«الأُسر السعيدة متشابهة، لكن الشخصيات التعيسة متفردة». جملة شهيرة
للكاتب الروسي ليو تولستوي، ستكون على قصرها مفتاح فهم شخصية البوابة
العجوز رينيه ميشيل، والطفلة الثرية بالوما جوس بطلتي فيلم «القنفذ»، وهما
من الركائز القوية التي ينهض عليها فيلم المخرجة الفرنسية، المغربية الأصل
منى أشاش، والمقتبس من رواية للكاتبة الفرنسية مورييل باربري بعنوان «أناقة
القنفذ» نشرت عام 2006 فوزعت نصف مليون نسخة في أوروبا وحدها، قبل نشرها في
أميركا.
قرار الانتحار
رينيه ميشيل أرملة حارس عقار تُوفي بالسرطان قبل عشر سنوات من دون أن
ينتبه إليه
أحد. امرأة عمرها 54 سنة، قصيرة، بدينة، ثقيلة الوزن، رثة الملابس، مُهِلة
في
مظهرها، غير جذابة. عملت
لمدة 27 عاماً حارسة، بوابة في مبنى، ما زالت بعد وفاة
زوجها تقطن مع قطها وكتبها السرية في حجرتها الضيقة في جوار المصعد. كانت
من طبقة
عاملة، فقيرة، فتركت المدرسة في الثانية عشرة من عمرها. علمت نفسها بنفسها.
درست
الفلسفة سراً بحثاً عن معرفة من هي، عن فهم معنى حياتها، وكيف
تكون جزءاً من هذا
العالم الكبير. تُدرك جيداً أن لا أحد في العمارة يُحبها أو يرى جوهرها، هم
فقط في
احتياج إليها لأنها تُواظب على عملها بجدية، فهي بوابة نموذجية. تحرص
«رينيه» على
أن تخفي حقيقة كونها مثقفة تجنباً للمشاكل لأنها في احتياج الى هذا العمل.
تُخفي
أيضاً تعاستها ووحدتها خلف ملامحها الحادة وجديتها الصارمة
وتقشفها، مع ذلك، فإن
إهمالها مظهرها وعدم اهتمامها بأنوثتها يكشفان عن تعاستها وبؤسها.
تبدأ أحداث الفيلم من غرفة مغلقة مظلمة فيها بقعة ضوء أحمر نكتشف أنها
صادرة عن
كاميرا فيديو صغيرة تخص الطفلة «بالوما جوس» التي تُصور نفسها وتعترف بتوتر
وغضب
مكتوم أنها من أسرة ثرية لا ينقصها شيء. ومع ذلك تُقرر الصبية الانتحار بعد
165
يوماً، أي يوم عيد ميلادها الثالث عشر، لأنها تكره هذه الحياة
التعسة وترفض أن تكون «مجرد
سمكة ذهبية في حوض مياه يستخرجها الآخرون فقط عندما يقومون بتغيير المياه
حتى
لا تموت جراء مخلفاتها». وإلى أن يحين ذلك الموعد تقوم «بالوما» بتصوير كل
ما يحدث
من حولها، ترصد تصرفات كل الأشخاص في محيطها لتترك للعالم
دليلاً قوياً يُفسر
إقدامها على فعل الانتحار.
للوهلة الأولى ينتابنا إحساس بالدهشة، بعدم التصديق أن طفلة في هذه
السن المبكرة
تُفكر في الانتحار وتُقدم عليه بهذا الحزم. لكن سرعان ما يُصبح تورطنا في
عالم
الشخصيات والأحداث بديلاً مبدداً غيوم الشك وهواجسه، إذ نُدرك لماذا تفكر
هذه
الزهرة في إنهاء حياتها، فهي لم تجد شيئاً من الصدق والجمال
يُضفي على هذه الحياة
معنى، أو شيئاً يستحق أن تعيش من أجله. كانت الحياة بالنسبة اليها مصدراً
للألم
والوحدة والشقاء، لذلك ستضع حداً لها، من ثم تختار وسيلة غير مؤلمة
للانتحار، فتسرق
يومياً حبة من الأدوية المضادة للاكتئاب التي تتناولها الأم.
«بالوما» طفلة ذكية، ناضجة، مثقفة، عقلها يسبق سنوات عمرها. لكنها غير
متوائمة
مع أفراد أسرتها، لا أحد منهم يفهمها على حقيقتها. لا أحد يرى تلك الروح
المخبأة
خلف حواجز الصمت، لا أحد يُدرك حقيقة معاناتها والأسئلة التي تشغل بالها عن
مغزى
الحياة والموت، لا أحد يشعر بوطأة الإحساس الجاثم على قلبها
بعبثية الحياة. كل فرد
في أسرتها يعيش في عالمه الخاص، منعزلاً عن الآخرين كأنه يحيا في جزيرة
نائية، ينصب
من حوله دروعاً حصينة، لا يرغب في رفعها تحت أي ظروف، ليس على استعداد
للتواصل مع
الآخرين، أو مشاركتهم آلامهم، كل منهم أحادي النظرة والإحساس،
أناني، لا يري سوى
آلامه ومعاناته هو وحده. فالأم التي تخشى الموت إذ لا تفهم كيف يموت
الإنسان فجأة
عندما يتوقف قلبه، تغرق مع أدوية الاكتئاب والكحول منذ وفاة والدها قبل عشر
سنوات،
ترعى النباتات والورود في بيتها وتتحدث إليها طوال الوقت، ترى
في ابنتها «بالوما»
فتاة صامتة غريبة الأطوار. بينما الأخت الكبرى العصبية المتوترة والحادة
تخشى أن
ترث اكتئاب أمها فتصب كل طاقتها على دراستها لحد الهوس. الأب ديبلوماسي
وعضو بارز
في المجتمع، مشغول دائماً بمصالحه، وفي اللحظات النادرة التي
تُعبر فيها ابنته «بالوما»
عن رأيها وتُصحح معلومات أحد ضيوفه - عن اللعبة اليابانية التي ينتصر فيها
اللاعب كلما أحيا قطعة من قطع اللعب، إذ إنها لعبة تقوم على الحياة، بينما
ترتكز
لعبة الشطرنج على القتل، فالفائز لا بد من أن يقتل - لكن الأب
ينهرها ويعنفها بشدة
محذراً إياها من مغبة عنادها وإصرارها الأحمق.
الكاميرا المتلصصة
بكاميرتها الصغيرة تتحرك «بالوما» بين أفراد أسرتها، وسكان العمارة
فترصد كثيراً
من الأمور الإنسانية، تتلصص على أدق تفاصيل حياتهم التي تكشف بوضوح معاناة
وأزمة كل
فرد. تتحرك الكاميرا بخفة ورشاقة، تنتقل يميناً ويساراً، أعلى وأسفل، لا
تتخلى عن
تكوينات جمالية مُعبرة، تجرب وسائل متعددة لها دلالتها، فمثلاً
تضع أمام عدسة
الكاميرا أحد الأكواب (ذي الزجاج المُقعر) مقلوباً لتستطيع أن تجمع بين
أمها وأختها
في لقطة واحدة للتعبير عن المصير المشترك على رغم الاختلافات الكثيرة
بينهما، ثم
تعدل وضع الكوب لتصب فيه الماء فتبدو الأم كأنها تغرق في
الماء، وهي لقطة رمزية
مُوحية، فالحقيقة أن الأم لا تزال تتناول سراً الأدوية المهدئة والمضادة
للاكتئاب
بدرجة خطيرة. في مشهد لاحق تلتقط الكاميرا يد الأم وهي تسقط الطعام في فم
قطتها
بينما تتحدث إلى إحدى ضيفاتها أثناء احتفالها مُدعية شفاءها من
الاكتئاب. ترصد «بالوما»
أيضاً محادثات الأب الهاتفية بصوته المشحون بالقلق كالوتر المشدود خوفاً
على شؤونه وموقفه السياسي. تُدعم ذلك بتصوير حركته عندما يُخرج قدميه من
الحذاء تحت
طاولة الطعام كأنه يُريحهما من أسرهما ومن الضغوط. ثم تصعد
«بالوما» بكاميرتها أعلى
الطاولة فنراه مُحبطاً شارد الذهن بينما أحد الضيوف يتحدث كالببغاء.
تسير شخصيتا «رينيه» و «بالوما» في خطوط متوازية بفعل الوحدة والتعاسة
وحاجتهما
الى إخفاء مواهبهما. يتطور التوازي فتتلاقى الخطوط عندما يتوفى أحد سكان
العمارة
فيحل محله أرمل ياباني عجوز اسمه «كاكاورو أوزو»، تُوفيت زوجته بالسرطان
منذ سنوات،
يعيش الآن وحده مع حفيدته الصغيرة. ياباني ثري يحتمي وراء
ثروته وثقافته، لكنه في
الوقت نفسه يبحث عن الناس، يجتاز السطح، فيرى ما وراءهم وما في أعماقهم،
لذلك عندما
يلتقي بالبوابة للمرة الأولى وتعلق على حديثه: «كل الأسر السعيدة متشابهة»،
يتأملها
لحظة قبل أن يقول بابتسامة: «لكن الشخصيات التعيسة متفردة».
جملة قصيرة كتبها روائي روسي قبل عقود اختصرت أشياء كثيرة في مقدمها
الزمن،
ونجحت في تحطيم الحواجز وإقامة جسور الود والتفاهم والحب بين اثنين من
الغرباء
التعساء، بين رجل وامرأة من ثقافتين وطبقتين مختلفتين، نجحت في كشف العالم
الحقيقي
للبوابة «رينيه ميشيل» أمام هذا الزائر الجديد الغامض، سطعت
الكلمات كالبرق لتُضيء
في لحظة خاطفة أعماق «رينيه» مخترقة الأقنعة والدروع.
كان «أوزو» الضلع الثالث في مثلث التعاسة، وحلقة الوصل بين «رينيه»
والطفلة حتى
صارت كل منهما سنداً قوياً للأخرى. أخرج هو «ميشيل» من عزلتها ووحدتها
بمساعدة «بالوما» التي وصفتها قائلة: «رينيه» شخصية
عظيمة، تختبئ خلف مظهر كاذب، هي عقل
استثنائي في جسد شخص عادي. إنها مثل القنفذ تُحيط نفسها بأشواك لتحتمي من
أعدائها،
لكن خلف هذه الأشواك تختبئ حساسية وأناقة مرهفة.
أدرك «أوزو» أيضاً معاناة «بالوما» فاهتم بها، وكانت صحبته لها
وأحاديثه معها
تُشكل - في لا وعي الطفلة - بذور الاختراق لقرار انتحارها، ففي إحدى
اللحظات وهي
تلعب مع حفيدته تقرأ مستقبل الحفيدة في وجهها ثم تتساءل: «ترى كيف سيكون
مستقبلي؟».
وأثناء تناولها الطعام مع أسرتها تندفع فجأة قائلة: «لقد عرفت ماذا أريد أن
أكون في
المستقبل... سأكون بوابة مثل «رينيه»، وهي جمل لا يُفكر فيها من يُصر على
الانتحار». ثم تأتي الوفاة المفاجئة للبوابة لتكون بمثابة
التراجع عن قرار
الانتحار، لأنه في تلك اللحظة تُدرك «بالوما» معاناة الإنسان ومكابدته
الألم عندما
يفقد إنساناً يُحبه.
قد تبدو وفاة «رينيه» المفاجئة عبثية، إذ ماتت صبيحة الليلة التي ذاقت
فيها طعم
الحب والسعادة بعد أن التقت بشريك يُؤنس وحدتها، لكنها أيضاً ماتت وهي
تُحاول أن
تنقذ زميلاً لها وتُحاول أن تحميه من خطر الموت، ولتصبح وفاتها بمثابة شعاع
الضوء
القوي الذي منح «بالوما» الأمل وقيمة للحياة.
منى أشاش مخرجة وكاتبة سيناريو الفيلم من مواليد 18 آذار (مارس) 1981،
بعد
دراستها المسرح عملت مساعدة مخرج ومشرفة سيناريو على مشاريع أفلام وثائقية
وخيالية
عام 2002، أخرجت فيلماً وثائقياً عن الولادة، ثم قامت بكتابة سيناريو
وإخراج فيلمين
قصيرين «سوزان» 2006 و «واوا»
2008. «القنفذ» هو أول أعمالها الروائية الطويلة.
شاركت في التمثيل مع المخرج «كوستا غافراس» في فيلمه «عدن في الغرب» إنتاج 2009.
الحياة اللندنية في
15/01/2010 |