عالم إبراهيم أصلان الروائي محض شجن
في تفاصيله وشخصياته ومعانيه ورموزه الانسانية، من رواية 'مالك
الحزين' التي اشتهرت
سينمائيا بـ'الكيت كات'، الى 'عصافير النيل' تتراوح الهموم وتتأكد موهبة
الكاتب
الكبير وتوغل في العمق، ثمة خيط رفيع يربط بين عوالم أصلان في الروايتين
الرائقتين،
ربما لأن أبطالهما من المنتمين الى الطبقات الكادحة القابضين
على جمر الجوع والفقر
بأيد خشنة تتحدى سخونة النيران المستقرة في البطون والقلوب .. عادة ما
يأخذنا
الروائي المخضرم بهدوء شديد الى مناطق الانصهار من نقطة بداية تتسم الاجواء
فيها
بالرومانسية ويتحلى شخوصها بجميل المشاعر، وهذا ما يجعل
السينمائيون الذين يتعاملون
مع هذا النمط الأدبي وهم مشدودون الى فكرة تجسيد ما يقرأونه بالصوت والصورة
الى
كائنات تبث فيها الروح .. تتحرك وتتكلم وتحب وتكره فإذا بنا نشاهدهم في
واقع حي على
الشاشة الفضية نراه ونسمعه ونكاد نلمسه من فرط تفاعلنا معه.
هذه المشقة تحملها
هذه المرة المخرج مجدي أحمد علي، فهو الذي التفت الى اهمية الرواية وشرع في
تحويلها
الى سيناريو مغرما بما يغزله ابراهيم أصلان على منوال الوجع ليصل الى عمق
الشخصية
المصرية المهمشة، الموضوعة دائما على ضفاف الأحداث أو خارجها
أحيانا برغم انها تمثل
التشكيلات الاجتماعية بأطيافها المختلفة
..
يتلاقى أصلان ومجدي أحمد علي في هذا
الإحساس ويتفقان على هذه القناعة فيقفان سويا على ارضية فنية
واحدة ويبدعان
سيمفونية شجن فريدة مكوناتها الموسيقية فيلم 'عصافير النيل' الذي تقوم
فكرته
الأساسية على حق البسطاء في الحياة .. الحياة بكل مستوياتها، حق الأكل
والشرب
والزواج والحب والكساء واللهو والمغامرة، الفقراء أبطال الطبقة
المعدمة يمثلهم ذلك
الشاب الهوائي فتحي عبد الوهاب ينطلق في فضاء الحياة الواسعة بعد ان يخرج
من
المضمار الضيق بالقرية الصغيرة التي نزح منها الى القاهرة ليعيش مع شقيقته
دلال عبد
العزيز وزوجها محمود الجندي طارقا أبواب الرزق فيكون على موعد
مع غواية المرأة
اللعوب 'عبير صبري' التي تطاردها سمعة سيئة وتتمتع بجمال فتان يجعلها في
مستوى
الشبهات، وتلك الشخصية الحيوية هي ما تشكل معه ثنائية تحرك الأحداث كلها
على مدار
الزمن الدرامي البالغ ساعتين او اكثر فكلاهما مرتبط بالآخر على
نحو عاطفي وغريزي،
بينما تقف المحظورات الاجتماعية حاجزا منيعا ضد العلاقة المصنفة من جانب
الأغلبية
بالعلاقة الحرام وعلى هذه الخلفية القيمية ينفصل العاشقان ويواجه الطرف
الأول
'البطل'
إرهاصات نفسية تسفر عن زواج فاشل لعدم الانسجام والتفاهم فيبقى الفراغ
قائما في وجدان الرجل الباحث عن ضالته وسعادته المنشودة في المدينة الفاضلة
'القاهرة'
فيتكرر البحث وتستعد نيران الرغبة ويظل مرتبطا مشدودا الى التجربة
الأولى، وفي محاولة ثالثة لإسكات النداء المتصاعد داخله نحو الحبيبة
الماجنة يدخل
البطل العاشق في مغامرة جنسية مع أرملة أشارت اليه بإصبع الغواية فلبى
الدعوة على
الفور مدفوعاً بحرائقه وأشواقه وبات يمارس رغبته فيما يشبه
الإدمان الى ان أجبر على
هجر فراش المتعة بعد مشاجرة، وبتداعي نوبات الإخفاق والنجاح نتخيلها في
الخلفية عن
طريق 'الفلاش باك' أبعادا رومانسية وإجتماعية تتكشف على ضوئها مسيرة الفتى
المشبوب
بحريق نزواته وشهوانية عشيقاته وزوجاته وتتبدى تفاصيل جانبية لحياة
أولئـــك البشر
االذين يعيشون على ضفاف النيل كعصافير ضعيفة تترصدها نبال
القدر كحياة الشقيقة
وتحولاتها الجسدية والجمالية من الفتنة والدلال الى إنحناء الظهر وإشتعال
الرأس
بالشيب وإنغلاق الفم على أسنان مهشمة، وكذلك إقتحام الزهايمر ذاكرة الأم
وتفريغها
من محتواها لتهيم على وجهها ضالة طريقها في خضم الزحام ومتاهة
البشر، بيد ان الموت
يخطف في غفلة من عيون الأهل والأصدقاء زوج الشقيقة 'محمود الجندي' موظف
الحكومة
بمصلحة البريد قبل ان يتحقق حلمه بالإنصاف في الحصول على معاش كامل بعد ان
أفنى
وقتاً طويلاً في الشكاوى والنضال ضد الروتين والبيروقراطية،
وبينما يمر المجتمع
الصغير الذي يرمز به المخرج مجدي أحمد علي الى طبقة بأكملها ينخر سوس
الإرهاب في
بنيـة العقل فيسلب الشباب إرادتهم ويفضي بهم الى السجن وفق ما أشارت اليه
شخصية ابن
الشقيقة الكبرى للبطل فتحي عبد الوهاب دلال عبد العزيز
.
لم ينس المخرج وكاتب
السيناريو في غمرة الإنشغال بالحدوتة الدرامية وتفاصيلها ان يستعرض جانبا
من ثقافته
الشخصية ليعزز المضمون الأصلي للنص الروائي فنراه يقطع التسلسل الدرامي
بفاصل مسرحي
كلاسيكي من روائع المسرح الإنكليزي ليربط الدلالة السينمائية
بالفلسفة الأدبية
ويوحد بين هموم المهمشين في العالم كله ولم يكتف بذلك بل يعود بنا الى
الحدث
الدرامي نفسه فنجد بطلنا على حالته الراهنة ونلحظ متغيرات الزمن بقوة على
الجسد
والوجه وتطالعنا زجاجات المحاليل والغلوكوز معلقة على حامل
بجوار السرير الأبيض
بإحدى المستشـفيات فندرك على الفور ان مرضا شديدا ألم بالرجل وأنهك قواه،
وان ما
يعد يربطه بالماضي ليس سوى إجترار الذكرى وإستحضار اللحظات الجميلة مع
الحبيبة
الأولى عبير صبري شريكته في رحلة العمر ورفيقته في درب المرض،
فهي ترقد في نفس
المستشفى وتتشبث بالحياة مثلما يتشبث بها.
إمارات كثيرة ودلائل إنسانية ساقها
المخرج الكبير للتعبير عن مقاصد الرواية ليعوض فنيا ما تم حذفه
في النص الأصلي بما
يلائم اللغة السينمـائية ويحقق للمشاهد متعة الفرجة والإستخلاص الضمني
لماهية العمل
بشكله الكامل دون الإحساس بأن هناك شيئا مفقودا ما بين الرواية والفيلم.
القدس العربي في
31/12/2009 |