قضت أوديت سالم في حادث سير قبل أن تعرف مصير
ابنتها وابنها اللذين فقدا أبان الأحداث اللبنانية. فطرح
غيابها الدراماتيكي قضية
المخطوفين والمفقودين مجددا على بساط البحث.
ولم تتحمّل رئيسة "لجنة أهالي
المخطوفين والمفقودين في لبنان" وداد حلواني المصير الصاعق
لرفيقة دربها لعشرات
السنوات، ولا أن تلقى هذا المصير البائس وقد تقدّمت في العمر لتعرف مصير
ابنتها
وابنها، أو تراهما مجددا، كما صرّحت للجزيرة الوثائقية.
وتضيف: "ربما ليست مسؤولية السلطة أن تمنع
سيارة من صدم إنسان، وربما يقتصر دورها على ملاحقة الصادم
ومعاقبته، لكن المسؤولية
الوطنية الكبرى التي أهملتها السلطات المتعاقبة هي في ترك آلاف العائلات
تبحث عن
أبنائها دون سعي جدي لإعادتهم أو كشف مصيرهم".
وقالت: "أي عقل يتحمّل أن تتولى
سيّدة قضت العمر بحثا عن أبنائها والسلطة تتفرج، وتدس رأسها في
الرمل! مسؤولية
السلطة في مقتل أوديت سالم أنها لم تتولّ عنها المسؤولية التي تطال آلاف
العائلات
وليس أوديت لوحدها".
الأهالي ورفاق دربهم تجمّعوا، اعتصموا، راجعوا
لسنوات طوال، ورفعوا خيمة دائمة أمام مقر الأمم المتحدة لإبقاء
جذوة قضيتهم حيّة.
كانت أوديت تقيم بصورة يومية في الخيمة التي نصبتها اللجنة سنة 2005.
فقد توقف
الزمن لديها عند اختطاف أغلى ما عندها، مطلع الثمانينات من القرن الماضي،
ولم يبق
أمامها سوى العمل على كشف مصيرهما.
دخل نضالها العقد الثالث، وبلغت مرحلة
متقدمة من العمر، وهي تثابر على التحرك، والنضال، والاعتصام.
وصبيحة 16 أيار
الفائت، كانت تهمّ بالخروج من الخيمة فصدمتها سيارة مسرعة أنهت حياتها
وبقلبها غصّة
عدم اللقاء بابنيها، ولا حتى كشف مصيرهما.
مأساة أوديت سالم فجّرت معاناة وداد
حلواني التي فقدت زوجها في الحرب الأهلية، وهي طالما ناضلت مع
أوديت، ومئات الأمهات
بحثا عن أبنائهن وأقربائهن، فوضعت فيلما وثائقيا روى حياة أوديت وغالبها في
نضالها
بحثا عن ابنيها، كثّفت فيه مأساة الآلاف من ذوي المخطوفين والمفقودين.
الفيلم الوثائقي: سردية مفردة لألم
جماعي..
يمتدّ الفيلم 16 دقيقة، وهو الأولٌ بالنسبة
لحلواني. سرد حياتها، ونضالها، مكوثها في الخيمة، علاقاتها مع
مثيلاتها الأمهات.
كأن الفيلم يتنبأ بوفاتها، فكيف جيء بكل هذه الصور واللقطات الحيّة لأوديت
وهي
ميتة؟
الجواب توضحه حلواني: "كثيرة من اللقطات هي من أفلام أخرى وثّقت
لأوديت
مثل أفلام جان شمعون، ومي المصري، وبهيج حجيج، وجوني كاليش. والصور من
أرشيف
اللجنة، ومن ألبوم أوديت الخاص، ومنزلها، ومن أصدقاء للقضية. جمعتها
ووضعتها في
فيلم منذ مقتلها في 16 أيار الفائت وحتى النصف الثاني من آب
2009".
وتضيف: "أردته
تحية رمزية لها، ومنها لكل الأمهات اللواتي رحلن دون ملاقاة أبنائهنّ أو
معرفة مصيرهم".
يبدأ الفيلم بشيء عن أوديت مع صور عن ابنتها وابنها اللذين فقدا
في بيروت مطلع الثمانينات. استخدمت حلواني الصورة، والتعليق
بصوتها، وعددا من أغاني
فيروز..عم يلعبوا الولاد عم يلعبوا.. أرادت أن تحيي الحلم بعودتهم.. لم
يرحلوا دون
رجوع.. إنهم يلعبون وسيعودون بعد قليل.. لا يملك ذاته من يحضر الفيلم،
ويحميها من
حزن متفاعل ومتفاقم في داخل حلواني، وأوديت وأمثالهما، متراكم ومكثّف في
ذواتهن
لعشرات السنين على إيقاع مفرط الحساسيّة لتناوله قضية هي
الأكثر حساسيّة لدى الناس،
أي الأبناء-زينة الحياة الدنيا.
ويستمر الفيلم في الدقائق ال16 على الوتيرة
عينها من التأزّم والانشداد الكامنين في أوديت سالم، ومحطات
حياتها المفعمة بالألم
والأمل في آن.
في كل محطاته، كان الفيلم شديد الوطأة لصلة موضوعه
بالجانب الأكثر تأثيرا من جهة، ولأنه تعبير طبيعي عن معاناة طويلة للمخرجة
في
المضمار ذاته.
تنفي حلواني أنها قصدت التأثير العاطفي ذي التعبير الحزين
والمؤلم على المشاهد، على ما عبّر عنه كل الذين حضروا الفيلم، وتفيد أنها
عرضت قضية
المخطوفين والمفقودين متمثلة في قضية أوديت، وغيابها المأساوي، وأنها قدّمت
في
الفيلم ما تعرفه عن القضية، وعن أوديت، ولم تكن تريد أن تقدّم
ما يثير أو يؤثّر
بطريقة مقصودة.
عرض الفيلم للمرة الأولى في لبنان في "معرض الكتاب العربي" الذي
أقيم في كانون الأول الماضي، لكنّه عرض لأول مرة في مدينة "إلياج" ببلجيكا
في إطار "مهرجان
صوت المرأة الدولي" في تشرين الثاني الماضي، على ما ذكرت حلواني التي أفادت
أن المهرجان أمّن مجالا دوليا لأهالي ضحايا الإخفاء القسري حيث جرى تشكيل
شبكة
دوليّة تجتمع مرة كل سنتين في بلجيكا إلى جانب المهرجان
المذكور.
كما أفادت أنه
عرض ثانية في اسطنبول في إطار الاجتماع الدولي للفيدرالية الأورو متوسطية
لعائلات
المفقودين قسرا.
مسرحية
سابقة..
لم تكن أوديت سالم عنصرا لعمل فني شيّق للمرة الأولى،
بل كانت مادة مثيرة للكتابة والمسرح أيضا.
أواسط الثمانينات، كتب اليأس خوري نصّ
مسرحية أسماها "مذكّرات أيوب" في الملحق الثقافي لجريدة
"النهار" الذي رأس تحريره
حتى أواخر 2009. تناول النصّ سيرة المخطوفين والمفقودين،
ومعاناة أهاليهم. وما لبث
النصّ أن تحوّل إلى مسرحية على يدّ المخرج روجيه عساف.
احتلت أوديت سالم حيّزا
هاما من المسرحية، ويقول عساف للجزيرة الوثائقية إن "ما جرى
عرضه في المسرحيّة كان
حقيقيا بالكامل. أخذنا الروايات كما هي وحوّلناها إلى مسرح، ولم نغيّر
زيادة أو
نقصانا".
أضاف" "كان العمل هاما وأذكر أن أوديت سالم ظّلت تنتظر ابنيها، تطبخ
لهم الطعام الذي يحبون، تكوي ثيابهم كالمعتاد، وفي أعياد ميلادهم، جمعت
رفاقهم
وأحيت وإياهم العيد كأنهما كانا حاضرين".
الجزيرة الوثائقية في
14/01/2010 |