عاماً إثر آخر، ينتقل المهرجان الأول في العالم المتخصّص بالفيلم القصير،
من
مرتبة إلى أخرى أعلى شأناً وأهمية. عاماً إثر آخر، يجد
المهرجان المقام سنوياً في
المدينة الفرنسية الهادئة «كليرمون فيران» نفسه أمام تحدّ جديد: كيفية
الاستمرار في
تطوير اللغة السينمائية الخاصّة بهذا النوع الفني، وكيفية إيجاد سبل
متفرّقة لتفعيل
الحضورين الجماهيري والثقافي للفيلم القصير. إنه «مهرجان
الفيلم القصير». دورة
العام الحالي تحمل ثلاثة أرقام: ذلك أن هذا المهرجان تأسّس قبل اثنين
وثلاثين
عاماً، على مستوى النتاج الوطني فقط، قبل أن يُصبح دولياً منذ اثنين وعشرين
عاماً.
غير أن التطوّرات التقنية والفنية والجمالية، التي عرفتها السينما بأنواعها
وأنماطها كافة، جعلت منظّمي المهرجان يُضيفون، منذ تسعة أعوام، قسماً
خاصّاً
بالأفلام التجريبية البحتة، وهو نوع سينمائي بات أساسياً في
التعبير الحديث.
في
«كليرمون
فيران»، احتلّ الفيلم القصير واجهة المشهد الدولي. كثيرون أطلقوا على
المهرجان المذكور صفة «كان» الفيلم القصير. أثبت الواقع حقيقة هذه الصفة.
في
«كليرمون
فيران»، يحتفل السينمائيون بالفيلم القصير سنوياً، كاحتفالات «كان»
بالفيلم الطويل، سنوياً أيضاً. الجمهور
كبير. الصالات تتّسع لمئات المشاهدين
الوافدين إلى «قصر الثقافة» بصالاته الثلاث، وإلى صالات أخرى
موزّعة في أمكنة
متفرّقة من المدينة. الاختلاف بين المهرجانين واضحٌ: في «كان»، نجومٌ
وأضواء وإغواء
ساحر يُضاف إلى جمال السينما وصناعتها. الأفلام الطويلة تفرض نمطاً كهذا.
الممثلون
معروفون أكثر من غيرهم. المخرجون أيضاً، وإن بدرجة أقلّ. في «كليرمون
فيران»، لا
نجوم ولا سجادة حمراء ولا أضواء. الأفلام القصيرة تفرض شكلاً
آخر من الاحتفال
بالسينما، مرتكزاً على حيوية النصّ الإبداعي، وأسئلته الفنية والدرامية
والجمالية.
المُشاهدون مهتمّون بالسينما فقط. لا شيء
آخر يُعكّر صفو اللقاء اليومي بالأفلام
القصيرة، المقبلة من بلدان وهواجس وأساليب عدّة. ينتظر
المُشاهدون طويلاً لدخول
الصالات. الهمّ الأول لديهم: الاطّلاع على مزيد من الأفلام القصيرة، ومعرفة
العالم
المحيط بها، أو الآتية منه. مهتمّون هم بالسينما وتفاصيلها المختلفة.
مهتمّون
بالمُشاهدة. لا يعيقهم عنها شيء. مدركون هم أن الانتطار
الطويل، نسبياً، يعني أنهم
مقبلون على المُشاهدة. سواء «أحبّوا» هذا الفيلم أو «كرهوا» ذاك، ولكل حالة
أسبابها
وتحاليلها وتفاصيلها التي تُسمع هنا هناك بعد العرض، فإنهم متشوّقون
للمُشاهدة، ما
يجعلهم صامتين فعلياً داخل الصالة المعتمة.
مثيرة لغة الأرقام، أحياناً.
السينما صناعة وتجارة وتوزيع. المهرجانات الدولية العريقة والأساسية معنية
بهذه
الجوانب أيضاً. السوق السينمائية في «كليرمون فيران» فتحت
أبوابها أمام 126 شركة
ومؤسّسة إنتاجية وتوزيعية. المشاريع كثيرة. الأفلام التي أُرسلت إلى إدارة
المهرجان
للمشاركة في دورة العام 2010 زاد عددها عن العام الماضي بأربعمئة فيلم، إذ
استلمت
هذه الإدارة 6524 فيلماً هذا العام، فاختارت 78 فيلماً في
المسابقة الدولية، و56
فيلماً في المسابقة الفرنسية، و42 فيلماً في المسابقة التجريبية. جورج
بولّون، أحد
أبرز المسؤولين في إدارة المهرجان، قال إن الإنتاج الفرنسي ارتفع عدده
مؤخّراً بشكل
ملحوظ، من دون أن يتغاضى عن المسألة التقنية البحتة: «هناك
ارتفاع في عدد الأفلام
المنتجة. هذا صحيح. لكن يجب الانتباه إلى الوسائل التقنية الجديدة التي
تسمح
لمخرجين عديدين بإنتاج أفلامهم بأنفسهم. يجب إذاً تمييز هذه الأفلام عن تلك
المُنتجة بالطرائق التقليدية المعروفة». أضاف، في حوار نشرته
الصحيفة الشيوعية
الفرنسية «لومانيتيه» (أحد الشركاء الأساسيين في دعم المهرجان)، في عددها
الصادر في
الثلاثين من كانون الثاني الفائت، إن «نقابة المنتجين المستقلّين» (النقابة
الأساسية والأهمّ الخاصّة بمنتجي الأفلام القصيرة) ستطرح
المسألة على وزارة الثقافة
والاتصالات. أشار بولّون إلى أن أفلاماً عديدة مُقبلة إلى المهرجان من دول
العالم
أُنتجت بفضل التقنيات الجديدة: «هنا أيضاً يحضر الثقل التكنولوجي الحديث،
لأن
غالبية الأفلام مرتكزة على الدعم الإلكتروني (في مجال التصوير
والتوليف وإنهاء
العمليات الفنية الأخرى)».
جماليات متفرّقة
يميل الفرنسيون إلى الإطالة
أحياناً. هذه صفة خاصّة بهم. المعدّل العام للمدّة الزمنية الخاصّة
بالأفلام
القصيرة يتراوح بين عشرين وخمس وعشرين دقيقة. للفرنسيين ميلٌ إلى أكثر من
هذا. قيل
إنهم شغوفون بما بات يُعرف بالفيلم المتوسط الطول. لا بأس. الأهم كامنٌ في
قدرة
الصنيع البصري على إثارة الانفعال وتحريض العقل لدى المُشاهد.
وكامنٌ أيضاً في حثّ
المُشاهد على المُشاركة في إعادة صنع الفيلم، من خلال المعاينة والمناقشة
والتفاعل.
المدّة الزمنية مهمّة، على مستويي الصناعة
والتجارة. لكنّ أهميتها تتقلّص أمام
اللغة والنصّ والشكل والمعالجة والتقنيات الأخرى. أفلام المسابقة الدولية
الخاصّة
بهذه الدورة الجديدة، التي عُرضت في اليوم الأول مثلاً، تميّز بعضها بحيوية
فنية
قادرة على إعمال العقل وإثارة الانفعال، إزاء المادة المختارة
وكيفية معالجتها
فنياً ودرامياً؛ وظلّ بعضها الآخر أسير الثرثرة البصرية أو الهشاشة في
الاشتغال
البصري. في الشقّ الأول، هناك الصيني «يائس» للي يانغ والألماني «بيتي
وفرقة ذيس»
لفيليكس شتاينز والبرتغالي «يوم بارد» لكلوديا فاريجاو والكوبي/ الألماني
«تأثير
لعبة الدومينو» لغبريال غوشي. في الشقّ الثاني، هناك الصيني/ الأميركي
«الفتيات»
لكلوي زاو، والسنغافوري «ماي» لواي هانغ نغ، من بين أفلام أخرى.
لكن المسألة
ليست بهذه البساطة، أو الاختزال. أفلام عدّة مالت إلى جماليات واضحة في
مستويات
متفرّقة، من دون أن تبلغ مراحل متقدّمة من الإبهار والإبداع.
المواضيع المطروحة،
غالباً، انعكاس لمأزق الروح والنفس في مواجهة تحديات اليومي والراهن. اليأس
صفة
مشتركة، إلى حدّ ما، بين أفلام عدّة: «ماي» و«بيتي وفرقة ذيس» و«يائس»
مثلاً. في
الأول، بدت المرأة ماي وحيدة ومنعزلة وعاجزة عن التأقلم
والمرحلة الجديدة من
حياتها، إثر وفاة بعلها. باتت محطّمة. لم تعتد العمل. المادة مهمّة، وإن
كانت
متداولة بكثرة. لكن المعالجة أخفقت في كشف الجديد القادر على منح الحكاية
أبعاداً
إنسانية مختلفة. توبياس، في «بيتي وفرقة ذيس»، فاشل ومدمَّر. علاقته ببيتي
غريبة.
التقاها وفرقتها في ملهى. الصمت سيّد الفيلم وجماله. الغناء وحده أعطى
للكلام
حيّزاً بسيطاً. السرد ممتع. التصوير متلائم ونبض الألم والقهر. هذان الألم
والقهر
واضحان في شخصية الشاب الصيني في «يائس». إحباط دفعه إلى
الاعتماد على مسار رُسم
له. دخل اللعبة. بلغ حدّ القتل. القدر ساخر. القتيل لم يكن الشخص المطلوب.
القتيل
اقتحم منزلاً لسرقته، لكن صاحب المنزل موجود. القتل طريقٌ إلى الخلاص، أم
إنه نتيجة
للتيه المقيم في العقل والنفس؟ الوحدة وسط الجماعة قاتلة، وإن غلّفها شكلٌ
ما:
الأميركي «أضواء الدرب» لزاكاري سلوزر مثلاً. القدر هنا لعين وساخر. نجا
بوبي صدفة
من ضربة جسدية ما. كادت زجاجة بيرة فارغة تصدم رأسه. أراد البحث عن الفاعل.
نوع
البيرة غير متداول بكثرة. عرف صاحب «الفعلة» السوداء. إنها
فتاة يائسة ومحطّمة.
الحوار بينهما بديع. التصوير والمعالجة أيضاً. هذا فيلم اختزل المعاناة
الإنسانية
بمشاهد منسوجة بخفّة محترف قادر على تحويل العمق الوجودي إلى بساطة شكلية
لا تلغي
أهمية الأسئلة المطروحة. هذا فيلم مختلف. يشبه، بجماليته
الفنية، «بيتي وفرقة ذيس».
مع أن الأميركي مليء بالكلام (خصوصاً صوت الراوي الذي يشبه النسق المعتمد
في الفيلم
الكندي «الثلج يخفي ظلال التين» لسامر نجاري) والألماني خال منه، إلاّ أن
الفيلمين
وجهان لعملة واحدة: أسئلة الوجود ومعنى الحياة والموت وقسوة
القدر وسخريته. أما
الفيلم الكندي هذا، فسيرة مهاجرين من دول مختلفة، التقوا في سيارة فان في
أحد شوارع
كيبيك. السيرة مروية بصوت سليم. عربٌ وأميركيون لاتينيون ومصاعب الحياة
والأحلام
المجهضة والغرائبية المدوية وسط انفعالات الشخصيات المحطّمة.
«تأثير
لعبة
الدومينو». في حيّ فقير وخطر في هافانا، تعرّضت الفتاة الصغيرة ساندرا
لاعتداء.
أمها غائبة عنها منذ عامين. جدها مهتم بلعبة الدومينو مع رفاقه. جدّتها
تثرثر
وجارتها. حلّت المصيبة. هل الاعتداء جسدي فقط، أم هناك اغتصاب؟ الهرولة إلى
المستشفى، والتحقيق البوليسي، وانتظار نتائج التحاليل الطبية
وغيرها، في مقابل
البحث عن الفاعل. تداخل عنيف بين المَشَاهد والأحداث والشخصيات. إنها ليلة
واحدة.
أو بالأحرى ساعات قليلة للغاية. الشكّ
قاتل. الالتباس حاضر. هل الشاب الذي أنقذها
هو المعتدي أم لا؟ الجنون سيّد الموقف. الجدّ يريد الانتقام
بأي ثمن. انتهى الفيلم
بالتباسات عدّة. لكن الطريق الدرامية إلى هذا الالتباسات محفوفة بجماليات
واضحة في
التصوير والتوليف والإضاءة ورسم الشخصيات. وحدة الزمن نفسها هذه، عنوانٌ
لائقٌ
بالفيلم البرتغالي «يوم بارد». عائلة مؤلّفة من أربعة أشخاص:
أب وأم وابنة وابن.
متابعة وقائع يوم واحد من حياتهم كفيلة بكشف المستور والانشقاق والتمزّق.
الأم
مصابة بمرض. الأب مهموم بعمله. الابن هاربٌ من مدرسته. الابنة مغرمة
بصديقتها. يوم
بارد بحقّ. لكنه محفوف بأسئلة الحياة والانتماء. هناك حبّ جامع
بين الوالدين. لكن
هناك انشقاق واضح في البناء الداخلي العام للعائلة. كشف الإخراج تلك
التفاصيل بهدوء
تام. تلاعب بين الكلام والصمت. مشاهد عدّة مصوّرة بشكل جميل، اعتمدت الصمت
لغة.
الكلام قليلٌ. لكن سطوة المآزق قاسية. العالم مجروح. هذا انطباع أكّدته
أفلام قليلة
مشاركة في المسابقة الرسمية الدولية.
برامج ونشاطات
من الدانمارك، هناك «كاترين» لمادس ماثيوسن. ابنة الأعوام الستة
عشر محتاجة إلى منفذ للخلاص من قسوة
السلطة الأبوية. ترتبط بعلاقة حبّ مع لارس (33 عاماً)، يرفضها
والداها. الأم أعنف
من الأب، وإن خلا عنفها من أي اعتداء جسدي. عنف السلطة الخفية لا يوصف. لكن
المعالجة ظلّت عادية، مع أنها كشفت مأزق كاترين في علاقاتها بنفسها وحبّها/
حبيبها
وأهلها. هذا على نقيض العلاقة الإيجابية بين الأب وابنه في
الفيلم الروماني/
الفرنسي «الموسيقى تسري في دمي» لألكسندرو مافرودينيانو: بيتر متيقن من
موهبة ابنه
في الغناء. يرافقه إلى مسابقة. لا أحد يختاره. لكن الولد
الموهوب يثير إعجاب ركّاب
الباص.
متنوّعة هي أفلام المسابقات الرسمية، الدولية والفرنسية والتجريبية.
متفرّقة البرامج الموازية. النشاطات كثيرة. الاحتفال بالسينما الروائية
القصيرة
مثير للنقاش لا ينتهي حول خصوصية هذا النوع. الاهتمام الإنتاجي أو الدعم
المالي
الخاصّان بها جديران بالمتابعة. «المركز الوطني للسينما» في
فرنسا أعلن، عشية بدء
الدورة الحالية لـ«مهرجان الفيلم القصير في كليرمون فيران»، أن هناك 533
إجازة عرض
مُنحت لأفلام قصيرة خلال العام الفائت، أي بارتفاع بلغ 13 بالمئة عن العام
السابق
له. أشار المركز إلى أن الدعم المقدَّم لإنتاج الأفلام القصيرة
بلغ عشرة ملايين
يورو، ما يُعادل 53،4 بالمئة من المساعدات الإنتاجية السينمائية العامة.
أضافت
المعلومات المنشورة في المجلة الفرنسية الأسبوعية «إكران توتال» (27 كانون
الثاني
الفائت)، أن المساعدات المنتقاة من قبل المركز نفسه، لمنحها
لمؤلفي الأفلام القصيرة
ومنتجيها (منها مساعدات لإعادة الكتابة وبرامج الاستثمارات وجوائز القيم
الفنية)،
ارتفعت بنسبة ستة بالمئة في العام 2009، عمّا كانت عليه سابقاً. والاهتمام
بالفيلم
القصير ليس حكراً على السينما الفرنسية. إدارة المهرجان اختارت المغرب
«دولة ضيفة»
في الدورة الحالية، ببرنامج تضمّن واحداً وأربعين فيلماً منتجة حديثاً
وقديماً، إذ
اختير فيلمٌ واحدٌ أنتج في العام 1956 بعنوان «صديقتنا المدرسة» للعربي
بنشكرون،
بالإضافة إلى أفلام منتجة في الستينيات والسبعينيات
والتسعينيات، وصولاً إلى أفلام
العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين هذا: «أعتبر ان اختيار السينما
المغربية
ضيف شرف، انعكاسٌ للتقدّم المستمر للفيلم المغربي القصير في المشهد
العالمي، ما
جعله موجوداً في التظاهرات السينمائية الدولية الكبيرة»، كما قال محمد
باكريم، أحد
المسؤولين في «المركز السينمائي المغربي». أضاف أن الحضور المغربي هذا
«موعدٌ مهمٌ
بالنسبة إلى السينمائيين المغاربة، بقصد الاحتكاك بنظرائهم
الأجانب»، معتبراً ان
المهرجان متميّز بشهرته الدولية». من جهته، علّق جورج بولّون على المسألة
(في حوار
منشور في «إكران توتال»، في عددها الصادر في 27 كانون الثاني الفائت)،
بقوله إن
الفيلم الروائي المغربي القصير وُلد مع استقلال المغرب، مشيراً
إلى أن هناك جيلاً
كاملاً من السينمائيين المغاربة كوّن وعيه المعرفي وصقل موهبته الفنية في
الخارج في
الفترة الممتدة بين بدايات الخمسينيات ونهاية السبعينيات: «هناك مرحلة
جديدة وُلدت
في منتصف التسعينيات، مع فرنسيين من أصول مغربية تحديداً، «عادوا إلى
البلد» من
وجهة نظر سينمائية. هذا أعطى نَفَساً جديداً». وانتهى إلى
القول إن الأفلام
المغربية المختارة لبرنامج الاحتفال بالفيلم المغربي القصير تُقدِّم صورة
وافية عن
هذا الإنتاج الممتد على مراحل مختلفة من عمر السينما المغربية.
السفير اللبنانية في
04/02/2010 |