عندما تتفجر الذكريات وتسد على النفس كل المسالك وتتدفق حميمية
ساخنة تملأ القلب وجعا، وترغم النفس على أن تعود فى نفق الزمن الضارب فى
أغوار
الماضى البعيد القريب،
الذى يرتبط بشخص عزيز حميم مثل شادى عبدالسلام..
أخناتون هذا الزمان.
حدثان فى غاية الأهمية،
أعادا إلىَّ ذكريات
صداقتى مع شادى.. زيارة المخرج الكبير مارتن سكورسيزى لمصر..
ووقوفه تحت سفح
الهرم وعند أقدام أبى الهول،
ولقاؤه الثقافى فى مكتبة الإسكندرية، صرح مصر
الثقافى المعاصر مع جمهرة من المثقفين والفنانين..
لقد عرفت سكورسيزى جيدا،
وعاصرت أزمته الطاحنة فى مهرجان
فينسيا
فى النصف الأخير من الثمانينيات عندما
جاء يعرض فيلمه المثير للجدل حتى الآن رغبات السيد المسيح،
فجر يومها
غضب الفاتيكان والسلطة البابوية، ووضع إلى جانب اسمه علامة
X
فى عاصمة
السينما الأمريكية، ولم يغفر له تاريخه السينمائى الكبير المبدع منذ قدم
أول
أعماله سائق التاكسى
ومنذ خرج إلى العالم يؤرخ للأوساط السينمائية العالمية
مثل الموجة الجديدة
فى فرنسا وعلاقاته بإجراء حوارات مبدعة مع طلائعها مثل
فرانسوا تريفو،
بل يروى تاريخ السينما الأمريكية فى أفلام تسجيلية عرضت فى
برلين وكان
وفينسيا، طالته لعنة فيلمه رغبات السيد المسيح وطاردته على
منصات أكبر جائزة عالمية..
الأوسكار، عاما بعد عام، كان ممثلوه يحصلون على
الأوسكار، وتحجب عن هذه الأفلام جائزة أوسكار أحسن مخرج،
حتى العام الماضى،
فقط عندما منح جائزة الأوسكار،
وهو فى سبيله هذا العام،
كما تقول ترشيحات
جوائز الجولدن جلوب التفاحة الذهبية، إلى أن
يحصل على الأوسكار لمجمل
أعماله وإبداعاته، وهى جائزة سبقه إليها كثيرون أمثال المخرج الإيطالى
الكبير
فيدريكو فيللينى.
*
سكورسيزى وصاحب
المومياء
كنت واحدا ممن شعروا براحة كبيرة،
وأنا أتلقى خبر التفات مارتن سكورسيزى
إلى شادى عبدالسلام وفيلمه الروائى الوحيد المومياء
واختياره له من بين
٠٠١
فيلم تمثل تراث السينما العالمية أعاد ترميمها وتصحيح نسخها لكى يعيد إليها
الحياة والرونق المبدع والبقاء لمائة سنة قادمة..
وفعل سكورسيزى ما هو أكثر..
حمل المومياء لكى يعرض فى مهرجان كان
في
دورته الأخيرة فى مايو
الماضى، ولم يكتف بهذا، بل حمله أيضا إلى مهرجان فينسيا
فى أوائل سبتمبر
العام الماضى، ليقدمه إلى عشاق السينما فى العالم..
ويقفز المومياء وصاحبه
شادى عبدالسلام إلى الساحة السينمائية العالمية بعد أربعين سنة من عرضه
الأول، إذ
شاهده الجمهور لأول مرة فى مهرجان سينما الشباب ٩٦٩١
الذى أقيم فى العاصمة
الفرنسية باريس.. ثم انتقل بعد أن صنف بين أحسن عشرة أفلام فى العالم إلى
مهرجان
لندن السينمائى الدولى الذى
يقدم فى نهاية العام أحسن وأكبر الأفلام التى عرضت
فى مهرجانات السينما العالمية.
*
لا كرامة لنبى فى
وطنه
هل كنا فى حاجة لكى ننتظر
٠٤
سنة كاملة لإهداء الدورة
الأخيرة من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى إلى اسم شادى عبدالسلام، أم
جاء هذا
فى استغلال ذكى لما قدمه مارتن سكورسيزى لصاحب
المومياء
فى كان
وفينسيا؟!.. عرض المومياء فى هذين المهرجانين وراء إهداء الدورة إلى اسم
شادى عبدالسلام والاحتفاء بالمومياء وعرضه لكل رواد المهرجان
- فى النسخة التى
رمما سكورسيزى، وأعاد إليها الحياة فى ساحة الصوت والضوء عند أقدام أبى
الهول،
وتقديمها إلى رواد أفلام المهرجان فى عروض خاصة.
وقد أفزعنى بجد،
عندما أعلن الصديق الفنان فاروق حسنى فى اجتماع اللجنة الاستشارية العليا
للمهرجان
إهداء الدورة إلى الراحل الكبير شادى عبدالسلام وهو يتساءل:
أين سيناريو فيلم
أخناتون الآن؟!
وأجابه هدير من الأصوات:
فى وزارة الثقافة يا
معالى الوزير.
أعرف أن شادى كان صديقا مقربا من فاروق حسنى،
وأذكر أننى
كنت ضيفا على أكاديمية الفنون فى روما وهو
يرأسها،
وكنت فى طريقى لحضور مهرجان
فينسيا، وأخبرنى أن شادى عبدالسلام سيجىء إلى الأكاديمية عائدا من رحلة
علاجية
فى سويسرا، وانتظرت لكى ألتقى بشادى قبل أن أذهب إلى
فينسيا، وإحساسى
بالوجع القلبى يلازمنى إشفاقا عليه فى مرضه الأخير.
*
أنا
وشادى والقمر جيران
أذكره،
فارعا نبيل الملامح،
كفرعون
مصرى، خرج من بطن جدارية فرعونية حافلة بالألوان..
لقيته لأول مرة فى مكتب
الصديق المخرج الراحل حلمى حليم..
الذى كان له عندى مكانة خاصة،
كأب للثقافة
السينمائية الواسعة التى حصلتها خلال ما زودنى به من كتب سينمائية وما فتح
عقلى
وواعيتى من هذه الثقافة،
كنا فى النصف الأخير من الخمسينيات، وكان حلمى قد قدم
رائعته أيامنا الحلوة
واحتل مكانا بارزا بين المخرجين الكبار، كان شادى قد
تخرج فى قسم العمارة بالفنون الجميلة،
وجذبه إلى الساحة السينمائية أستاذه ولى
الدين سامح، مهندس الديكور والسينمائى الكبير وأحد رجال استوديو مصر فى بداية
العصر الذهبى للسينما المصرية، فهو مخرج الفيلم التراثى الكبير
لعبة الست
لنجيب الريحانى وتحية كاريوكا، كانت لحلمى حليم رؤية خاصة تجاه شادى عبدالسلام،
وأراد حلمى حليم أن يحوله إلى ممثل فى فيلم ثلاثة رجال وامرأة، لكن شادى
لم يكن التمثيل هدفا من أهدافه،
وكان يؤمن بأن له رسالة أخرى غير التمثيل
واكتفى يومها أن يصمم ديكور الفيلم الذى كان واحدا من بين عدد من الأفلام
التى
صمم شادى ديكوراتها مثل:
الرجل الثانى ٩٥٩١، طريق الدموع ١٦٩١، والضوء
الخافت ١٦٩١، والخطايا ١٦٩١، وموعد فى البرج ٢٦٩١، وبين القصرين
٤٦٩١،
والسمان والخريف ٧٦٩١.
فى فترة العطاء، الستينيات وما بعدها،
ربطنى مع شادى عبدالسلام تواجد متواصل على الساحة السينمائية،
وجمعت بيننا
هوايات كثيرة، أهمها الثقافة السينمائية الواسعة والصلة الحميمية مع أستاذه
ولى
الدين سامح، ومكتب حلمى حليم ومفاجآته بشراء نسخ لنا جميعا من
أمهات الكتب
السينمائية، وقد وضع ولى الدين سامح تلميذه شادى على مسار آخر رائع، تصميم
الملابس للأفلام التاريخية الروائية،
وأمده بالكثير من المصادر الوثائقية،
جعلت
منه صاحب السبق فى هذا المجال، فإذا به
يصمم الملابس لأفلام
عنتر بن شداد
١٦٩١
وأميرة العرب ٣٦٩١، ورابعة العدوية ٣٦٩١، وشفيقة القبطية
٣٦٩١،
والناصر صلاح الدين ٣٦٩١، وتحضرنى هذه الضجة التى أثرتها من خلال نشر
اسكتشات
ملابس الناصر صلاح الدين
بالألوان فى مجلة الكواكب، ومضى شادى فى توجهاته
لتصميم الديكور والملابس لأفلام
واإسلاماه ١٦٩١، وألمظ وعبده الحامولى ٢٦٩١
وأمير الدهاء ٤٦٩١.
*
سفينة كليوباترا..
تعبر النيل
اختار الصديق الراحل محمد فتحى إبراهيم،
ولى الدين سامح
وتلميذه النجيب شادى عبدالسلام لتصميم
سفينة كليوباترا
قبل شهور من انتقال فريق
دارين أنوك إلى الإسكندرية لتصوير المشاهد الخارجية للفيلم، ونفذ مشروع
السفينة
كما وصفت فى كل المراجع التاريخية، وسيرت السفينة إلى الإسكندرية عبر النيل لتصبح
عنصرا مهما من عناصر التصوير الخارجى الذى أشرف عليه فتحى إبراهيم كمدير
عام لشركة
فوكس فى الشرق الأوسط.
*
كفاليروفيتش وفرعون الذهبى
المخرج البولندى يورى كفاليروفيتش،
كان فى الستينيات
عميدا لمخرجى السينما فيما سمى وقتها دول أوروبا الاشتراكية.. التقيته فى
بداية
الستينيات خلال دورة مهرجان
كان
السينمائى الدولى، وقد فازت زوجته الممثلة
نيتا بجائزة أحسن ممثلة فى كان..
كانت شركة فوكس قد تعاقدت على أن توزع فيلمه
فرعون الذهبى الذى يحكى عن فرعون لم يرد ذكره فى التاريخ هو
رمسيس الثالث
عشر، واختار فتحى إبراهيم المخرج شادى عبدالسلام لكى يعمل مساعدا لكفاليروفتش
ومستشارا تاريخيا ومشرفا على الديكور والملابس والإكسسوار فى
الفيلم، وكان معنى
هذا أن ينقب ويتجول شادى فى حقبات التاريخ المصرى القديم،
وأذكر أننى استضفت
كفاليروفتش وزوجته فى برنامجى التليفزيونى مجلة التليفزيون،
وحدثنى عن شادى
عبدالسلام وشغفه بالتاريخ الفرعونى،
وأصر على أن
يصطحبه إلى بولندا لإكمال
تصوير الفيلم فى وارسو، وفى هذه الفترة كانت فكرة
المومياء تتبلور وتحتل
واعية شادى عبدالسلام وذهنه، وبدأ فى كتابة فيلمه الروائى الطويل الوحيد وشجعه
كفاليروفتش على أن يكمل فكرته وينفذ فيلمه. وقبل أن يشرع شادى فى تنفيذ
المومياء خاض تجربة أخرى مهمة ومثيرة عندما جاء إلى مصر
المخرج الإيطالى الكبير
روبرتو روسيللينى لكى يخرج حلقة من مسلسل الصراع من أجل البقاء
٧٦٩١، عن
الحضارة المصرية وعمل شادى معه كمصمم للديكور والملابس.
*
ليلة وداع البلابل لـ
المومياء
فى العام التالى على
التوالى شرع شادى عبدالسلام فى تنفيذ سيناريو فيلمه الروائى الطويل الوحيد
المومياء، التقط الحادثة من بين دفات التاريخ الفرعونى لمصر، وعاشها بحب
وتفان فى مصريته، إلى حد أن أسلمته لمجموعة من الأفلام التسجيلية القصيرة
عن
تاريخ مصر الفرعونى
الفلاح الفصيح ٠٧٩١، وآفاق تسجيلى طويل ٢٧٩١، وجيوش
الشمس تسجيلى طويل ٤٧٩١، وكرسى توت عنخ آمون -
دراما تسجيلية - ٢٨٩١،
والأهرامات وما قبلها
٣٨- ٤٨٩١، عن رمسيس الثانى ٦٨٩١.
وفى الثامن
من أكتوبر ٦٨٩١ فاجأنا شادى عبدالسلام بالرحيل..
وهو لم
يحقق حلمه الأخير..
فيلمه الروائى الثانى مأساة البيت الكبير عن أخناتون وعصره، لقد أعطى ثلاثة
أعوام كاملة لهذا الحلم،
وكتب السيناريو وصمم الديكورات وحول مكتبه -
مكتب
والده المحامى الكبير فى وسط البلد -
إلى ورشة لتصميم الديكورات وصنع الحلى
الفرعونية، واعتدنا أن نزوره وسط هذا ونعايشه معه..
كانت ميزانية الفيلم كما
وضعها فى هذه الفترة
٧٧٩١، ترتفع إلى
٠٠٣ ألف جنيه، وكان يرفض كل عروض
التمويل التى جاءته من بلاد عربية مثل العراق
أو دول الخليج،
فقد كان مصرا
على أن يكون فيلمه مصريا حتى النخاع،
والمرة الوحيدة التى قبل المناقشة كانت
لعرض فرنسى بالتمويل، وقبله لأنه يعرف الشغف الفرنسى بالحضارة المصرية
القديمة، لكنه فجأة فوجئ بصاحب العرض
يتصل به من تل أبيب ليحدد موعد مجيئه إلى
القاهرة لإتمام الاتفاق وألغى العملية كلها.
*
يوم قدم لى
نفرتيتى!
يوجعنى قلبى كثيرا وهو
يستعيد ذكرياتى مع
شادى.. كنت أنضم إليه فى مكتبه لأجده
غارقا فى كتب التاريخ الفرعونى،
وانتزعه
بعد لأْىٍ، لنذهب إلى ساحة المسجد الحسينى،
لنجلس فى شرفة مطعم
يطل على
الساحة.. وذات مرة فاجأنى:
ألا تريد أن تتعرف على نفرتيتى بطلة أخناتون؟!
وانضمت إلينا بعد دقائق الممثلة النجمة سوسن بدر -
الوجه الجديد أيامها
-
بعينيها السوداوين وشعرها الأسود المنسدل على كتفيها وبشرة وجهها تحاكى لون
ماء
النيل زمن الفيضان..
كنت أعرفها من خلال أزمة تعرضت لها بعد تمثيل فيلم بعنوان
موت أميرة كادت تميت طموحاتها، وقال لى:
أريدك أن تأخذها غدا إلى سقارة
وتلتقط لها بكاميرتك عشرات الصور فى هذا الجو..
ولم أكن لأرفض له هذا المطلب،
ولعل الصديقة الفنانة الكبيرة الآن تذكر هذا اليوم البعيد الذى تجولنا فيه
بين
ربوع سقارة، لننفذ معا لشادى عبدالسلام رغبته فى أن
يرى نفرتيتى رأى
العين.
هل أصابت لعنة أخناتون وعصره شادى عبدالسلام فرحل قبل أن
ينفذ
حلمه مأساة العائلة الكبيرة، وهل
يجىء من ينفث الحياة ويعيد الحلم إلى
صاحبه؟!.. أتمنى هذا!
صباح الخير المصرية في
05/01/2010 |