منذ بداية هذا العام، كان ثمة سؤال أساسي، إن لم يكن سؤالاً وحيداً،
شغل بال
مقدمي نشرات الأخبار وأصحاب البرامج التلفزيونية السينمائية أو
غير السينمائية: «هل
انتهى دور الممثل في السينما، وهل انتهى
زمن النجوم؟». هذا السؤال راح يطرح على
النقاد والصحافيين وربما أحياناً على
الجمهور السينمائي نفسه في شكل ملحّ. أما
الإجابات فتراوحت بين متحمس لهذا الجديد الذي أتى به، مثلاً، فيلم «آفاتار»
لجيمس
كاميرون، فأعلن «موت الممثل» وولادة ما سماه «السينما الجديدة»، بمعنى انها
السينما
اللاشخصية والتي تكاد تكون سينما لا انسانية (متراوحة بين أفلام التقنيات
الجديدة،
وازدهار سينما التحريك... وما شابه)، وبين متحفظ يرى أن هذا كله مجرد موجات
بعضها
يبقى راسخاً وبعضها يعبر. أما الأساس فيبقى الممثل، الإنسان، النجم، الذي
لن يمكن
السينما أن تستغني عنه، لأن الجمهور نفسه لا يحبذ... ولن يحبذ هذا.
طبعاً لم يتمكن أحد من حسم النقاش. فلكل رأيه ولكل معطياته التي يستند
اليها
لإبداء الرأي. والمهم في الأمر أنه إذا كان النقاش قد تواصل
وسيتواصل أكثر، فإنه في
الوقت نفسه قد تضاءل... ويبدو أنه سيتضاءل
أكثر خلال الشهور المقبلة من هذا العام
والذي سيليه، حيث ستبدأ عروض المهرجانات
وعروض الصالات وتنتشر، تباعاً، الأفلام
الجديدة الكبرى الموعودة. وهي في غالبيتها
العظمى أفلام أول ما تقترحه هو تأجيل كل
ذلك النقاش لأن «الممثلين في خير»، بل إن نجوماً منهم يعودون، ليس فقط أمام
الكاميرا، بل وراءها أيضاً (مثال حي على ذلك، بن أفليك الذي يعود مخرجاً،
اضافة الى
كونه ممثلاً في فيلم جديد هو «المدينة» يعرض ابتداء من آخر الصيف المقبل،
وسيلفستر
ستالوني، الذي يعود بدوره بعد غياب في فيلم من اخراجه وتمثيله هو «القابلون
للتمدد»
الذي حدد موعد عرضه الأول في آب (أغسطس) من هذا العام، ويدور موضوعه حول
مهمة
انقاذية لبلد في أميركا الجنوبية يقودها ستالوني بنفسه ضد «القوم الفاسدين»
من
أعضاء السي آي إي أنفسهم). والحقيقة ان عودة ستالوني وأفليك، لن تكون
«العودة»
الوحيدة اللافتة هذا العام، في الأفلام المسماة «تجارية». بل هناك عودات
أخرى، ستصل
الى زخمها الكبير مع بدايات الخريف المقبل، يمكن أن نذكر منها هنا حالتين
لافتتين
يمكن أن نتوقع لهما منذ الآن نجاحات تجارية هائلة، استناداً الى سوابقهما:
«توي
ستوري رقم 3» الذي يعرّفه أصحابه منذ الآن بأنه ليس فقط فيلماً للأطفال، بل
انه
فيلم للبالغين أيضاً. وحتى وان كان هذا الفيلم تحريكياً، فإن في ملصقه من
الأسماء
ما يجعل امكانات نجاحه مضاعفة... بفضل أصوات أصحاب هذه الأسماء، من توم
هانكس الى
تيم آلن، ومن مايكل كيتون الى جوان كوزاك، وصولاً الى تيموثي دالتون - الذي
كان ذات
مرة، جيمس بوند... - وهاري بوتر الذي يعود في الفيلم الجديد المأخوذ عن آخر
روايات
مبتدعة الشخصية ج.ك.راولنغ... لكنه لن يكون آخر الأفلام، لأنه الى عنوانه
«هاري
بوتر والأطياف القاتلة» يحمل الرقم 1، بمعنى ان رواية راولنغ الأخيرة تقسم
فيلمين
سيتتالى عرضهما خلال هذا العام والذي يليه. وكأن الساحر الصغير الذي فتن
مئات
الملايين، قراءً ومشاهدين، يعز عليه أن يغادر الساحة بهدوء، فيبطئ...
الدمى والساحر الصغير
«توي ستوري» و «هاري بوتر»، سيكونان بالطبع أبرز العائدين وربما أكثرهم
نجاحاً.
غير أن اللافت ليس هنا، اللافت هو أنه، في خضم عشرات الأفلام
والحكايات السينمائية
المقبلة طوال العام، ثمة ثلاث عودات يمكن
التوقف عندها طويلاً، لأنها، معاً، تنبثق
بشكل أو آخر من الأدب الكلاسيكي الإنكليزي، من دون أن يكون ثمة اتفاق في ما
بينها
على ذلك، طبعاً. ومن دون أن تكون الأفلام الثلاثة المحققة عنها، أول
أفلامها، حيث
نعرف أن كل واحد من الأفلام الثلاثة التي نشير اليها هنا، انما هو استعادة،
في كل
مرة، لدزينة وأكثر من أفلام حققت طوال القرن العشرين، عن رواياتها الأصلية.
ولعل في
وسعنا أن نثير الاهتمام بالأمر، لمجرد أن نذكر الأسماء الثلاثة للشخصيات
التي تدور
الروايات من حولها، طالما ثمة اتفاق عام على انها، معاً، الشخصيات الأشهر
في الأدب
الشعبي الانكليزي: روبن هود، شرلوك هولمز، وأليس. فإذا أضفنا الى هذا،
أسماء
المخرجين الثلاثة الذين تولى كل واحد منهم تحقيق فيلم جديد عن هذه
الشخصيات، ثم
أسماء لاعبي الأدوار الرئيسة في كل فيلم، سيكون في وسعنا التوقف، مدهوشين
حقاً،
أمام الظاهرة. فريدلي سكوت هو الذي حقق «روبن هود» - الذي سيعرض بدءاً من
14 أيار (مايو)
المقبل، ما يفترض منطقياً أنه سيكون ضمن عروض الدورة المقبلة لمهرجان «كان».
أما الأدوار الرئيسة فيقوم بها راسل كراو وكيت بلانشيت وويليام هارت. ومنذ
الآن يرى
نقاد ومراقبون كثر أن هذا الفيلم سيعيد ريدلي سكوت الى الواجهة، كما يعيد
الى
الواجهة أيضاً تلك الشخصية نصف التاريخية/ نصف الأسطورية التي ارتبطت بحرب
الفقراء
على الأغنياء، كما بالحروب الصليبية والملك آرثر وغابات انكلترا وفرسان
الطاولة
المستديرة. ولعل الدعم المعنوي الذي
ناله الفيلم، منذ الآن، على لسان روبن هود
الجديد، راسل كراو، كافٍ لإثارة الحماسة
لمشاهدة هذا الفيلم الجديد (العشرين أو الثلاثين عن الموضوع نفسه في تاريخ
الفن
السابع!)، إذ قال كراو بكل بساطة: «ان على هذا الفيلم أن يكون أفضل روبن
هود
سينمائياً، وإلا لما كنت قبلت أن أمثل فيه». فهل نضيف ان اسم سكوت قد يكون
ضمانة
لهذا؟
أليس في عالم بورتون
«أليس» التي كتب لويس كارول حكايتها أواخر القرن قبل الفائت، هي هنا
الشخصية
التالية التي تأتي من التاريخ الأدبي الإنكليزي لتطفح أفكاراً
وأبعاداً بصرية على
الشاشة الكبيرة. ونعرف أن هذه الأفكار
والأبعاد البصرية مضمونة منذ الآن، طالما ان
الاخراج من توقيع تيم بورتون الذي يجمع هنا في عمله الجديد هذا، عدداً من
الممثلين
وفي مقدمهم جوني ديب وآن هاتاواي وهيلينا بوهان - كارتر (زوجة المخرج في
الحياة
العامة)، اضافة الى الصبية الجديدة ميا سيكوفسكا، في دور أليس، التي تزور
هنا «بلاد
العجائب» من جديد، بعدما زارتها عشرات المرات في السينما منذ ولادة هذا
الفن...
ولكن من الواضح، اليوم، ان الزيارة هذه المرة ستكون الأكثر جمالاً، من
الناحية
البصرية - استناداً الى صور الفيلم وبعض ما عرض من مشاهده - وربما الأكثر
جدة
وطرافة من الناحية الفكرية - إذ يمكن المراهنة على هذا استناداً الى أن
مخرج الفيلم
هو بورتون الذي عرف في كل أفلامه، حتى اليوم، كيف يقدم الجديد، حتى حين
يستند الى
أعمال أدبية معروفة، والى غيرها من الأعمال، ولنذكر هنا «السمكة الكبيرة» و
«سليبي
هالو» و «سويني تود» وغيرها من روائع الأفلام السينمائية خلال ربع القرن
الأخير.
وأن يكون بورتون قد اختار، هذه المرة أن يزور حكاية أليس، بعد سلسلة أفلام
تتراوح
بين الدموية والغرائبية، فأمر طبيعي يعززه قول المخرج انه، أصلاً ومنذ بدأ
يخوض فن
السينما، كان موضوع «أليس في بلاد العجائب» دائماً في باله. عروض «أليس»
ستبدأ
عالمياً خلال الأسابيع القليلة المقبلة، ما ينفي ما كان أذيع من أن هذا
الفيلم
سيخوض المسابقة الرسمية في دورة «كان» المقبلة. المرجح هو أن يعرض إما خارج
المسابقة أو في الافتتاح، علماً بأن مخرجه سيكون هو، هذه المرة، رئيس لجنة
التحكيم
في المهرجان الفرنسي العريق كما تفيد آخر الأخبار التي باتت موثوقة.
هولمز على طريقة بوند
إذاً، في هذين الفيلمين المقتبسين بأمانة نسبية، كما يبدو، من درتين
من درر
الأدب الانكليزي، سنستعيد شخصيتين نعرفهما جيداً، ومنذ
الطفولة. ولقد كان في
الإمكان قول هذا الشيء نفسه عن الشخصية
الثالثة، والأخيرة في هذا السياق المستقاة
بدورها مما صار كلاسيكياً في الأدب الانكليزي: شخصية التحري الشهير شرلوك
هولمز
الذي ابتكرته ذات يوم مخيلة الكاتب سير آرثر كونان دويل، فجعله بطلاً
لعشرات
الروايات والقصص القصيرة موفراً له من عناصر النجاح ما جعل قراءه يعدون
بعشرات
الملايين وبالتالي جعل مشاهدي الأفلام المقتبسة عنه يعدون بمئات الملايين.
ففي
مغامرات وتحريات هولمز وصديقه و «مستشاره» دكتور واطسون ما يغري دائماً
ويخاطب ملكة
العقل والمنطق لدى المتابعين. ومن هنا كان الاستغراب كبيراً إذ مضت سنوات
عدة لم
يضف، خلالها، أي عمل جديد الى الأفلام الكثيرة المقتبسة عن حكايات هذا
التحري في أي
مكان في العالم (علماً بأن ثلاثة ارباع القرن العشرين الأول، ومنذ بدايات
السينما،
شهدت عشرات الاقتباسات لم يكن اقلها اقتباس حققه بيلي وايلدر، أو آخر هزلي،
أو ثالث
يتناوله فتيّاً). الفيلم الجديد، والذي بدأ عروضه الفعلية يختلف اختلافاً
جذرياً عن
معظم ما سبقه لأنه وبكل بساطة، لا يستند الى رواية أو قصة كتبها دويل. إذ،
هنا،
وكما حدث في الفيلم الأخير لجيمس بوند «مجموعة البهجة»، استخدمت الشخصية
التي
ابتكرها أديب انكليزي (هو ايان فلامنغ بالنسبة الى جيمس بوند)، ليُكتب من
حولها عمل
روائي جديد... بالنسبة الى بوند، كان الكاتب هو بول هاجيس، صاحب أفلام باتت
شهيرة
مثل «كراش». وهو يعكف حالياً، بعدما جدد في «كازينو رويال» بكتابته
السيناريو
لرواية كتبها فلامنغ حقاً، ثم كتب حكاية وسيناريو بقية «كازينو رويال»،
يعكف على
كتابة عمل بوندي جديد، يبتعد أكثر وأكثر عن عوالم فلامنغ، مبقياً على
الشخصية
الأساسية فقط . إذاً، كما حدث مع جيمس بوند، يحدث الآن مع شرلوك
هولمز، حين تشارك
ثلاثة من كتّاب السيناريو في كتابة الفيلم
الجديد، الذي يقوم فيه روبرت داوني
جونيور بدور هولمز، فيما يقوم جادلاو بدور
واطسون. أما الغريب في الأمر فهو أن
هولمز هذا الفيلم الذي حققه غاي ريتشي، لا
يبدو على أية علاقة حقيقية بهولمز
الأصلي، بل يبدو، في حيويته ومغامراته
النسائية وحواراته، بل حتى في «القضية» التي
يحقق بها هنا، أشبه بجيمس بوند، منه بالتحري القاطن ببيكر ستريت في لندن.
ولعل في
امكاننا ان نقول هنا ان شرلوك هولمز في «فيلمه» الجديد هذا، يبدو أشبه
بالشخصية كما
كان يمكن لآرثر كونان دويل أن يكتبها لو أنه عاش عند نهاية القرن العشرين
لا عند
نهاية القرن الذي سبقه.
ومع هذا، نحن هنا، بالتأكيد، في حضرة الشخصية التي نعرفها،
تماماً كما اننا سنكون خلال الشهور التالية في حضرة الشخصيتين الأخريين
اللتين
نعرفهما منذ الصغر: روبن هود، وأليس. فهل يمكن أحداً أن يستنتج، من هذا،
مثلاً، أن
السينما من الزمن الانتقالي الذي تعيش، تعود الى أوراق الأدب القديمة، بعد
أن باتت
مخيلة صناعها عاجزة عن ابتكار الجديد؟ ربما يصح هذا الكلام بشكل عام. ولكن
قبل
تأكيده، لا بد من معاينة الكيفية التي تقدم بها هذه الشخصيات الآن،
وخصوصاً،
الطريقة التي نستعيد بها، التعامل معها مع وجود لغات الإخراج الجديدة،
وتقنيات
تحقيق الفيلم المتزايدة الروعة... وربما أيضاً أساليب التمثيل التي تكاد
تجعل
الشخصيات، على ما يقال بشكل عام على الأقل، تبدو من لحم ودم، على أيدي
مخرجين من
الصف الأول، يبدو كل منهم في فيلمه وكأنه يحقق حلم طفولة خفي.
الحياة اللندنية في
29/01/2010 |