فيلم آخر من الأفلام الوثائقية الطويلة التي عرضت
في مهرجان دبي السينمائي السادس، كان من أكثرها تأثيرا، وأعتبره إعلانا
قويا عن
بروز موهبة سينمائية جديدة هي موهبة مخرجه، رائد أنضوني،
القادم إلى السينما بعد
مساهمته في إنتاج واخراج عدد من الأفلام التسجيلية المميزة منها أفلام
للمخرج ذائع
الصيت رشيد مشهراوي.
فيلم آخر ولكن بروح جديدة، وبرؤية فلسفية نادرة في السينما
الفلسطينية، رؤية تسعى، ليس فقط إلى فهم ما يجري على المستوى الخارجي، أي
مستوى
الحدث السياسي المشتعل المباشر، بل وعلى المستوى الفردي،
الذاتي، الشخصي، الجواني،
حيث يطرح المخرج- المؤلف- البطل، الذي يظهر في الفيلم بنفسه، الكثير من
الاسئلة
التي تتعلق بمعنى الوجود نفسه، في مجتمع "غير طبيعي"، وما إذا كان من
الممكن أن
ينسلخ المرء ولو حينا، عن هذا الصخب والجنون واللامنطق، جنون الاحتلال
وجنون الصمود
تحت الاحتلال، ويتسامى فوق واقعه، لكي يحلم بأحلامه الفردية
الخاصة في النجاة؟
هل هذا ممكن؟ وكيف، ومن الذي يقدر على أن يفعل
ذلك؟ وهل بوسع "أنضوني" نفسه أن ينسلخ هكذا، ويخلق عالمه
الخاص، أم أن وطاة الذاكرة
، فردية كانت أم جماعية، ستطغى في النهاية على
العقل، وتسيطر عليه وتدفعه في اتجاه
"التذكر"، والمزيد من التذكر، وبالتالي المعاناة التي تولد صداعا دائما
هو ذلك
الصداع (الحقيقي والمجازي) الذي يدفع المخرج (الذي يقوم بدوره الحقيقي في
الفيلم)
للبحث عن المساعدة لدى طبيب نفسي، وخوض
تجربة الجلوس بين يدي هذا الطبيب خلال ثماني
عشرة جلسة من جلسات العلاج النفسي الذي يقوم أساسا، على منهج
فرويد المعروف في "التحليل
النفسي"؟
يشكو انضوني من "الصداع". ويحاول الطبيب أن يرده إلى التذكر،
إلى استدعاء الماضي، كيف نشأ، وكيف كانت علاقته بأسرته، علاقته بالآخرين،
بالعالم
من حوله، كيف ينظر للأشياء. ويحاول هو بشتى الطرق أن يتجنب الخوض في العام،
مركزا
بشكل أساسي على "الخاص" أي على الحالة الخاصة به، على علاقته بالإبداع:
(يقول
للطبيب: أسئلتي عن الإبداع لها علاقة بالملل.. جزء من مولدات الإبداع هو
الملل!)
وعندما يشكو من الصداع يداعبه الطبيب بقوله: أما الصداع فيمكنك أن تسأل عن
سببه عند
أولمرت وأبو مازن!
انعدام
التوازن..
"أنضوني" نموذج للإنسان الذي يريد أن يواجه نفسه،
أن يفهم لماذا يشعر بالإحباط، بالعجز أحيانا عن التواصل، ليس مع الآخرين
فقط، بل مع
نفسه أساسا. هذه الحالة من "انعدام الوزن"، ما سببها، وكيف يمكن علاجها أو
حتى مجرد
فهمها، وهل يمكن أن ينجح المرء اذا فصل نفسه تماما عن الهم الأكبر القائم
في البيئة
السياسية والاجتماعية التي تضغط بقوة على البشر فتحيلهم إلى
كتلة من المعاناة على
نحو ما يعاني أنضوني رائد.. معاناة الوجود نفسه!
في سياق الرغبة في البحث عن
إجابات لمثل هذه التساؤلات ذات الشق الوجودي، يذهب المخرج لكي
يلتقي بصديق له هو "عمر"
الذي كان زميله في السجن، فقد اعتقل بطلنا (اللا- بطل) لمدة 18 شهرا في
أوائل
الثمانينيات عندما لم يكن يتجاوز تسعة عشر عاما، وأخذ الجنود ليلة اعتقاله،
يضربون
رأسه في الجدار في سجن الخليل. ربما أرادوا القضاء عليه.. وقد
اقتضى الأمر كما يقول
للطبيب، سنوات إلى أن عاد إلى طبيعته، لكنه الآن يعاني من الصداع الدائم.
وهو أيضا
يصنع فيلما عن ذلك "الصداع" في حين تتساءل أمه عما يهم الآخرين من صداعه
الخاص!
صديقه عمر الذي اعتقل معه، تعرض أيضا لركلات
الجنود الإسرائيليين بقوة في رأسه كما يروي لأنضوني، قائلا
إنهم "حاولوا قتلي".
وربما أرادوا أن يسببوا له نزيفا داخليا بطيئا في المخ يفضي إلى الموت،
ويروي أيضا
كيف أن أحد هؤلاء الجنود قال له قبل خروجه إنه سيموت خلال سنة. لكنه لم
يمت، بل
قاوم وعاش، بالإرادة.
وهو يعمل اليوم كهربائيا في رام الله، لكنه اكتشف منذ ستة
عشر عاما تحديدا، أنه مصاب بمرض السرطان: سرطان الدم والغدد الليمفاوية.
لكنه يقاوم
الموت بالقوة، وبالعزيمة، والإصرار على الاستمرار في الحياة.. وهو ما يجده
أنضوني-
من خلال حواراته الحميمية والخاصة معه أمام
الكاميرا، أمرا مدهشا، لا يمكنه
استيعابه ببساطة.
محاولة
للفهم..
أما زميل السجن الآخر "باسم" فقد تقدم به العمر
الآن، وأصبح يعول أربعة من الأبناء، ولكنه لايزال يتحسر على عدم استكمال
تعليمه
بسبب دخوله المعتقل في ذلك الوقت المبكر وخروجه بعد سنوات
متقدما في السن، الأمر
الذي لم يمكنه من الاستمرار في الدراسة حتى لا يثقل على أسرته الفقيرة
ماديا، واضطر
للعمل كسائق سيارة أجرة (تاكسي).
الحوارات التي تدور بين انضوني وباسم، لا تنحصر
فقط فيما حل بباسم، بل كأنها حوارات يهدف أنضوني من ورائها إلى
أن يفهم نفسه، إلى
أن يواجه ذاته أمام مرآة صادقة تتمثل في أصدقائه وزملائه الذين خاضوا مثله
تجربة
شاقة في الاعتقال، وهو يريد أن يعرف هل يمكنهم أن يتخيلوا لأنفسهم مسارا
آخر،
شخصيا، ذاتيا، منفصلا عن المسار الجماعي، عن وطأة الذاكرة
الجماعية، تلك الفكرة
التي تعذبه وتؤرقه، ولماذا لا يمكن للمرء أن يكون فقط إنسانا حرا، وليس
بطلا؟ وما
معنى الحرية، وهل تنفصل الحرية الفردية عن الحرية الجماعية، وهل يتعين أن
يصبح كل
الناس أبطالا.. وماذا يفعل الفنان المبدع الذي يريد أن ينجز
شيئا، يعبر من خلاله عن
نفسه!
"باسم" يتكلم عن حتمية الاندماج بالقضية الكبرى: "لقد ذابت
أحلامنا
الصغيرة في الحلم الكبير".. وهو لا يمكنه الاقتناع بالفصل بين الإثنين أو
بامكانية
تحقيق ذلك حتى لو أراد.
أما أنضوني، فهو يصرخ في وجه الطبيب: أنا أشعر بأنني لست
في السماء ولا في الأرض.. مشكلتي هي مشكلة رفض.. إنني اشعر بالتميز في
التعامل مع
غيري، إنني مختلف عنهم.. أريد أن أعيش في بيئة اجتماعية، لكني لا أعرف
كيف"..
طلب منه الطبيب أن يقف فوق مقعد، ثم يسأله:
هل هذا هو المكان
الذي ترى منه الأشياء؟
أنضوني أيضا لا يمكنه أن يتذكر جيدا، كما يتذكر
رفاق السجن، فترة السجن وما حدث له فيها، إنه يتذكر بوضوح
الفترة التي سبقتها، فهل
هذا "ميكانيزم" طبيعي لديه للهرب، شيء ما في داخله يرفض التذكر.
وهو يسأل "عمر"
بإصرار: هل هناك شيء ضاع داخل السجن، كيف كان هو يبدو وكيف يراه عمر الآن؟
عمر يقول
له إنه تغير بالفعل كثيرا عما كان، لكنه يحاول الآن أن يبعد نفسه تماما
خارج
المشهد.. إلا أنه لن ينجح.
إنها المعاناة من أجل الفهم: فهم الذات بعد كل تلك
التجربة القاسية: في السجن وفي الحياة. إنها رغبة المبدع- الفرد، في
التحليق بعيدا
عن السرب، في الإحساس بالتميز، بالاختلاف، ورغبته في الإفلات من التصنيف
المباشر
والبدائي أيضا. إنه يقول للطبيب في إحدى جلسات العلاج النفسي
في الفيلم: الناس
يشعرون بالراحة أكثر عندما يضعونك في إطار معين.. الفلسطينيون يريدون من
صانعي
الأفلام أن يفعلوا شيئا يدعم نضالهم.. والإسرائيليون يريدون من الآخرين
الاعتراف
بهم.. والأجانب يريدون منا أن نكون جسرا بين الثقافات.. وأنا
لا أريد أن أكون أيا
من ذلك، بل أريد فقط أن أطرح بعض الأسئلة".
مع شقيقته الكبرى العائدة من الخارج،
من المنفى الاختياري مع أبنائها، يراجع ملفات الصور القديمة، صور الطفولة
والشباب:
ماذا تغير، كيف كان وكيف أصبح، هل تتذكر هي
ليلة اعتقاله؟
داخل عقل
مشوش..
والفيلم بأكمله يبدو كما لو كان رحلة، ليس فقط في
الذاكرة، بل في عقل رجل فلسطيني "عادي" مشوش بالتساؤلات العديدة (وإن كان
هو يؤكد
للطبيب أنه طبيعي مائة في المائة) يريد أن يعبر عن نفسه، عن مشكلته الخاصة،
بمعزل
عن المحيط العام، لكنه عاجز عن هذا كما يعجز عن فهم تلك الصلة
التي تبدو حتمية بين
الماضي (الذي نسى الكثير منه ربما بشكل إرادي قسري أيضا)، وبين الحاضر بكل
ما يذكره
فيه بالماضي.
في الفيلم دون شك أيضا، نغمة واضحة تتعلق بعملية الإبداع، بمعاناة
المبدع، ولكن في إطار خصوصية الوضع الفلسطيني وقسوته: هناك لقطة عابرة في
الفيلم
لقطاع صغير في الحاجز الفاصل في الضفة الغربية، يسقط، ولا ندري
ما إذا كان هذا يحدث
على مستوى الحلم أم الحقيقة، هل هي لقطة متخيلة، أم التقطت في لحظة
استثنائية
بالكاميرا!
ورغم أن الفيلم يمتد بطول 97 دقيقة، إلا أنه يتميز بإيقاع متماسك
ومتدفق، وبناء دقيق يساهم في تجسيد الفكرة الأساسية، من زوايا عدة، رغم
تداخله
وتكوينه المركب: من الحوارات، إلى اللقطات والمشاهد التي تدور
في الطبيعة، والمشاهد
التي تعكس أيضا هواجس البطل وإحساسه الخاص بالاختناق، أفراد اسرته وجلسات
المناقشة
في الأمسيات في شرفة المنزل، مظاهرات تسير من وقت إلى آخر، وأحد المتظاهرين
يتوقف
فجأة أمام الكاميرا ليسأل الام: ماذا يصور هذا؟ يريد أن يتأكد
أنه يصنع فيلما "يؤيد
النضال".. وهي لقطة عابرة تكثف تماما ما يرفضه أنضوني الذي يرى أن "السياسة
وحدها
لم تعد تكفي: وهو يقول في الفيلم بوضوح: "لا أريد للفلسطينيين أن يكونوا
أبطالا"،
ربما هو يرفض البطولة من أجل البطولة، أو يرفض التنميط، أو القدرية بمعنى
البطولة
المفروضة التي تؤدي إلى الخسارة باستمرار.
تساؤلات
وجودية..
في هذا الفيلم يختلط السياسي بالاجتماعي بالنفسي،
الفردي بالجماعي، الذاكرة، والواقع، الصمود الذاتي والمقاومة الأشمل،
الرغبة في
الاستمرار في الحياة، ومجرد البقاء. ويصبح الصداع رمزا للحالة الفلسطينية
(أو تيمة
مجازية) للوضع الفلسطيني الذي أصبح "مرضا" يصيب الجسد أيضا
ويخنق الروح.
ويصور
الفيلم كيف يمكن أن يدفع هذا "المرض" الفرد إلى التشكك حتى في جدوى
الكثيرمن
الأشياء التي كان التصور الشائع عنها أنها من المسلمات: فكرة التضحية
بالذات من أجل
القضية الجماعية الأكبر مثلا، والقسوة التي يمارسها الفرد على
نفسه من أجل البقاء
دون أن يفقد عقله بعد كل ما يمارس ضده، خلال بحثه عن هويته الخاصة.
ولعل هذه
الأسئلة الوجودية التي تلتقي مع الأسئلة الكثيرة التي يطرحها ميشيل خليفي
في فيلمه
الروائي "زنديق" أصبحت جزءا من المشهد السينمائي الفلسطيني في الوقت الحالي.
ولكن على الرغم من قتامة الموضوع- ظاهريا- إلا أن رائد أنضوني يجعله
عملا ساخرا
تشيع فيه روح المرح التي تقربه من المشاهدين، كعمل يستخدم التناقض بين
الشخصية
والواقع لتوليد الإحساس العميق بالسخرية المجازية
irony
بل ويصل أحيانا في تجسيده
لتيمات موضوعه إلى جردة عالية من السيريالية، ليس من خلال
تكوين الصورة، بل من خلال
العلاقة بين اللقطات، وداخل المشاهد ايضا، وهي قدرة خاصة يتميز بها المخرج
رائد
أنضوني بلا شك.
الجزيرة الوثائقية في
14/01/2010 |