«أنا كسينمائي، أشعر أنني حر تماماً من كل قيد. وأنني لأحرص على أن
أبقى كذلك. ومن هنا أراني أتفادى دائماً الوقوع في فخ النجاح. وبالتالي لا
أحب أبداً ان تشاهد أفلامي من جانب أعداد كبيرة من المتفرجين. وأفضل على
ذلك أن يكون لهذه الأفلام جمهور صغير راض عنها. ومن هنا أراني لا أسعى
أبداً وراء الظواهر الرائجة...». بهذه العبارات البسيطة كان اريك رومير،
يحب أن يتحدث عن نفسه وعن عمله السينمائي، هو الذي - بالفعل - لم يتخط أي
من أفلامه التي حققها طوال نصف قرن، حاجز الـ 200 ألف متفرج، ليستقر الرقم
متفاوتاً بين فيلم وآخر عندما يتراوح بين 50 ألف متفرج وأربعة أضعاف هذا
العدد. وعلى هذا الصعيد، على الأقل، يمكن القول ان رومير، إذ رحل قبل أربعة
أيام عن عمر يناهز التسعين، مات راضياً عن نفسه، إذ حقق المعادلة التي كانت
تشغل باله منذ أول فيلم له - لم يكتمل - عند بداية سنوات الخمسين من القرن
الفائت: معادلة تجعل من سينماه، متناً متكاملاً يحظى بتأييد النقاد،
وبجمهور محدود يتفهم ذلك المتن ويتفاعل معه... فكرياً وأخلاقياً على الأقل.
هكذا كان طوال مساره السينمائي، وهكذا بقي حتى أعوامه الأخيرة. ومع
هذا، حتى من
دون أن يعرف كل الفرنسيين، أو كل الأوروبيين أفلامه، كان فنه السينمائي
معروفاً في
فرنسا على نطاق واسع، من خلال ما يكتب عنه، حيث إن كل فيلم من أفلامه -
خلال العقود
الثلاثة الأخيرة - كان يشكل مناسبة للحديث عنه أو معه، في
الصحافة، حتى وإن لم يكن
هذا كله يؤدي الى تزاحم المتفرجين على شباك التذاكر. وفي هذا السياق، لعل
ما تجدر
ملاحظته قبل أي شيء آخر هو أنه في حين كان رومير، يعتبر «ظاهرة سينمائية
فرنسية
خالصة»، كان الغريب أن تكريمه الحقيقي أتى، في معظم الأحيان،
من الخارج: فالجوائز
التي نالها في حياته، عن عدد لا بأس به من أفلامه، أتته من مهرجانات أجنبية
مثل «برلين» و «البندقية»، فيما كان نادراً نيله
جائزة من «كان». ومع هذا لا شك في أن
فرنسيّة أفلامه كانت واضحة كل الوضوح، وليس فقط في السلسلتين
الأساسيتين اللتين
حققهما واشتهرتا في العالم كله: سلسلة «الحكايات الأخلاقية»، وسلسلة
«الأمثال
والكوميديات»... اضافة الى السلسلة التي ستكون الأكثر نجاحاً «حكايات
الفصول
الأربعة». والحال أن رومير حرص دائماً على صوغ أفلامه في دورات
متواصلة، حتى وإن
قطعت بينها أفلام تاريخية من هنا، أو أخرى تجسسية من هناك، ما يجعل 21
فيلماً
طويلاً، من أصل الـ 27 التي حققها طوال ما يقرب من نصف قرن، تبدو على شكل متن
متكامل، يكاد معظم مواضيعه يدور، بحسب تحديد رومير نفسه، حول فكرة هي نفسها
دائماً «فيما يكون الراوي في الفيلم منشغلاً بالبحث
عن امرأة ضاعت منه، يلتقي بواحدة أخرى
تشغل اهتمامه وحياته ريثما يعثر على الأولى...». طبعاً لا يمكن
القول ان هذا
الموضوع يتكرر حقاً بين فيلم وآخر من أفلام الدورات، لكنه يعرف كيف يطل
برأسه في
أفلام قد يحبها هاوي السينما أو لا يحبها (بخاصة ان كان الهاوي من محبي
الثرثرة
المتواصلة في الأفلام او من كارهيها)، بين الحين والآخر.
والحقيقة ان هذه الملاحظة الأخيرة يفرضها كون سينما رومير، في نهاية
الأمر،
سينما ثرثارة، لا يتوقف الكلام فيها لحظة واحدة، خصوصاً أن في معظم الأفلام
راوياً
يدخل في التفاصيل وفي العواطف، متطفلاً في شكل متواصل على أية علاقة يقيمها
المتفرج
مع شخصيات أخرى في الفيلم. ذلك ان الراوي في هذه الأفلام ليس مجرد مراقب
يحكي لنا
عما حدث، بل هو جزء أساس من هذا الذي حدث. والطريف هو ان الحوارات وسرد
الراوي في
أفلام رومير تتناقض حضوراً وكثافة مع شخصية المخرج نفسه.
المخرج الذي يعتبر، الى
جانب زميله الراحل قبل سنوات روبير بريسون، من أكثر المخرجين صمتاً وتكتماً
في
السينما الفرنسية.
من النقد الى الشاشة
ومع هذا، لا بد من أن نتذكر هنا أن اريك رومير بدأ حياته صحافياً
وناقداً
وجامعياً يهتم في شكل خاص بالأدب الفرنسي. وهو، إذا كان يحسب دائماً في
عداد مؤسسي «الموجة الفرنسية» الجديدة في السينما، الى
جانب جان - لوك غودار، وفرانسوا تروفو
وكلود شابرول وغيرهم من الذين تحلّقوا في عقد الخمسينات من حول
الناقد أندريه
بازان، فإنه - أي رومير - كان ذا خصوصية لافتة في ذلك التيار، عدا عن كونه
أكبر
سناً من رفاقه. فإذا كان صحيحاً أن رومير سبق رفاقه في «التحول» من النقد
الى
الإخراج، إلا ان الحقيقة التاريخية تقول انه إذ شرع يحقق
مشروعه في التحول من
الكتابة الى الكاميرا عام 1952، سابقاً الآخرين بما لا يقل عن نصف عقد، عبر
تحقيق
فيلم «الصبايا النموذجيات»، فإن ظروفاً تضافرت لمنع المشروع من الاكتمال،
وأدى هذا
الى تأجيل دخول رومير عالم الإخراج حتى عام 1959، حين مكنه كلود شابرول
كمنتج من أن
يحقق فيلمه الأول المكتمل «برج الأسد». غير أن رومير لم يخلد الى الهدوء
خلال
السنوات السابقة، حيث انه واصل كتاباته النقدية وعمله الجامعي،
وهما مجالان تفوق
فيهما - بالتأكيد - على بقية أفراد الشلة الذين، بدورهم وصلوا الى الإخراج
بعد
ممارسة النقد... وتحديداً في مجلتين كان رومير نجم الكتابة فيهما «لا غازيت
دو
سينما» ثم «كاييه دو سينما». بل إن رومير سيكون - بعد رحيل اندريه بازان -
رئيس
تحرير «كراسات السينما» («لوكاييه دو سينما») بين 1957 و1963.
إذاً، فإن سيرة حياة رومير، المولود عام 1920، تحت اسم جان - ماري
موريس شيرر،
تقول انه بعد انتهاء دراساته الجامعية في مسقط رأسه مدينة نانسي ثم في
باريس، انصرف
الى النقد السينمائي، فيما كان يحضر أطروحة دكتوراه حول «تنظيم الفضاء
المكاني في
فيلم «فاوست» لمورناو». وهو في تلك الأثناء، وعلى صفحات مجلات
وصحف تعاون معها،
وأشهرها الى جانب ما ذكرنا أعلاه، مجلة جان - بول سارتر «الأزمنة الحديثة»،
كتب
دراسات مميزة حول سينما روسليني وهاوكس ورينوار... كما انه لاحقاً سيشترك
مع كلود
شابرول في كتابة واحد من أول وأفضل الكتب التي وضعت في
الفرنسية حول سينما ألفريد
هتشكوك - وهو الكتاب الذي استند اليه فرانسوا تروفو كثيراً حين اشتغاله على
كتابه
الفذ الذي يتضمن حوارات في 300 صفحة مع هتشكوك نفسه.
موجة... حتى النهاية
من المعروف منذ البداية ان مجموعة هواة السينما ونقادها، التي تحلقت
من حول
أندريه بازان، ولا سيما في «كراسات السينما»، كانت معلنة رغبة أفرادها في
خوض
الإخراج. ولعل رومير كان أول من داعبته الفكرة... لكنه تأخر كما أسلفنا.
غير أن
تأخره كانت له وجوه إيجابية. إذ اليوم، بعد أكثر من نصف قرن،
وفي زمن باتت معه «الموجة
الجديدة» تبدو جزءاً من التاريخ بعد موت تروفو وتحولات شابرول وتفرد غودار
في عوالم خاصة به، ها هو رومير، حتى الرمق الأخير، يبدو فارساً وحيداً في
استيعابه
دروس التيار ومحافظته عليه، الى جانب مبدع آخر مجايل له، يعتبر
دائماً من غلاة أهل
هذا التيار مع أنه لم ينتم اليه أصلاً وما كان من مؤسسيه أو حتى من
محبّذيه: آلان
رينيه.
على رغم هذا الالتصاق لسينما رومير بـ «الموجة الجديدة»، تبقى لهذه
السينما
خصوصيتها، على الأقل، في مجال مواظبة صاحبها على ايقاع انتاج لافت، لا يكاد
يشبهه
إلا ايقاع انتاج وودي آلن لأفلامه الخاصة، إذ منذ ما يقرب من خمسين عاماً،
اعتاد
رومير أن يطل على متفرجيه، كما على عالم السينما، بفيلم كل
عامين. وحتى لو كانت
هناك مجموعات مترابطة بين هذه الأفلام، فإن الإنصاف يقتضي القول ان كل فيلم
يقدم
نفسه على حدة، كعمل متكامل، قد يضفي عليه انتماؤه الى مجموعة، بعداً ما...
لكنه
غالباً ما يكون بعداً اضافياً. وهنا، في شكل أكاديمي صرف، يمكن
تقسيم سينما رومير
على الشكل الآتي: فهو بعدما حقق «برج الأسد» عام 1959 (ولن يعرض حقاً إلا
عام 1962)،
بعد نحو نصف دزينة من أفلام قصيرة، روائية أو تسجيلية، تعليمية أو تجريبية،
دخل في ما سيسمى لاحقاً «الحكايات الأخلاقية»، فحقق تباعاً «خبّازة مونسو»
(1959)
ثم «مهنة سوزان» (1962) - وهما فيلمان
متوسطا الطول، لكنهما يوضعان في المسار
الروائي الطويل لسينما رومير، انطلاقاً من موضوعيهما ومن
انتمائهما الى الحكايات
الأخلاقية -. ورومير بعدما حقق هذين الفيلمين، عاد لفترة الى السينما
التسجيلية،
أولاً عبر «ساحة النجمة» كجزء من فيلم جماعي عن «باريس بعيني...»، ثم عبر
فيلم عن
المخرج الدنماركي كارل دراير، وبعده فيلم «الخام والمرمر»
(والاثنان في عامي 1965
و1966، كجزء من «سلسلة سينمائيي زمننا») ليعود في عام 1967 بفيلم طويل -
ضمن اطار
الحكايات الأخلاقية - هو «الجامعة»، وذلك قبل أن يحقق بين 1969 و1972،
الأفلام
الثلاثة التي ستصنع له شهرته الكبيرة، محلياً وعالمياً: «ليلتي
لدى مود» و «ركبة
كلير» وأخيراً «الحب بعد الظهر» الذي سيكون واحداً من أكثر أفلامه نجاحاً
لدى
الجمهور. ومن أكثر أفلامه ارتباطاً، بأخلاقيات المفكر الفرنسي مونتانيْ
الذي كان
يعتبره أستاذه الأكبر.
وفي عام 1976 - وبعد انعطافة تلفزيونية ستليها انعطافات كثيرة أخرى
نحو الشاشة
الصغيرة - خاض رومير غمار السينما التاريخية - انما العاطفية والسيكولوجية
في الوقت
نفسه - من خلال فيلم «المركيزة أو»، الذي تدور أحداثه عام 1799، وتليه
لاحقاً أفلام
تاريخية أخرى، سيصبح مجموعها خمسة في مساره المهني: «برسفال لي غالوا»
(1978)،
«غراميات
استري وسيلادون»، «الانكليزية والدوق»... و «عميل
مثلث»... وهي أفلام
ستنتشر طوال مسار رومير، محققة بين الحين والآخر، ليكون «غراميات استري
وسيلادون»
آخرها، بل آخر ما حقق رومير (2007)، إسوة
بسابقيه «عميل مثلث» (2004) و «الانكليزية
والدوق» (2001). وقبل ذلك، تباعاً منذ 1978 وحتى 1987، حقق رومير الأفلام
الستة
المنتمية الى سلسلة «الأمثال والكوميديات»: «زوجة الطيار»
(1978)، «زواج طيب» (1981)،
«بولين
على الشاطئ» (1982)، «ليالي القمر المكتمل» (1984)، «الشعاع الأخضر» (1986)،
وأخيراً «صديقة صديقي» (1987). ولئن كانت السلسلة السابقة «حكايات أخلاقية»
مرتبطة، أسلوبياً وتاريخياً، بالأدب المؤفلم، فإن هذه السلسلة الثانية أتت
مرتبطة
بما يمكننا وصفه بـ «المسرح المؤفلم»... حيث الحوارات طاغية بالكاد تترك
لحظة لحركة
سينمائية حقيقية. وما يقال عن هذه السلسلة هنا يمكن قوله أيضاً عن السلسلة
التالية
والأخيرة «حكايات الفصول» وهي على التوالي: «حكاية ربيع»
(1990)، «حكاية شتاء» (1992)...
وهو الفيلم الذي يعتبره نقاد كثر قمة ما أوصل رومير فنه اليه، إسوة بـ
«حكاية
صيف» الذي حققه بعده بأربعة أعوام، مستبقاً «حكاية خريف» عام 1998. وبين «حكاية شتاء» و «حكاية
صيف» اللذين مثلا نقطة الذروة في سينما رومير، حقق الأخير
عملين هما من أضعف ما حقق في مسيرته: «الشجرة والعمدة ومكتبة
الميديا» (1993) ثم «الموعد
الباريسي» (1995)... أما بعد «حكاية خريف» فقد اكتفى رومير طوال عشر سنوات،
وقد أربى على الثمانين من عمره، بتحقيق الأفلام التاريخية الثلاثة الأخيرة
التي
أشرنا اليها: «الانكليزية والدوق»... الخ.
منذ عام 2007، صمتت سينما رومير الى حد كبير. وبات واضحاً أن هذا
المجتهد في فن
السينما، هذا الأديب والمفكر الأخلاقي الذي اختار السينما لإيصال أفكار،
كان يمكنه،
لو عاش في عصور أخرى، أن يعبر عنها كتابة، قال كل ما عنده. وأحياناً بتكرار
ممل...
ومع هذا ظل النقاد والدارسون مجمعين على أنه واحد من كبار مبدعي فن
السينما، وليس
في فرنسا وحدها. وهو رأي كان كثر يشاطرونهم اياه... ولكن في الوقت نفسه كان
كثر
أيضاً ينكرونه، آخذين على رومير عدم اهتمامه بأي تجديد في فن
السينما.
الحياة اللندنية في
15/01/2010 |