بفضل انتشار القنوات الفضائية وتقديمها برامج خاصة بإعداد الطعام، يعدها في
الغالب طهاة مختصون، أصبح الحديث عن الطعام وفن تقديمه عبر وسائل الإعلام
أمرا مقبولا، الآن، في منطقتنا. ولو بقي الأمر على ما كان عليه الحال قبل
عقد أو أكثر من الزمن، لبدا لقطاع كبير من الناس وكأن الاهتمام بهذا الجانب
الحسي نوع من البطر والترف الزائدين. والحال لم يكن مختلفا كثيرا في الغرب
قبل عقود. فتقديم برامج لإعداد الطعام عبر شاشات التلفزيون كان يتطلب جرأة
وشجاعة من قبل منتجي ومعدي البرامج. وكان مجرد دخول المرأة الطباخة منافسة
لسيادة الرجل الطباخ يعد ثورة. ولهذا فإن تجربة الطباخة الأميركية جوليا
تشايلد اعتبرت تحديا كبيرا في الوسط الأميركي المحافظ في أواسط الأربعينيات
من القرن الماضي، حين جربت تقديم برنامج خاص بفن الطبخ معتمد على فكرة
إدخال الطعام الفرنسي الى المطبخ الأميركي عبر شاشة التلفزيون. هذه التجربة
أخذتها المخرجة نورا أيفرون وحولتها الى فيلم، كتبت السيناريو بنفسها،
فتحكمت بذلك في مضمون الحكاية وطريقة تقديمها على الشاشة الكبيرة. وأضافت
الى جانب قصة بطلتها جوليا، قصة الطباخة الشابة جولي التي تنتمي الى حقبة
معاصرة، وبذلك وزعت فيلمها بين حكايتي «جولي وجوليا» وهذا هو عنوان فيلمها.
الربط بين حياتي الطباختين الواقعيتين جاء عبر الشابة جولي بول (الممثلة
آمي آدمس) الموظفة في أحد مكاتب شكاوى المتضررين من تفجيرات 11 ايلول
(سبتمبر). لقد سئمت جولي هذا العمل المرهق، وكانت إحدى وسائل التخلص من
ضغوطاته النفسية إعدادها الطعام بعد عودتها الى المنزل. كانت تحب هذا العمل
وكانت من أشد المعجبات بالطاهية الشهيرة جوليا. إعجابها دفعها يوما الى
التفكير في إعداد أكثر من 500 وصفة من وصفات طباختها المفضلة والمنشورة في
كتابها «فن إعداد الطبخ الفرنسي» والقيام بنشرها عبر شبكة الانترنت خلال
عام كامل تقريبا. بهذه الفكرة اقتنع زوجها وداخل منزلهما بدأت تجربتها التي
كانت عمادها، الشخصية الجذابة والمرحة لجوليا. وعلى هذه الشاكلة سار الفيلم
في مسارين متوازيين، اجتمعت فيه حياة طباختين حقيقيتين، الأولى جسدته
الممثلة ميريل ستريب، والتي فازت عنه بجائزة أفضل ممثلة لفيلم كوميدي ضمن
جوائز غولدن غلوب لهذا العام، وهو دور ارتكز الى تسجيل فترة قصيرة من
حياتها، عاشتها مع زوجها الدبلوماسي في السفارة الأميركية في باريس. هناك
بذلت جهدا كبيرا لتعلم فن الطبخ الفرنسي وتحملت عجرفة الطهاة الفرنسيين،
لكنها نجحت وكان مصدر نجاحها الأول حبها للطعام. لقد بنيت الحكاية على
أرضية كوميدية عززت الجوانب المرحة في شخصية الطباخة الشهيرة، وأجادت ستريب
كعادتها الدور بشكل مذهل. ومع الجو المشحون الذي كان سائدا خلال فترة نهاية
الحرب العالمية الثانية، وظهور المكارثية الأميركية المعادية لكل التيارات
الليبرالية واليسارية، كانت هذه المرأة متماسكة ومثابرة على تعلم ما أرادت
تعلمه. وبعد سنوات من الجهد توصلت الى فكرة نشر ما تعلمت صناعته من أكلات
في كتاب يحمل اسمها.
زمنان
ومع تقلب الأيام، ووصول سياسة الإبعاد والإقصاء الى كل معارضي مكارثي، بما
فيها زوجها الدبلوماسي، في فرنسا، كان عملها وكتابها عونا لهما في تحمل
أعباء الحياة بعد فترة رفاه في العاصمة الفرنسية. ومع كل الاختلاف في
الثقافات والسلوك ظلت جوليا تتمتع بروح صافية وعذبة نقلتها الى المشاهد
الذي لم تكف الابتسامة عن مفارقة شفتيه، وهو يتابعها. كانت هذه السيدة التي
أحبت زوجها كثيرا، تنتمي الى العصر الجميل كما أرادت المخرجة نورا أيفرون.
وعلى عكسها كانت الطباخة الثانية جولي. فالشابة تنتمي بصورة كاملة الى
زمننا الراهن. تجربتها مختلفة. يدفعها التوتر والسأم الى التجريب وصبرها
قصير. التضامن الاجتماعي قليل والمنفعية تسود العلاقات التي تحيطها. ومع
ذلك نجحت في ما أرادت تحقيقه. وفي اختلاف بناء الشخصيتين تكمن مهارة
السيناريو الذي أعتمد على مبدأ التداخل الزماني. وكان الفيلم يذهب بنا
ويعود الى تواريخ وأزمات مختلفة، لكنها كانت مربوطة بكاملها بحياة بطلتيه.
في «جولي وجوليا» يعيش المشاهد عالما مرغوبا، يعتمد على جانب حسي إنساني
أغلبية الناس تحبه. فمشاهدة برامج إعداد الطعام هي في الغالب أكثر متعة من
اعدادنا للطعام بأنفسنا. انها متعة المراقبة والميل الى الطيبات. ومع ان
معظم مشاهد الفيلم كانت محصورة في المطابخ فإن متابعة الشريط لم تفتر بل،
على العكس، كانت تتصاعد مع مرور الوقت والفضل من دون شك كان يعود الى ميريل
ستريب التي أدت دورها وكأنها طباخة من الطراز الأول. وكانت طريقة أدائها
مبهرة، أثرت سلبا على حضور زميلتها آمي آدمس. فالأخيرة، ومع كل ما قدمته،
ظهرت وكأنها طالبة فن أمام أستاذة كبيرة. هذا التباين تجلى أيضا داخل
الشريط نفسه. فالقسم المتعلق بجوليا ظهر في أعلى مستوى بالمقارنة مع القسم
الخاص بالطباخة الشابة. ولولا التداخل الزمني لظهر الفيلم متفاوت المستويات
فنيا. والذي خدم الشريط، وشد من تماسكه، هو العمل المبذول على رصد الحالة
النفسية لأبطاله ضمن المراحل التاريخية التي عاشوها. فباريس الأربعينيات
ليست نيويورك القرن الحادي والعشرين. ومن أجل هذا تطلب العمل على نقل كل
مرحلة بروحها وتجلياتها السياسية والفكرية. فليبرالية أوروبا التي كانت
توفر الفرص حتى لغير أبنائها، وقدرتها على تجديد فكرها، كانت تقابلها صرامة
سياسية أميركية. وهذا جزء من حكاية «جولي وجوليا». فمع انتصارهم على
النازية، كانت سلوكيات الحلفاء على ضفتي المحيط متناقضة الى حد بعيد. وقد
أظهرت نورا أيفرون ذلك الفرق بطريقة ذكية مررتها عبر الجو الكوميدي والمرح
الذي خلقته وسط سرد حكاية طباختين في عصرين مختلفين. الأولى عاشت تجربة
الليبرالية الغربية واصطدمت بالمكارثية. والأخرى معاصرة، انعكست ضغوطات
أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) والصراع الذي تخوضه دولتها في أكثر من
مكان في العالم على روحها. ولهذا لم تجتمع الشخصيتان! تنافرتا، وكان رد فعل
جولي عنيفاً حين أحست أن جوليا لا تحبها. هذا التداخل النفسي المتخيل عكس
فوارق أزمنة وطريقة تفكير، لكنه في الوقت ذاته جمع تحديات، وصراعاً، بطلتاه
طاهيتان من زمنين مختلفين.
السماء تمطر لحماً
أحب فلنت لوك وود العلم منذ طفولته، لهذا اختار عزلة المختبر، وفضلها على
بقية الأمكنة. لم يختلط بأقرانه وتفرغ للعلم. ورغم إخفاقاته المتكررة في
اختراع شيء مفيد للعالم، ظلت والدته تشجعه على هذا العمل. حين كبر وجد
بلاده، سوالا فولز، الواقعة في المحيط والمشهورة في صيد وتعليب السردين وقد
تحولت الى مكان مهجور، وبضاعة أهله كاسدة. ومن أجل تعويض تجارة السمك
الكاسدة فكر فلنت في اختراع جهاز ينتج لحما صالحاً للاستعمال. جهاز يحول
الماء الى لحم وقد نجح في محاولته. لكن بدلا من أن يعود هذا الاختراع
بالنفع على أهله تحول الى شر عليهم. فالناس صاروا يطلبون منه المزيد الى
درجة صار الطعام ينزل فوق رؤوسهم مثل المطر. ووجد السياسيون والجشعون في
هذا الاختراع مبتغاهم للثروة والشهرة، فصاروا يطالبون فلنت بالمزيد والمزيد
وزيادة حجم الشطيرة الواحدة مرات ومرات، الى درجة صارت معها شطيرة اللحم
تعادل في حجمها، حجم الإنسان نفسه. ومع الوقت شكل هذا الطلب المتزايد خللا
للطبيعة التي سرعان ما انتقمت منهم فحولت شطائر اللحم الى كتل بركانية
وبقية الأغذية صارت تتساقط كالشهب فوق رؤوس سكان المدينة. وخوفا على البلاد
وسكانها من الدمار قرر فلنت وقف مشروعه بصورة كاملة، فتوقف السؤال عن
الشطائر الهابطة من السماء. «السماء تمطر لحما» شريط حركة جميل. رسالته
واضحة، تدعو الناس الى عدم الإفراط في استهلاك اللحوم والغذاء، لأن ذلك
يأتي في النهاية على حساب الطبيعة وتوازنها. والى جانب هذه الرسالة هناك
غيرها، كاحترام العلم لأغراض إنسانية وضرورة التضامن بين الفقراء
والأغنياء. فيلم ننصح الأطفال بمشاهدته واستمتاع العائلة كلها بحلاوته
وأسلوبه الجميل.
الأسبوعية العراقية في
07/02/2010 |