شهدت السينما السورية في عام 2009 حراكاً مثيراً للاهتمام بعض
الشيء... فقد خرجت مشاريع سينمائية عدة بتوقيع جهات إنتاجية غير المؤسسة
العامة
للسينما التابعة لوزارة الثقافة، والتي ظلت لسنوات طويلة
المنتج السينمائي الوحيد
أو شبه الوحيد في سورية تقريباً... وقد اندفع بعضهم ـ كالمخرج هيثم حقي
وسواه- يطلق
التصريحات المتفائلة عن إمكانية أن تنتج سورية عشرين فيلماً سينمائياً في
السنة،
وجرى الحديث عن الآمال الكبيرة التي ستشهدها السينما السورية
القادمة... والتي سوف
تجد لها مكاناً شبيهاً بذاك الذي وجدته الدراما التلفزيونية السورية عربياً
التي
تحولت إلى ظاهرة ذات نفوذ جماهيري وفني بارز على الساحة الفنية العربية...
فإلى أي
حد يمكن لمثل هذه الآمال العذاب (بكسر العين) أن تتحقق في القريب العاجل أو
الآجل... وما هي طبيعة الإنتاج السينمائي الذي يمكن أن تشهده
سورية
مستقبلا؟!
أفلام في صالات العرض: حضور باهت!
قبل أن نجيب على هذا
السؤال، لا بد من أن نذكر بعلامات المشهد السينمائي السوري عام 2009
بتفاصيله
العامة والخاصة... والتي يبقى أبرزها تجديد صالة سينما دمشق العريقة على يد
المنتج
السينمائي السوري نادر أتاسي، ووضعها قيد الاستثمار التجاري
بمواصفات فنية وتقنية
عالية، فضلا عن استيراد أحدث الأفلام لعرضها فيها، بما يعيد للجمهور
الدمشقي شيئاً
من طقوس السينما التي افتقدها منذ أن انهارت صالات العرض مع انتهاء فورة
السينما
السورية في نهاية سبعينيات القرن العشرين، ودخول الحالة
السينمائية كلها مرحلة
التأميم الحصري بإحداث قانون حصر استيراد الأفلام بالمؤسسة العامة للسينما.
وقد
ترافقت خطوة تجديد (سينما دمشق) أو (سينما سيتي) مع وضع فيلم (سيلنيا) الذي
قام
بإنتاجه نادر أتاسي أيضاً قيد العرض الجماهيري في إحدى صالتي مجمعه
السينمائي
الحديث... وهو الفيلم الغنائي الذي أنتجه عن مسرحية (هالة
والملك) للأخوين رحباني،
وأخرجه حاتم علي ولعب بطولته: دريد لحام ومريام فارس وأنطوان كرباج وباسل
الخياط..
وإذا تتبعنا حالة العرض الجماهيري أيضاً، فإننا سنشير إلى فيلم (أيام
الضجر) للمخرج السينمائي عبد اللطيف عبد الحميد، ومن إنتاج المؤسسة العامة
للسينما،
والذي وضع قيد العرض الجماهيري عام 2009 في صالات الكندي
التابعة للمؤسسة، بعد أن
شارك في مهرجان دمشق السينمائي عام 2008 لكن يمكن القول إن كلا الفيلمين لم
يحققا
حالة نجاح فني وجماهيري يبشر بعودة الجمهور السوري إلى صالات السينما أو ما
تبقى
منها، ليتابع إنتاجه السينمائي المحلي الذي غاب عن ساحة
التواصل معه... والسبب يعود
إلى مشكلات أساسية في الفيلمين المذكورين... فعبد اللطيف عبد الحميد الذي
كان إلى
حد كبير يوصف بالمخرج الجماهيري ضمن مخرجي مؤسسة السينما، بدا هنا بعيداً
عن إنجازه
هذا وخصوصاً في دمشق التي يبدو أن عروض الفيلم الخاصة في مهرجانها قد
استنفدت رغبة
المهتمين في معرفة جديده.. وربما استنفدت تزاحمهم على الحصول على بطاقة
دخول... أما
المخرج حاتم علي، فلم يستطع في تجربته الغنائية هذه، أن يقدم تصوراً فنياً
جذاباً،
يمكن أن يغري جمهوراً طالما عشق التراث الرحباني كالجمهور
السوري... وقد بدا فشله
الفني في إدارة هذه الدراما، وتقديم الحلول البصرية لها واضحاً في التصور
الباهت
الذي انتهت إليه هذه التجربة، والفتور الذي قوبلت به جماهيرياً.
أفلام في
مهرجانات: جوائز النوايا الحسنة!
وبعيداً عن الأفلام التي وصلت إلى
الجمهور... ظهرت تجارب سينمائية أخرى، أنتجت وشاركت في
مهرجانات لكنها لم توضع قيد
العرض الجماهيري بعد... وما أثار الاهتمام في هذه التجارب حقاً، أنها لم
تكن من
إنتاج المؤسسة العامة للسينما، بل من شركات القطاع الخاص العاملة في مجال
الإنتاج
التلفزيوني... كشركة (ريل فيلم) التي أسسها المخرج والمنتج
هيثم حقي، بتمويل من
شبكة قنوات (أوربت) التي يعمل منتجاً منفذاً لصالحها... والتي أنتجت فيلم
(الليل
الطويل) تأليف هيثم حقي وإخراج حاتم علي، وشركة (لين) التي أنتجت فيلم (نصف
ميلغرام
نيكوتين) سيناريو وإخراج محمد عبد العزيز، والذي حصل على جائزة
في مهرجان (باري)
الإيطالي... مثلما حصل فيلم (الليل الطويل) على الجائزة الكبرى في مهرجان
يدعى (تارومينا) في إيطاليا، وعلى جائزة أفضل
فيلم في مهرجان يدعى (أوسيتيا) في الهند،
ناهيك عن جائزة اتحاد النقاد العالميين.
ولم نشاهد فيلم (نصف ميلغرام نيكوتين)
إذ لم يوضع قيد العرض الجماهيري بعد... إلا أنه قيض لنا أن نشاهد فيلم
(الليل
الطويل) في عرض خاص... وقد أشدنا في مقال مطول في 'القدس العربي' سابقاً،
بجرأته
وصدق التزامه في معالجة ملف السجن السياسي في سورية، وقلنا أن
الجوائز التي نالها
الفيلم، تنبع من احترام قضية ملف الاعتقال السياسي التي يطرحها بكثير من
الصدق
والانحياز الخفي لآلام مئات المعتقلين في الوقت الذي مازال الملف مفتوحاً
وتداعياته
قائمة، والسلطة التي كانت طرفاً فيه مسيطرة رقابياً على شكل
التعاطي الفني معه...
وهذا أمر يشيع الكثير من التعاطف مع صناعة فيلم من هذا النوع... لكن لغة
الفيلم
تبدو بعيدة تماماً عن لغة السينما وجمالياتها، وإن كان حاتم علي يسعى في
هذا الفيلم
لتجويد لغته التلفزيونية ورفع سقفها الفني والإنتاجي... وقد سعى صناع
الفيلم إلى
الرد على هذا الرأي عبر دفع كتّاب يكتبون بأسماء 'حكواتية
'مستعارة لشتمنا في إحد
المواقع الإلكترونية السورية، والقول بأننا نتجنى على هذا الإبداع
السينمائي الذي
حاز إعجاب نقاد العالم... لكن حقيقة الأمر أنه لا يوجد شيء في عالم الفن
يمكن أن
يغلق باب السجال حول لغة عمل فني لمجرد أن ما يسمى (اتحاد النقاد
العالميين) وهم
مجموعة من النقاد الذين تواجدوا على هامش مهرجان أوسيتيا
الهندي، منحوه جائزة ما.
وقد شارك فيلم (الليل الطويل) في واحد من أهم مهرجانات السينما المعروفة،
وهو (مهرجان القاهرة السينمائي) فلم يحصل سوى
على شهادة تقدير، وقد جاء في حيثيات منح
شهادة التقدير نفس ما قلناه في مقالنا من أن موضوع الفيلم
الهام، والذي يعالج مشكلة
مازالت حارة وتداعياتها المؤلمة قائمة في مناطق كثيرة من العالم العربي،
يثير
التعاطف والتقدير... في حين أن لغته أو سويته السينمائية لم تحظ بأية إشارة
أو
تنويه، ولم تنل أي جائزة حتى في المسابقة التي خصصت للفيلم
العربي في المهرجان
المذكور... إذ ذهبت جائزة الفيلم العربي وجائزة أحسن إخراج لفيلم فلسطيني!
أفلام بإنتاج مشترك: مبادرة أم هاجس؟!
وبخلاف لغة فيلم (الليل
الطويل) التلفزيونية... قدم المخرج الشاب جود سعيد في فيلمه
الروائي الطويل الأول (مرة
أخرى) الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما وعرض في مهرجان دمشق السينمائي،
لغة
سينمائية ثرية بدلالاتها وجمالياتها... رغم اختلافنا معه حول الطريقة التي
عالج بها
موضوع الوجود السوري في لبنان.
والحق أن فيلم (مرة أخرى) يقدم البرهان العملي
على الفارق الإبداعي والتقني بين لغة السينما كما قدمها، وبين
لغة التلفزيون كما
رأيناها في (الليل الطويل) وأعتقد أن الفيلمين يستحقان أن يؤخذا كنموذجين
لإظهار
هذه الفروق، أو تلمسها على أرض الواقع لمن يجهلها بعيداً عن الادعاء
والصراخ!
والحديث عن فيلم (مرة أخرى) لجود سعيد، يقودنا للحديث عن مشاركة شركة
سورية الدولية الخاصة في إنتاج هذا الفيلم كما قرأنا في 'تيتراته'، ولطرح
تساؤلات
ما إذا كانت المشاركة في الإنتاج مع القطاع السينمائي العام،
قائمة على أسس معينة
يمكن استثمار آفاقها في المستقبل، أم تمت وفق مبادرات وعلاقات شخصية دفعت
بشركة
الإنتاج التلفزيوني الأكثر حضوراً على ساحة الإنتاج الدرامي السوري اليوم،
لمساعدة
المؤسسة في استكمال إنجازها الهام هذا ومدها بسيولة نقدية، للحاق بعرضه في
مهرجان
دمشق السينمائي الذي كان على الأبواب حينها...
وأيا كان الجواب وهل ستتحول
الحالة إلى هاجس لدى شركات أخرى... فالمبادرة تستحق الثناء،
وهي دليل على تنامي
اهتمام شركات الإنتاج التلفزيوني الخاص في سورية بارتياد آفاق الإنتاج
السينمائي
بشكل من الأشكال!
وبخلاف فيلم (مرة أخرى) لا يمكننا الوقوف طويلا عند إنتاج
المؤسسة العامة للسينما الآخر، المتمثل في فيلم (بوابة الجنة) للكاتب حسن
سامي يوسف
والمخرج ماهر كدون والذي عرض في مهرجان دمشق السينمائي 2009
أيضاً، إلا باعتباره
عملا مخيباً للآمال عن القضية الفلسطينية التي طالما قدمت السينما السورية
والدراما
السورية عنها، أهم الأعمال والإنجازات!
سينما قادمة من رحم
التلفزيون!
وبالعودة إلى التساؤلات الأساسية التي طرحناها في المقدمة حول
انتعاش الآمال ببروز إنتاج سينمائي سوري كما يبشر بعض المستفيدين من فرص
التمويل
والإنتاج الخارجي... فإن من الواضح اليوم أن هذا الإنتاج إن
تحقق، فسيكون حصيلة
النجاح التجاري والفني للدراما التلفزيونية السورية، وسيأتي بالتالي
محكوماً
بطموحاتها ولغتها وآفاقها.. كما أن السينما السورية المقبلة هذه ستستفيد من
نجومية
ممثلي التلفزيون التي حققوها في المسلسلات.. في حين كان التلفزيون على
الدوام
يستفيد من نجومية فناني السينما!
وبعيداً عن هذا التفصيل العابر... فقد كان
مخرجو السينما السورية في ثمانينيات القرن العشرين، ينظرون
للتلفزيون نظرة دونية
فيها الكثير من الازدراء والاستعلاء... وكان يعيّرون زملاءهم من الذين
جاءوا إلى
التلفزيون من السينما كي يجدوا فرصة عمل، بتنازلاتهم الفنية، ويعتبرونهم
درجة أقل
منهم إبداعاً والتزاماً ومكانة ثقافية!
وبعد سنوات من الانتشار الذي حققته
الدراما التلفزيونية السورية... انقلبت الصورة تماماً، ومع
حالة الهوس بالاهتمام
بما تقدمه هذه الدراما وإقامة المهرجانات لها، ورصد الميزانيات الكبرى
لتكريم
نجومها عربياً، وعرض أعمالها في أهم المحطات... ناهيك عن تطور التقنيات
المستخدمة
فيها، لم يعد العمل التلفزيوني بحاجة لشهادة حسن سلوك من
السينمائيين المترفعين...
فقد اشتد وقوي عوده، في حين أن السينما قد ضعفت وانحسرت مساحتها بعد أن
هزمت كمشروع
ثقافي في ظل التبدلات التي طرأت على حال الثقافة العربية عموماً!
وفي ظل هذا
الوضع، صار بعض العاملين في مجال الدراما التلفزيونية يطمحون للعمل في
السينما أملا
في زيادة رصيدهم وتنويع أشكال إنتاجهم واستثمار شكل حضورهم في السوق، لا
لكي يقدموا
سينما حقيقية... بل ليقدموا شكلا من أشكال الفيلم التلفزيوني
المطور، والمصور
بتقنيات تلفزيونية وبسوية فنية مثالية بشروط الإنتاج التلفزيوني، لكنها
عادية جداً
بشروط الإنتاج السينمائي.
وهكذا فإذا استطاعت شركات القطاع الخاص التلفزيوني في
سورية، أن تسهم في إعادة إحياء السينما السورية، فإنها لن تستطيع أن تقدم
أكثر من
محاولات لتقريب المسافة بين السينما والتلفزيون التي ثبت فشلها
في مجال صناعة
المسلسل التلفزيوني، ويمكن أن نلمس أثرها بشكل أوضح في مجال الفيلم المحدود
في مدته
الزمنية، والبعيد عن مؤثرات المط والتطويل والحشو، والأكثر حرية في اختيار
موضوعه
وشكل معالجته!
وسيكون الامتحان الحقيقي لهذه السينما المزعومة إن حققت الكم
المأمول، أن تعتمد أولا على خبرات مؤهلة أو مواهب تعرف كيف تصنع سينما،
ولها باع
ونجاحات وتجارب وتفكر بعقل سينمائي... لا أن تبقى رهينة الرؤية
والذائقة
التلفزيونية، وسيكون عليها وهذا هو الأهم أن تصمد في صالات العرض السينمائي
إن قدمت
ما تنتج للجمهور السوري، وأن تحيي هذه الصالات وتستعيد طقس حضور السينما
ودهشة وألق
الفيلم السينمائي الأصيل المنبت، وليس أن تشارك في مهرجان هنا
وهناك بعلاقات
شخصية... أو تباع كعرض أول لمحطات فضائية مشفرة أو غير مشفرة!
ناقد فني من
سورية
mansoursham@hotmail.com
القدس العربي في
31/12/2009 |