كثيرا ما تتداخل قصص الرعب وقصص الخيال العلمي في السينما، وفي معظم هذه
الافلام يستخدم الموضوع الخيالي كمساعد لتمرير القصة الأساسية التي كثيرا
ما تكون مستهلكة. الخيال هنا وسيلة مساعدة لتجنب الوقوع في التكرار. لكن،
بمرور الوقت، أصبحت، حتى هذه المزاوجة، مملة وغير مبررة. هذا في العموم
طبعا، ولكن لكل قاعدة شواذاً، كما يقال، وفي السينما الخروج على القاعدة
كثيرا ما يحير ويدهش، وفيلم «زومبيلاند» يؤكد هذه الحقيقة.
أول أسباب الدهشة سخرية الفيلم من موضوعه، أو بعبارة أدق التعامل بخفة مع
الرعب ومشاهد الموت والقتل وكأنها مشاهد من أفلام كوميدية أو أفلام أطفال
متحركة. وبهذه الطريقة التهكمية، امتص المخرج وكاتب السيناريو روبين فليشر،
توتر جمهوره المرتقب، باعتبار أنهم جاءوا في الأساس ليشاهدوا فيلم «رعب».
العنصر الآخر مناخه «الغرب أميركي»، فالفيلم، بما فيه من مناخ خيالي، ينتمي
الى أفلام الكابوي، في العمق طبعا، بمعنى أن مرجعيته سينما تقليدية تنقلنا
الى أجواء الغرب الأميركي من دون أن نتنبه الى ذلك بوضوح.
اسم الفيلم «زومبيلاند» يفهم هنا: البلد الذي اجتاحه الزومبي أو الموتى
الذين يعودون الى الحياة ثانية على هيئة كائنات ممزقة الأشلاء والدماء تسيل
من أفواههم، لا يتكلمون ولا يتحركون بسوية، بل يهيمون في الأرض بحثا عن
إنسان يأكلونه. والمصيبة الأعظم أنه إذا ما تعرض أحد من البشر لعضة من
أسنانهم، تحول هو الآخر الى زومبي. أي إنهم ينتشرون كالوباء الذي ينتقل من
شخص الى آخر، وهذا ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية كما يقول الفيلم
فصارت كلها بلاد زومبي (زومبيلاند). وكان طبيعيا لمن أراد التخلص من هذا
الرعب أن يهرب الى أرض أخرى أو يقاتل الزومبيين هذه المهمة، أي تخليص
أميركا من الزومبي، أوكلها القدر الى رجلين هما الشاب كولومبس (الممثل جيس
ايسينبيرغ) والرجل العنيف تاهاس (الممثل وودي هارلسون)، الذي كان يعتمر
قبعة كابوي ويرتدي ملابس مدنية حديثة تذكرنا، رغم ذلك، بملابس أبطال أفلام
الغرب الأميركي.
المنقذون الأربعة
بدلا من الحركة السريعة والرجولة الطافحة في سلوك أبطاله، يقدم لنا مخرجه،
شابا مسالما ومنطويا، توصل وحده الى مجموعة قواعد تمكن، من خلال التزام بها
حرفيا، من النجاة من شر الموتى الخطرين. قواعد زادت على الأربعين، تعلمها
بالتجربة، مثل «اضرب خصمك مرتين»، وهذا يعني عدم تركه وشأنه من الضربة
المرة الأولى. بصريا كان المخرج روبين فليشر يترجم المسألة بمشهد يظهر فيه
زومبي يهاجم الشاب بغتة، فيضربه الأخير بهراوة، لكنه يفاجأ بعد لحظة بنهوض
الأخير وتكرار محاولته، لهذا يضطر لضربة ثانية لينتهي أمره نهائيا. وهكذا،
وفي كل قاعدة يذكرها الشاب كولومبوس، يرجع الفيلم الى مصدرها ليزيد من
الروح الفكاهية للفيلم ويضعف مناخه الخارجي العنيف، حتى يبدو لنا، لكثرة ما
فيه من مفارقات، انه فيلم كوميدي في الدرجة الأولى وغرب أميركي حين يتعلق
الأمر بـ«تالهاس»، الرجل الأربعيني الذي كان يكره الزومبي كراهية فظيعة
ويريد تخليص البلاد منهم. فهم بالنسبة اليه كالهنود الحمر لا يتكلمون
لغتهم، هائمون في البرية يطاردون ويهاجمون جماعة ويأكلون «أبناء وطنه
الأبرياء» من دون رحمة.
على هذا النمط بني النصف الأول من الفيلم، لكن تحولا مهما جرى في نصفه
الثاني عندما التحقت الأختان فيجيتا وليتل روك بالرجلين. أخذ الفيلم بعد
ذلك شكل فيلم طريق. في كل محطة من محطاته خاض أبطاله الأربعة مغامرات
وكانوا خلالها يتلاعبون على بعضهم البعض، لكنهم في النهاية توحدوا في
مواجهة الموتى آكلي لحوم البشر. ومن المشاهد الرائعة والغارقة في الروح
الكوميدية نزولهم في هوليوود في بيت أحد المشاهير، الذي كان مختفيا بزي
زومبي؛ لأن الزومبيين لا يأكلون بعضهم بعضاً كما كان يعتقد. لكن المفارقة
أنه وبعد ساعات قليلة من حفلة المرح سيقتل على أيدي أصدقائه البشر، الذين
لجأوا اليه. يقتل في لعبة اخترعها للتسلية، لكن من كثرة رعبهم تصوروا أنه
زومبي حقيقي فقتلوه دفاعا عن النفس! كل هذا كان يجري دون الإحساس بالحزن أو
الخوف. حتى الضحك كان واطئ النبرة، ولهذا فان الإحساس الذي بلغ المشاهد كان
قريبا من الإحساس الذي تولده أفلام الخيال العلمي غالبا: دهشة وعدم تصديق.
وهاتان الصفتان لزمتا «زومبيلاند» حتى نهايته، حين انتصر الأبطال الأربعة
على الموتى وتخلصوا من آخر زومبي. وكالعادة ارتبط الشابان بعلاقة عاطفية في
حين عاد «الكابوي» البطل الى مكانه الأول بعدما أتم مهمته بنجاح واستبد
الأمن في البلاد بفضله.
والمفارقة الكبيرة أن الفيلم لا يرسل رسائل واضحة ولا مبطنة حتى، أي أنه لم
يكن يريد الإساءة الى الهنود الحمر مباشرة، لأنه في النهاية لم يكن معنيا
بهم كبشر بقدر ما كان معنياً بكائنات خرافية خيالية. ومع هذا يحتمل الفيلم
قراءة تؤكد فكرة التعالي الأميركي وتجسيد البطولة الفردية على حساب
الآخرين، موتى كانوا أم أحياء. وفي «زومبيلاند» على المشاهد أن لا يتسرع
ويحمّل الفيلم أكثر مما يحتمل. لقد أريد له أن يقدم كفيلم رعب وخيال علمي،
أهم ما فيه جودة صنعته، ومنح مشاهديه متعة بصرية. ومع هذا كله ظل الفيلم
يذكّر مشاهديه بأن خطرا ما ينتظرهم خارج الصالة، ربما يكون زومبياً جائعا
يريد ملء معدته بلحمهم الطازج! من يدري؟ انه في النهاية فيلم «رعب»!
الأسبوعية العراقية في
05/01/2010
خزانة الألم ..أفضل الأفلام حول حرب العراق
قيس
قاسم
الحرب إدمان... هذه العبارة التي يبدأ بها فيلم «خزانة الألم» وضعت، بتعمد
واضح، لتحيلنا الى التفكير في هذا النوع من المخدرات والمدمنين عليها، لأن
المنطق يقول: ما دام هناك إدمان فهناك حتما مدمنون. وعلى أهمية هذا المدخل
الذي حرصت من خلاله المخرجة كاترين بيغلو على توكيد الخط الفكري الذي رسمته
لنفسها، باعتبارها معنية في الدرجة الأولى بهؤلاء البشر المدمنين على
الحروب، وليس بالحرب نفسها، فإن أحداث الفيلم ومساره تطرح أسئلة ملحاحة حول
طبيعة هذا الفصل وإمكانية رسم حدود واضحة بين الحروب ومدمنيها؟ ما هي درجة
وضوح الخطوط الفاصلة بين العينة المركز عليها والمساحة التي تتحرك فيها،
وأي مساحة؟
حرب العراق ودور الفرق الخاصة بتفكيك العبوات الناسفة، المحلية الصنع،
والتي كبدت الأميركيين خسائر كبيرة في الأرواح وعطلت أجساد الآلاف منهم. في
هذه المساحة المخيفة كان ثلاثة من رجال الفرقة الخاصة يتحركون بحذر شديد،
يفككون القنابل ويطاردون زارعيها. وكانت أعصاب المشاهدين، طيلة ما يزيد عن
ساعتين، مشدودة اليهم والى عملهم الذي لا يحتمل الخطأ. فخطأ المرة الوحيدة،
كما يسمى عملهم، يعني الموت الأكيد. حول هؤلاء الجنود تمحورت قصة «خزانة
الألم» ومن خلالهم رسمت بيغلو المشهد العراقي في العام 2004، أي بعد مرور
عام واحد فقط على سقوط صدام حسين. تجلت الشخصية المغامرة، أو المدمنة على
الحروب، بالقائد الجديد للمجموعة ويل جيمس (الممثل جيرمي رينير) الذي حل
بديلا عن زميله السابق، الذي تطاير جسده قطعا متناثرة بعد انفجار عبوة
ناسفة كان يحاول إبطال مفعولها. يتمتع ويل بجرأة استثنائية، يندفع بقوة نحو
الهدف من دون مراعاة للأنظمة والضوابط التي يحرص زميله سانبورن (الممثل
أنتوني ماكي) على التقيد بحذافيرها، فيما زميلهم الثالث ألديريج (الممثل
بريان كريثي) يقف في موقع وسطي، فهو لا يريد أن يقتل ولا أن يقتل أحدا. كان
مرعوبا من فكرة الموت ويريد العودة الى وطنه سالما. فلكل من تلك الشخصيات
الثلاث نظرة الى الحرب تنعكس على سلوكه في ساحة المعركة الغامضة مع شبه
أشباح تزرع الموت بينهم وتختفي. عرض المشهد العام موضوعيا، ضمن إطاره
الزمني والنفسي، ليمتن جانبه التسجيلي، هو أهم ما يميز فيلم «خزانة الألم»،
الذي حرصت مخرجته على التزام حيادية عالية، في إطار البناء الدرامي الذي
حددته له. لهذا جاء الفيلم مختلفا عن غيره من الأفلام التي تناولت الحرب
العراقية وحرص أصحابها على تسجيل موقف نقدي منها وجهروا بمعارضتها. هذا لا
يعني بطبيعة الحال إن بيغلو مجدت الحرب، لكن تميزها يكمن في توازنها
الموضوعي بين المحتل والجهة الأخرى المعارضة له، والتي تتخذ أشكالا وتصرفات
لا تقل همجية ووحشية عن سلوكيات المحتل. فـ«المقاومة» هنا ليس لها لون واحد
أو هوية، فهي متداخلة ومراوغة، وعنفها موجه ضد المحتل وابن البلد معا.
تستغل العراقي كمادة وسيطة في صراعها وغاياتها السياسية. ولعل المشهد الذي
يظهر فيه عراقي مكبلا بالسلاسل ومربوطاً وسطه بعبوات مؤقتة يعبر عن وحشيتها
بوضوح. فلكي يلحقوا الضرر بالجنود الأميركيين استخدموا جسد العراقي كقنبلة
موقوتة من دون ارادته. المستهدف هنا هو المحتل وابن البلد! والأكثر منه
رعبا صورة الطفل بائع أقراص السي دي الممغنطة وأفلام الفيديو قرب معسكر
الأميركيين، والذي نقل الى موقع مجهول وهناك عذب ثم قتل ببشاعة بعدما اعتبر
ظلما متعاونا مع العدو. ولم يكتفوا بذلك بل زرعوا في أحشائه عبوة ناسفة
خططوا لتفجيرها عند نقل جثمانه. أي رعب ووحشية لا تضاهيها سوى وحشية جنود
غرباء كل هاجسهم تقليل خسائرهم بأي ثمن. هذا التوازن نقل نوعية الفيلم الى
مستوى راق متجانس مع بقية المهارات الفنية؛ من تصوير ومونتاج وتأثيرات
صوتية مع كتابة سينمائية رائعة ودقيقة كتبها الصحفي مارك بوال الذي رافق
الدبابات الأميركية أثناء دخولها العراق. ولعل هذا يفسر دقة بناء الشخصيات
الثلاثة وطبعا أداءها التمثيلي البارع. فويل جيمس ظهر كرجل يشبه الكثير من
أمثاله الأميركيين الباحثين عن معنى من خلال المغامرة، سيجارة دائمة في فمه
ونقلات حادة غير محسوسة من الموقف السهل الى الصعب والمخيف، بفضل خصاله تلك
وقوة بنائه الجسدي، وفق في إبطال مفعول 873 قنبلة، فأغاظ بتصرفاته ونجاحه
زملاءه، الذين كانت ترعبهم اندفاعاته غير المحسوبة والمتعارضة مع قواعد
العمل في أخطر مهمة عسكرية على الإطلاق، لدرجة أنهم فكروا مرة في التخلص
منه، خصوصاً وان فترة نهاية خدمتهم كانت قريبة وكل يوم يمضي بسلام يعني
الاقتراب من الحياة والابتعاد عن الموت المشؤوم المترصد بهم في كل مكان من
بغداد أو الآتي من حماقة قد يرتكبها زميلهم المندفع. على الجانب النفسي
والقلق لعبت بيغلو فكان الزمن يمر وكأنه دهر على الجنود وعلى الجمهور الذي
كان يسمع نبضات قلبه المرتفعة وكأنها نبضات حركة عقارب الساعة. على الجانب
النفسي راهنت بيغلو وغاصت عميقا، وفي مشهد المطاردة لمجموعة تسللت من
الصحراء، لغرض تصفية أعضاء منتسبين الى شركات أمنية خاصة، طلبت المساعدة من
الفرقة الخاصة، أبقت بيغلو الكاميرا ثابتة على وجه الجندي الأسود سانبورن،
وهو يرصد المجموعة المختفية بين الأغنام. ذرات الرمل وهي تغطي كامل وجهه
وقلق زملائه جسدتها الكاميرا عبر تراكم زمني بطيء تحس بثقله على قلب الجنود
والمشاهدين.
المهمة الأخطر
علينا هنا التوقف عند طبيعة الشخصيات الثلاث ومهماتها. فالرجال المكلفون
بمهام إبطال القنابل والعبوات الناسفة، يعدون في كل الحروب أبطالا، بغض
النظر عن الطرف الذي ينتمون اليه. فكل نجاح في عملية يعني نجاحهم في الحفاظ
على أرواح جنود ومدنيين أبرياء. وفي هذا السياق نذكر ان جنديا انكليزيا، من
مفككي القنابل، وأثناء عودته من أفغانستان، سأله أحد الصحفيين عن عدد
الطالبانيين الذين قتلهم هناك، قال: لا تسألوني عن عدد الذين قتلتهم
أسألوني عن عدد الذين أنقذت حياتهم، ولهذا ربما سيصف البعض بيغلو كمبجلة
لهؤلاء الجنود ومثمنة لدورهم، هذا إذا تناسوا متعمدين مقدار الموضوعية التي
تحلت بها وتجاوزها حتى على الحدود التي رسمتها لنفسها. فبيغلو راحت مع
الوقت تنتقد الحرب عبر الجندي الأميركي والحالة المزرية التي وصل اليها.
فالتمزق العائلي والخوف والشعور باللامساواة بسبب الوضع الاجتماعي والطبقي
بين الجنود، كلها نتاج موضوعي لانخراطهم في حرب غريبة على أرض غريبة،
يشعرون بكراهية الناس لوجودهم، فيصبح هاجسهم الأول الخلاص من هذا المستنقع
والعودة الى ديارهم سالمين. سيغدو هذا الأمل حلما جميلا، مرتجى بدلا من حلم
العيش في بيت هانئ، بعيدا عن النيران والقنابل اليدوية الغريبة التي تزرع
في كل مكان فتنشر الرعب في قلوبهم. ولعل القطع الزمني الذي لجأت اليه بيغلو
ساعد على إنضاج هذه الأفكار والانطباعات. فبعد عودة ويل الى منزله في
أميركا، يظهر في مشهد مع زوجته يتبضعان، فتطلب منه شراء مواد غذائية وأخرى
للغسيل، فينتابه شعور بالاغتراب في هذا المناخ «التافه والبليد» البعيد عن
التوتر والعنف، فالرجل مدمن ولا يمكن إطفاء حاجته الى المخدرات سوى الحروب،
لهذا نراه في مشهد آخر هابطا بحبور من طائرة عسكرية حطت لتوها أرض العراق.
فالحرب بالنسبة اليه كما لأمثاله هي المعني الحقيقي لوجوده. لكن هذه الحالة
تبقى محصورة بقلة، فيما الآلاف يريدون التخلص من هذا العبء ونسيان تفاصيله
المرعبة. فالحرب هي الحرب، خزانة ألم. أخيرا لا بد من القول؛ ان «خزانة
الألم» هو في مقدمة أفضل الأفلام التي تناولت الحرب العراقية حتى الآن، وما
اختيار رابطة نقاد السينما في لوس انجلوس له كأفضل فيلم خلال هذا العام إلا
بداية ستلحقها، كما هو متوقع، تقييمات وجوائز أكثر وأكبر. لكن يعاب عليه
عدم انتباه مخرجته الى العامية العراقية فجاء كلام الناس الذين يفترض انهم
عراقيون باللهجة الأردنية، لأن الفيلم صور هناك. كما أبقت بعض أسماء
ولافتات المحلات كما هي، وهذا سيخلق بدوره ارباكا وضعف مصداقية لدى
المشاهدين العرب والعراقيين على وجه الخصوص.
الأسبوعية العراقية في
03/01/2010 |