كل فيلم عصري ويبحث عنه: ليس من الضروري أن نستمع
لنفهم، كما
أنه لا يجوز أن نعتمد على الكلام فقط لنعبّر، وهذا ما يتنافى تماماً مع
التقنية
الثرثارة التي وضعها والده في نصوصه. هذا الصمت هو أيضاً نقيض ما يطلبه
اليوم بناهي
في معركته ضد نظام مسخ.
هـ. ح.
الرهيب في الحروب هو الآتي
الرهيب في الحروب هو الآتي: لا يقتل الجندي من أجل مثال
معين أو تلبية لأوامر يتلقاها، أنما لأنه
يجهل أين هو ومَن يقاتل. فقط يشعر بصوت
القنابل ويتصرف كحيوان يطارده صياد.
(صموئيل
ماوز،
مخرج "ليبانون"،
في "بوزيتيف")
النهار اللبنانية في
04/03/2010 |