شكّلت الدورة الحادية عشرة لـ"مهرجان الفيلم الوطني" في المدينة
المغربية طنجة، المُقامة بين الثالث والعشرين والثلاثين من كانون الثاني
2010، بإشراف "المركز السينمائي المغربي"، مناسبة مهمّة للاطّلاع على
النتاجات السينمائية الجديدة في المملكة المغربية، على ضوء التطوّر
الإبداعي الذي عرفته تلك السينما في الأعوام الأخيرة، خصوصاً على مستوى
الجماليات البصرية والدرامية والفنية التي تمتّعت بها أفلام عدّة لفوزي
بنسعيدي ("ألف شهر" و"عالم جميل") ونور الدين لخمري (كازانيغرا) والأخوين
عماد وسويل نوري ("باب الجنّة" و"الرجل الذي باع العالم")، وغيرهم من الجيل
السينمائي الشاب. بمعنى آخر، فإن مُشاهد الأفلام المذكورة أعلاه لمخرجين
شباب، لا شكّ في أنهم "يؤسّسون" نمطاً جديداً وجميلاً ومتقدّماً على
المستويات البصرية والجمالية والدرامية، يسعى (هذا المُشاهد) إلى مهرجان
وطني للسينما المغربية، راغباً في معاينة الجديد في بلد اشتهر بكونه أحد
أفضل الدول العربية سينمائياً وأهمّها على الإطلاق، إنتاجاً ومهرجانات
وخدمات فنية قادرة على استقطاب سينمائيين غربيين لتصوير أفلامهم، أو مشاهد
من أفلامهم في طبيعة بديعة ومغرية. ذلك أن الدورة المذكورة، التي ضمّت في
مسابقتيها الرسميتين الخاصّتين بالأفلام الطويلة والقصيرة ثلاثين عملاً
جديداً، بدت مرآة شفّافة للواقع الآنيّ لهذه السينما، بفضل مشاركة خمسة عشر
فيلماً طويلاً وخمسة عشر فيلماً قصيراً، توزّعت على مخرجين محترفين أو
مخضرمين، كالجيلالي فرحاتي (عند الفجر) ولطيف لحلو (الدار الكبيرة) وحسن
بنجلون (المنسيون) ومحمد إسماعيل (أولاد لبلاد) مثلاً، وعلى مخرجين شباب
مقيمين داخل المغرب أو في بلاد المهجر، كمحمود فريتس (إكس شمكار) وهشام
عيّوش (شقوق) وإسماعيل سعيدي (أحمد كاسيو) وآخرين.
لكن، على الرغم من اشتهار المغرب بنشاطه السينمائي، بدا واضحاً، منذ
اللحظة الأولى لإطلاق الدورة الحادية عشرة هذه، أن هناك مأزقاً فعلياً في
صناعة الفيلم المغربي. فالافتتاح، الذي كُرِّم فيه الممثل المسرحي
والسينمائي محمد سعيد عفيفي، المتوفي في السادس من أيلول الفائت عن ستة
وسبعين عاماً، تضمّن عرضاً لفيلم "فيها الملحة والسكر أو مازال ما بغاتش
تموت" (مُصابة بارتفاع نسبة الملح والسكّر في دمها لكنها لا تزال حيّة
تُرزق) لحكيم نوري، والد الأخوين عماد وسويل، المنضوي في خانة الأفلام
الكوميدية، لكن المجبول بكَمّ من الهنات الفنية والدرامية والجمالية،
والمفتقد حدّاً جمالياً مطلوباً في صناعة الفيلم الكوميدي. وعلى الرغم من
هذا، بدا عفيفي أقدر الممثلين على امتلاك حرفية أدائية بدت، لوهلة، أقرب
إلى التهريج منها إلى التمثيل، لكنها سرعان ما كشفت عن مقوّمات تمثيلية
سليمة. وعفيفي، المولود في الخامس والعشرين من كانون الأول 1933، اعتُبر
"أحد رجالات العصر الذهبي للمسرح المغربي"، واستمرّت عطاءاته الفنية ليس
فقط في مجال التمثيل، بل بتدريب الشباب على أن "يحبّوا" المسرح، قبل أن
يتمرّنوا على أدواته وتقنياته وانفتاحه على الاحتمالات الإبداعية المختلفة.
وإذا بدت شهرته المسرحية كبيرة في بلد اشتغل مبدعوه في المجالات الثقافية
والفنية المتنوّعة، مع أن المهتمّين بالشؤون الفنية في دول عربية مشرقية لا
يعرفون الكثير عنه وعن أعماله، فإن اشتغاله السينمائي في أفلام كـ"السراب"
لأحمد البوعناني و"البحث عن زوج امرأتي" لمحمد عبد الرحمن التازي و"ألف
شهر" لفوزي بنسعيدي و"عود الورد" للحسن زينون وغيرها، بدت أقرب إلى
المعنيين بالفن السابع العربي، لقدرتها على الانتشار الجغرافي بـ"حرية"
أكبر بقليل من التواصل المسرحي العربي العربي. إن مشاهدي الأفلام تلك
يُدركون تماماً أن محمد سعيد عفيفي متمكّن من النوعين التمثيليين الكوميدي
والدرامي. فهم يتذكّرون الفيلم الكوميدي البديع "البحث عن زوج امرأتي"
مثلاً، المرتكز على بنية كوميدية بحتة، مغلّفة ومشغولة بحرفية سينمائية
لافتة للانتباه. ويتذكّرون الرجل الذي طلّق زوجته ثلاث مرّات، فوجد نفسه في
النهاية عاجزاً عن استرجاعها، ما دفعه إلى الطلب من صديق له بالزواج منها
لتطليقها، ليتسنّى له، شرعاً، الزواج بها رابعة. لكن الصديق يهرب بها،
ويبدأ الزوج بالبحث عنهما معاً، في رحلة بديعة ومثيرة للضحك الجميل
والعميق. وهم يتذكّرون، في المقابل، براعة بنسعيدي في التوغّل، سينمائياً
وفكرياً وجمالياً، في متاهات الذات البشرية وسط تداعيات الخيبة والأوجاع،
ووسط الجبال الشاهقة والمتسلّطة.
غير أن فيلم الافتتاح، الذي أنجزه حكيم نوري في العام 2005، لم يكن
فيلماً كوميدياً، بقدر ما بدا تهريجاً كاد يتغلّب على النصّ والتمثيل
والمناخات العامّة، لولا حرفية محمد سعيد عفيفي. فالقصّة ساذجة (الصراع بين
زوج الابنة ووالدتها، والبحث عن منفذ للخلاص من سلطة الحماة)، والمعالجة
بائسة (وهم الكوميديا)، والتمثيل مفتعل (ادّعاء الكوميديا أفضى إلى تهريج
ساذج لدى بعض الممثلين)، والسياق مفكّك، أو مسطّح على الأقلّ. وإذا انطلقت
الدورة الحادية عشرة بفيلم كهذا، فإن أفلاماً عدّة مُشاركة في المسابقة
الرسمية الخاصّة بالأفلام الطويلة لم تكن سليمة الشكل والمضمون معاً.
فباستثناء عدد قليل للغاية من الأفلام الطويلة الجادّة والمهمّة، كـ"الدار
الكبيرة" للطيف لحلو و"الرجل الذي باع العالم" للأخوين نوري و"شقوق" لهشام
عيّوش (هذا الأخير مختلف كلّياً عن الأنماط المتداولة في أفلام المسابقة،
بالمعنى البديع للاختلاف البصري)، لم تكن الأفلام الأخرى، كـ"أحمد كاسيو"
لسعيدي و"عقاب" لهشام عين الحياة و"فينك أليام" (أين أنت أيتها الأيام)
لدريس شويكا و"إكس شمكار" (متشرّدون سابقون) لمحمود فريتس و"موسم لمشاوشة"
لمحمد عهد بنسودة، ذات سوية إبداعية متكاملة ومتمكّنة من شروطها الفنية
والتقنية والدرامية. بالنسبة إلى الأفلام الثلاثة الأولى (الدار الكبيرة،
الرجل الذي باع العالم، شقوق)، شكّل التوازن شبه التام بين الشكل والمضمون
دعامة حقيقية لنجاح بصري ميّزها عن سواها بكونها وضعت المادة المختارة
والمعالجة الدرامية الجدّيتين في قالب سينمائي جميل. وبالنسبة إلى الأفلام
الأخرى، فإن اختيار مواد درامية من عمق المجتمع والبيئة والذاكرة التاريخية
لم يؤدّ إلى تحويل النصّ إلى فيلم سينمائي. بهذا المعنى، يُمكن القول إن
الخلل الفني في البنى الدرامية والجمالية واضحٌ في تفريغ المواضيع
الإنسانية والتاريخية من مضامينها المحتاجة إلى براعة فكرية ومخيّلة بصرية
لجعلها نابضة بالحيوية السينمائية المطلوبة.
أولاد البلد
إلى ذلك، هناك فيلم "أولاد البلد" لمحمد إسماعيل. فالمادة المختارة
مرتكزة على واقع اجتماعي وإنساني أصاب المجتمع المغربي في الصميم (واقع
الحال اليومي لجيل شبابي ضائع وسط تحديات المرحلة). لكن المعالجة الفنية
والتقنية محتاجة إلى اختبار إبداعي مغاير للشكل المُقدّم فيه. قال المخرج:
"خلال مساري السينمائي الطويل والمتواضع، ظلّت تؤرقني تلك القضايا الكبرى
التي تنبعث من بوتقة المجتمع المغربي. يكفي ربما أن أقرأ مقالاً صحفياً أو
أن أشاهد برنامجاً تلفزيونياً أو صُوَراً مُعبِّرة، ليشتعل في داخلي فضولٌ
لا حدود له، يدفعني دفعاً إلى سبر أغوار ذلك المقال أو البرنامج أو تلك
الصُوَر، بهدف التفاعل بين قضايا تهمّ مجتمعاً بكامله، ومحاولة فهم مستعصية
لأفكار تصلح لبناء متن حكائي، يعيد تأسيس القضية برمتها وتأويلها". أضاف
إسماعيل إن "صُوَر الوقفات الاحتجاجية لأصحاب الشهادات العاطلين عن العمل،
والجدل الدائر حول تلك الصُوَر، وحول محاولة فهم الصراع بين الحكومة وهؤلاء
العاطلين عن العمل، يُعتبر مثالاً حياً للتفاعل الذي ذكرته أعلاه. هؤلاء
شباب أفنوا زهرة حياتهم في تحصيل العلم، وكانوا يُمَنّون النفس ببلوغ غد
يُنسيهم ما تحمّلوه من عناء وجهد، ليجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام شبح
البطالة، الذي يلغي جميع آمالهم في غد مشرق". وأشار إلى أنه بعد قراءته
سيناريو عبد الإله بنهدار، المستند إلى فكرة لعبد الإله أمزيل، "قرّرتُ
تحويل المخطوط إلى مرئي، وخوض تجربة المغامرة مرة أخرى. وبعد خمس محاولات
لكتابة سيناريو متين ومقنع، قرّرت الإقامة في "واد لو" للتمكّن من استيعاب
روح الفضاء الذي سيؤسّس حبكة السيناريو". من هذه البلدة الصغيرة في شمال
المغرب، خرج ثلاثة فتيان إلى الرباط بهدف إكمال دراساتهم العليا التي
سيتفوقون بها لاحقاً. بعد حصولهم على شهادات علمية عالية، وجدوا أنفسهم
أمام باب مسدود لإستحالة اندماجهم داخل سوق العمل المغربية الهشّة. وأمام
مأزق كهذا، يضطر الثلاثة إلى نهج سبل مختلفة وغير آمنة.
ماذا عن الأفلام الأخرى؟
الرجل الذي باع العالم
بين الأفلام الثلاثة الأولى، برز "الرجل الذي باع العالم" للأخوين
نوري، لمزجه تقنيات الفن التشكيلي بالمناخ المسرحي، من دون التغاضي عن
المخيّلة السينمائية في قراءة علاقات الصداقة والحب بين صديقين وحبيبة.
فالتصوير مائل إلى اللون الرمادي في معاينة التفاصيل اليومية في حياة هذ
الثلاثي. والتوليف ناجحٌ في استقطاب انفعالات شتّى إزاء المسار التصاعدي
للمأزق النفسي والتمزّق الروحي. والأداء (خصوصاً سعيد باي وفهد بنشمسي)
انعكاس لشفافية شخصيتي الصديقين وهشاشة عيشهم على الحدّ الفاصل بين الوهم
والواقع والمتخيّل العبثي. أما "شقوق"، فبدا كسراً للتقليد المألوف في
صناعة الفيلم السينمائي، إذ بدا واضحاً تحرّره المطلق من أي ضوابط في
التصوير والكتابة والأداء، ما أدّى إلى تفلّت إبداعي للمناخات المتعلّقة
بثلاثي آخر، هما صديقان وحبيبة أيضاً، وعيشهم اليومي في القهر والفقر
والسكر والجنون والعبث. في المقابل، اختار لطيف لحلو موضوع العلاقة
الصدامية بين ثقافتين ومنطقين تربويين واجتماعيين، ليسرد فصولاً من العيش
العنيف على التخوم القاسية للحب والتقاليد وسلطة الأب. زوجان، فرنسية
ومغربي، يعودان مع ابنهما الوحيد إلى الدار البيضاء، للإقامة في بلد الأب/
الزوج في عائلته الكبيرة. تبدأ الصدامات خفيفة، قبل أن تنفجر، لتعكس المأزق
والتفاصيل البشعة والقاسية، قبل أن تنتهي المسألة في شكل ساخر: العائلة هي
الزوجة والابن قبل أي شيء آخر. هنا، حافظ النصّ السينمائي على سلاسته
السردية والشكلية.
الأفلام الأخرى محتاجة إلى تأهيل سينمائي جذري، على الرغم من موادها
المهمّة. فـ"أحمد كاسيو" مستلّ من سيرة مناضل مغربي ضد الفرنسيين، بعد أن
تربّى في كنفهم إثر وفاة والديه. لكن السيرة افتقدت عمقها الإنساني
والدرامي، والفيلم ظلّ خارج المعالجة العميقة للأسئلة المطروحة في العلاقة
بين ثقافتين متصادمتين. و"عقاب" عمل تلفزيوني مشبع بالتبسيط المزعج الذي
قدّم حكاية بوليسية عادية عن رجل ينتقم من معذّبيه القدامى. و"فينك أليام"
عاد إلى مرحلة النضال الطالبي في المغرب في سبعينيات القرن المنصرم، كي
يرسم ملامح علاقات الحب والخيبة والزواج بين مجموعة من الأصدقاء المناضلين،
الذين فرّقتهم الأيام، وجمعتهم رسالة غامضة من صديقة اختفت كلّياً من
حياتهم. و"إكس شمكار" انعكاس لواقع مأسوي عاشه متشرّدون يحلمون بالخروج من
نفق الخراب الروحي والفقر والألم، قبل أن يصطدموا ببشاعة الواقع. و"موسم
لمشاوشة" ("مشاوشة" تعني لعبة رياضية قديمة في المغرب) استعادة منقوصة
لفصول تاريخية مرتكزة على خلل واضح في السرد الدرامي.
المستقبل اللبنانية في
29/01/2010 |