لا معارك في جديد
المخرج الأميركي تود سولندز «الحياة في زمن الحرب»، ولا حدود للجدية في
فيلم
مواطنيه الأخوين جويل وإيثان كوين «رجل رزين»، مع أن العملين يجتمعان على
مقاربة
مشتركة، عمادها شخصية اليهودي الذي يعيش عزلاته وكبواته
الحداثية، والحصار الذي
يتعزّز دائماً بشكوكه الأزلية، وسوء الظن الذي يُعلّم سيرته ويحيطها بهالة
من
التاريخية التي تأبى أن يمسّها سواه.
تذهب الحكايتان إلى علّة اليهودي
العائلية. هذه واحدة من حصاناته التي لن تنقلب مسلّماتها، أو
تمسّها نيران التغيير،
حتى لو شاع هذا بين طبقات مجتمع يتعجّل الانقلابات الكبرى، كالمجتمع
الاميركي.
البطل اليافع بيلي (كريس ماركويت) هو الصنو
الدرامي لبطل فيلم الأخوين كوين لاري
غوبنك (مايكل شتوهلبيرغ). الآخرون جميعهم يدورون في فلكيهما.
هما الإرادتان اللتان
تقع عليهما أوزار الآخرين ورزاياهم. كلّما كشفا عن عنادهما العائلي، تسقط
إحدى
الشخصيات من حولهما. ذلك أنهما قيمتا أزمان لا تتحرّك، وقناعات لا تتزحزح.
يقف بيلي
حائراً أمام حاجة والدته المتعاظمة إلى الارتباط برجل ما.
وحدتها الذاتية شبيهة
تماما بنظيرتها التي تلفّ صغيرها وأيامه وصداقاته الفاشلة. وعندما تحصل على
أمل
الحب مع رجل يقارب الستين من عمره، يسقط بيلي في امتحان قبوله كأب بديل،
ويقع سوء
الفهم قاسياً على العائلة الصغيرة، عندما تُشدّد الأم على تحصين ابنها من
التحرّش
الجنسي (ذنب الأب الاصلي) وتنصحه بالصراخ عالياً، وهو الفعل الذي يمارسه
عندما
يضمّه الأب البديل كتعاطف مع حالة ضياعه ومحنته في عزلته. وما
إن ينطلق عويله في
الغرفة الموصدة الباب، حتى تقرّر الأم أن هذا الوافد غير آهل لثقتها،
وتنهار
علاقتها بالزوج الموعود، الذي يلملم أغراضه على عجل، ويقرّر الهجرة إلى
إسرائيل،
بحثاً عن غفران ناقص.
انهيار
في حالة بطل الأخوين كوين، يكون إعلان زوجته
الانفصال عنه والارتباط بصديق عمره بمثابة الشرخ الحاسم في
اعتباراته الأخلاقية.
فهذا الأكاديمي اللامع الوقور يواجه انهياراً مدوياً للصلابة التي كان
يعتقد أنه
جُبل عليها. وبدلاً من هذا، يرى لاري أن الحقبة التي يعيش في كنفها، وهي
ستينيات
القرن الماضي المفعمة بهدم الثورات الوافدة من أوروبا (الحركة
الطالبية في فرنسا
تحديداً) تخترق عوالمه كحتم قدري لا بد منه. تُرى، مَن الذي يسعف البطل في
محنة
عائلته وخوفه من انفراط عقدها؟ الجواب: الحاخامون! فعلى الرجل الرزين البحث
عن
النصيحة من أفواه طواطم الدين وحكمتهم التي لن تنتهي. وهذا ما
يفسّر المقطع
الافتتاحي التاريخي، الذي نرى فيه تاجراً يهودياً وزوجته في قلب الغيتو
الأوروبي (لا يهتم الأخوان كوين في تحديده)، وهما
يتشاحنان على ادّعائه بأن حاخاماً من
الجيران ساعده في إصلاح دولاب عربته، فيما تصرّ هي على أن
الرجل مات منذ دهر، قبل
أن يقرع هذا الأخير الباب ويجالسهما كروح قديمة تدعى بالعبرانية «ديبوك».
وأمام
سوريالية الحالة، تطعن السيدة الرجل في قلبه، لينزل دمه ويتركه خلفة خيطاً
من
الغموض، بعد أن يخرج من الباب إلى العاصفة الثلجية. فهل هو روح
هائمة، أم تماثل مع
الشهادات المتداخلة الأزمان لليهودي التائه؟
يضمن مشاهد هذه الفقرة الغامضة
المعاني قناعته بأن التاريخ كفيل بأن يدفع الأبطال إلى
الاختفاء من دون تفسير جبري.
لكنه (أي التاريخ) يعيدهم إلى واجهة الميثولوجيا الدينية، كلسان يربط بين
الحقب
والكائنات الساعية إلى فك العُقد العصية في حياتها، وهي الثيمة التالية
التي نقع
عليها في عوالم مانسوتا 1967 وعائلة أستاذ الفيزياء، التي تعيش
انحدارها وتفكّكها
من دون أن يلامس البطل جروحها. فالابن البكر لا ينفكّ عن تدخين الماريجوانا
وهو
مكبّل بمخاوفه من أذى جسدي، يعتزم ابن الجيران وزميله في المدرسة اليهودية
تحقيقة
ذات يوم عقاباً لأمر غير مفهوم. فيما تكون الابنة شعاراً للملل
والمناكدة في بيت
مأهول بالفشل، في حين ينام آرثر شقيق لاري، الذي يعاني مشاكل عقلية نتيجة
عبقريته
في الرياضيات، على الأريكة، ما يثير حفيظة الزوجة الساعية إلى الطلاق. لا
يجد بطل
صاحبي «لا موطن للرجال العجائز» و«فارغو» سوى قرع أبواب، الدين كي يطمئن
إلى قرار
حاسم ومعزّز بالولاء للكومونة الاجتماعية، التي يجب عدم خيانة
أعرافها، بل الخضوع
المطلق لقوانينها. وأمام الأبواب المتتالية، يصادف لاري امتناعاً وصداً
واستنكافاً،
إذ إن الطلاق واشكالاته الدينية غير محبّذ الكلام عنهما، أو التساجل في
أمورهما.
يقف لاري وحيداً كبطل سولندز اليافع، الذي يشهد انكفاء عمتيه الواحدة تلو
الأخرى.
فإحداهن تعيش حياتين مع زوج لا ينفك عن
إظهار بلواه، وعشيق سابق مصرّ على مطاردتها
وإقناعها بعنفوانه الجنسي. أما هيلين الموسيقية، فتصاب بلعنة
مطاردة عشّاقها
السابقين، الذين انتحروا تباعاً، وهي نموذج للبراءة المجروحة برقّتها.
الحسم
الحاسم لدى مخرج «الحكّاء» (2001) و«بيلانــدروميــــــس»
(«المعكوسات»، 2004)
كامنُ في أن بطله بيلي لا يرتكب حماقات إزاء العالم المنهار من حوله، بل
يطلق أسئلة
جارحة حول حياته وحيوات المارّين في أيامه. يسعى إلى إعادة رسم
أطياف الآخرين،
وصولاً إلى المعنى العام لقيم، مثل الصداقة والحب والرغبة والإيمان والدين.
لذا،
يركّب أحلامه على أساس ذكائه كابن يهودي، ونراه في عزلة اختيارية تُبعده عن
ضرر
إساءات الظن وإهانتها. هو معني بكرامته التي يتنازل عنها عندما
يقدّم اعتذاره إلى
الرجل الذي عوّلت عليه أمّه أن يكون «أباً جديداً ونظيف السريرة» له
ولشقيقه
الأصغر، وكبديل عن الأب الحقيقي، الذي سُجن بسبب مرضه الجنسي، والعائد (بعد
إطلاق
سراحه) كي يعيد شيئاً من تأهيل علاقته بنجله. أما لاري
الفيزيائي، فعاجز عن إيجاد
أجوبة كافية للخراب الذي حلّ به وأهله. بدا أن العقلنة التي يُدرِّس بها
القوانين
الوضعية لا تصلح لتبرير «خياناتهم» إزاء تفانيه وحرصه على سمعته كرجل وقور.
وبما أن
الجواب يظلّ قاصراً، يقرّر الأكاديمي الهرب نحو جغرافيا أخرى،
بعيدا عن استحقاقات
القانون الذي طالبه بالنأي عن الزوجة الحرّونة، فينام هو وشقيقه في فندق
رخيص. هذه
أول التنازلات الشخصية، التي يتبعها بالزلّة الكبرى، عندما سعى الى استمالة
الجارة
الشهوانية من دون أن يفلح في تحقيق المواقعة الكاملة. فلاري هو
أيضاً، كابن يهودي،
عليه أن يُبقي يديه وسمعته ناصعتين كما ذلك الـ «ديبوك» الممنوع من دخول
جحيم
الخطايا، والمحسوب على جسد آخر. ما إن يتحقّق الغفران، حتى يستعيد كيانه
كاملاً،
وهو ما يتحقّق للاري عندما يرفض دولارات رشوة الطالب الآسيوي
الساعي إلى ضمان
نجاحه، ولاحقاً موت العشيق بحادث سيارة واعتذار أم اولاده، وأخيراً اكتمال
الحفل
الديني «بار متسفا» الخاص ببلوغ ابنه الثالثة عشرة من عمره.
يبثّ «الحياة في
زمن الحرب» الروح في شخصيات عمل سولندز الأخّاذ «سعادة» (1998)، بمقاربته
أخوات
تتشظّى علاقاتهن وتتفكّك قناعاتهن، فيما يصبحن في جديده عمّات تابعات لظرف
بيلي، من
دون أن يربط حكاياتهن به مباشرة. إن ذكاء نص سولندز كامنٌ في
هيمنة اضطراب البطل
اليافع على الجميع. إنه «ديبوك» ملوّث بآثامهم، وهو ضحية انكساراتهم. ولعلّ
أبلغ
مثال على هذه النقطة، مشهد الأخت الصغرى هيلين وهي تسير في مناماتها وسط
شوارع
ميامي المظلمة، كتورية على كونها كينونة لا تتمكن من لملمة
عواطفها وكربها الذي
سبّبه لها أموات تركوها مع أرواحهم وربطوها بأشباحهم.
يبقى نص الأخوين كوين
التهكّمي فيصلاً في فيلموغرافيتهما. ذلك أنه يرتكز على الكوميديا السوداء،
التي طغت
على نصوصهما مثل «تربية أريزونا» (1987) و«قاتلو السيدة» (2004) و«احرق بعد
القراءة» (2008)، ويحرّكها بمستويات تربط اليومي ومشاغله
بالديني واشتراطاته. بيد
أن «رجل رزين» يبقى الأقوى بينها، والأشدّ تماسكاً، على الرغم من سرديته
التقليدية
التي تُكسَر بمشهد الإعصار، الذي يؤشّر إلى التغيير الكاسح المقبل في حياة
عائلة
تتمسّك باستسلافها العبري بجدّ حقيقي.
)لندن(
السفير اللبنانية في
03/12/2009 |