تمرّ أيام «مهرجان
السينما الأوروبية» بشكل طبيعي. مشاهدون يتوافدون بأعداد لا بأس بها إلى
صالتي
سينما «متروبوليس/ أمبير صوفيل» في الأشرفية، حيث تُقام الدورة السادسة
عشرة
المنتهية مساء الأحد المقبل. هناك أفلام نجحت في أن تملأ
الصالة كلّها تقريباً. أو
الصالتين معاً أحياناً. هناك أفلام عُرضت بنسخ «بيتكام». هناك أفلام لم
تُترجم إلى
الفرنسية أو الإنكليزية. الباحة الخارجية للصالتين امتلأت بالمهتمّين
بالنتاج
السينمائي الأوروبي. نفدت بطاقات حفلتي فيلم «نبي» للفرنسي جاك
أوديار مثلاً قبل
موعدهما، على الرغم من أن عروضه التجارية اللبنانية تنطلق في العاشر من
الشهر
الجاري. انتظر المهتمّون لقاء الممثل الجزائري الأصل طهار رحيم، لكن زيارته
بيروت
تأجّلت أياماً عدّة بسبب إصابته بعارض صحي. المخرجان الفلسطيني
إيليا سليمان (الزمن
الباقي) والبولندي كشيشتوف زانوسّي (وقلب دافئ) شاركا في تقديم فيلميهما.
سيرة
وتاريخ
بانتظار إطلاق العروض التجارية المحلية لـ «الزمن الباقي» في السابع
عشر
من كانون الأول الجاري، يُمكن القول، باختصار شديد، إن هذا الفيلم الأخير
لإيليا
سليمان شكّل إضافة نوعية على مساره السينمائي. اختياره محطّات
تاريخية محدّدة لم
يمنعه من استكمال مشروعه السينمائي وتطوير أسلوبه المعتاد في تشكيل فصول
أفلامه.
ارتكازه على سِيَر ذاتية واختبارات خاصّة
به وبأقاربه، سعي دؤوب إلى فهم الحالة
الفردية الصرفة، في إطار شموليتها الإنسانية. توغّله في يوميات
العيش الفلسطيني في
بقع فلسطينية وإسرائيلية معاً، لم تجعل سينماه فلسطينية بحتة، باللغة
العقائدية
المتداولة. بهذا، خرج من القمقم الضيّق للمصطلحات المناطقية/ الجغرافية،
إلى عالم
أرحب. عاد إلى ما قبل النكبة، وسار في خط أفقي لبلوغ الراهن.
لكنه غاص عمودياً في
القصص الشعبية اليومية لأناس عاديين وبسطاء ومقهورين ومتألمين وراغبين في
الحياة.
يهزأ من الذات والآخر معاً. فالهزء أداة
لإخراج الوجع إلى العلن. اختار صالح بكري
لتأدية دور والده فؤاد. يُمكن القول إن الأداء رفيع المستوى،
وإن بكري خطا خطوة
إضافية إلى الأمام في المجال التمثيلي، بعد «زيارة الفرقة الموسيقية»
لعيران كورين
و«ملح هذا البحر» لآن ماري جاسر. الممثلون غير المحترفين أو اللاممثلون
قدّموا
أدواراً لافتة للانتباه. بدوا أوفياء للشخصيات المطلوب منهم
تأديتها. انسجموا مع
الحكاية السينمائية، المستلّة أصلاً من وقائع عيشهم في فلسطين المحتلّة،
وفي دولة
إسرائيل. الأحداث التاريخية منسحبة على مدى ستين عاماً، بدءاً من نكبة
العام 1948.
اختار مخرج «سجل اختفاء» و«يد إلهية»،
الفيلمين الروائيين السابقين على «الزمن
الباقي» (يُمكن اعتبار هذه الأفلام بمثابة ثلاثية سينمائية
متكاملة إلى حدّ بعيد)،
وقائع حسّية لبناء عالمه السينمائي. استعان بيوميات والده
ورسائل والدته الموجّهة،
في أوقات مختلفة، إلى أقاربها في عمّان. التفاصيل المنتقاة مدهشة. لكن
الدهشة
الفعلية والجميلة كامنةٌ في كيفية نقلها إلى الشاشة من دون ادّعاء أو
فبركة. النكبة
وما قبلها وما بعدها. السبعينيات. تليها الثمانينيات وما بعدها
بقليل. وصولاً إلى
الآنيّ. ظهور إيليا سليمان شخصياً في مفتتح الفيلم دلالة على أن المخرج
والكاتب
والمثقف والفنان والإنسان حاضرٌ بكلّيته في عمله الجديد، على غرار ما فعله
سابقاً.
لكن اختفاءه ضروريّ لأن أحداثاً عدّة جرت
قبل ولادته، وأحداثاً عدّة جرت أثناء
يفاعته وما بعدها بقليل، وأثناء غيابه عن الناصرة لأعوام
عديدة. مع اختفائه عن
المشهد، غاب أسلوبه المعتاد في الاشتغال السينمائي إلى حدّ ما. فسرد حكايات
مستلّة
من التاريخ محتاجٌ إلى نبض سينمائي آخر. ومع ظهوره، استعاد المخرج طريقته
الصامتة
في التعبير عن أفعال وحالات وانفعالات. الأسلوب السينمائي
لإيليا سليمان، الذي
اعتاد محبّو نتاجه مشاهدتها في أفلامه السابقة (الطويلة والقصيرة معاً)،
مستمرّ في
تفعيل نغم مختلف في السينما العربية. هذا الأسلوب مرتكز على متواليات تروي
وقائع
وتدفع المُشاهدين إلى تخيّل ما سيحدث، أو ما يُمكن أن يحدث.
لكن، لا شيء متوقّعا أو
معروفا. لا شيء مُعلنا مسبقاً. هناك كسر للنمط التقليدي في سرد الحكاية.
وهناك عالم
جميل ومفتوح على احتمالات شتّى في ابتكار أنماط اشتغال بصري لم تعرفها
السينما
العربية إلاّ لماماً.
كشيشتوف زانوسّي مختلف تماماً. «وقلب دافئ» محاولة
كوميدية لقول فعل إنساني، أو محاولة ترفيهية في إنجاز عمل، شكله بسيط
ومضمونه عميق.
ارتكز الشكل على تبسيط في المخيّلة. السرد
عادي. الحكاية واقعية، لكن امتداداتها
الدرامية والإنسانية مفتعلة. الأداء لا يثير دهشة ولا يدعو
المتلقّي إلى متعة
مغايرة لبعض الضحك إزاء مشاهد أو لقطات أو وقائع. أما القصّة فبسيطة وعادية
ومكرّرة: ثري مصاب بعلة في القلب، وشاب يبغي الانتحار خلاصاً من آلامه
الذاتية.
يبحث الأول عن قلب جديد، ويبحث الثاني عن وسيلة تخرجه من جحيمه. يُدرك
الأول أن
الثاني مقبلٌ على الموت. أنه راغبٌ فيه. أنه منزعج. سعى إليه. هو بحاجة إلى
قلبه.
يُفترض بالعاملين لديه مساعدته. يُطاردون الشاب. يعثرون عليه. لكن اللعنة
حاضرة:
هذا شاب مبارك. الموت لا يريده. محاولاته
كلّها للانتحار فاشلة. قدره استعادة
حبيبته. قدر حبيبته لقاؤه مجدّداً. قدر الثري العيش. الصدفة تلعب دوراً.
أثناء
العمل على تحقيق أمنية الشاب في الانتحار، يُقتل أحد مساعدي الثري. يُصبح
القلب
جاهزاً. ينجو الثري. يكسب الشاب حياته. يستعيد حبيبته. تسير
الأمور على خير ما
يُرام. أو ربما.
القاع
هذه السعادة كلّها غير موجودة في «حوض الأسماك»
للإنكليزية أندريا أرنولد (يُعرض ثانية العاشرة والنصف ليل غد الجمعة في
الصالة
الثانية). الفيلم مرآة لما يُمكن اعتباره قاع المدينة. الفقر والألم
والتمزّق
والعلاقات الضائعة والحب المنقوص، أمور يومية في الحياة
الخاصّة بسكّان الضواحي.
العنف أيضاً. ابنة الأعوام الخمسة عشر ضائعة. والدتها محبطة، لكن علاقتها
بشاب
متزوّج شبه ناجحة. أو ربما هو وهم النجاح. شقيقتها الصغيرة مراقِبَة حادّة
لما يجري
حولها. السؤال الجوهري: ماذا يعني قاع المدينة؟ الجواب: أشبة بحوض الأسماك.
هذا
تنظير. لعلّ آخرين يرون متاهات متفرّقة. الفتاة اليافعة باحثة
جادّة عن خلاص. تقترب
من عشيق والدتها، كأنها تبغي الانتقام منها. كأنها تريد شيئاً جسدياً
وروحياً لها.
التوليف المعتمد ناجحٌ في سرد الحكاية.
العنف مبطّن. هذه إحدى ركائز السينما
الجميلة. العلاقات مبتورة. أو غير ناضجة. هناك الرقص أيضاً.
ابنة الأعوام الخمسة
عشر نفسها وجدت في الرقص ملاذاً. لكن المحيط سجن قاتل. العلاقة المشوّهة
بالعشيق
قاسية. التمزّق عنيف، تماماً كما انكشافه على الشاشة الكبيرة وفي الحياة.
هذه بعض
التفاصيل. الفيلم متكامل في اجتماع ركائزه الأساسية: الكتابة،
المعالجة، التمثيل،
التوليف. رسم الشخصيات أيضاً. التوغّل الدرامي في أعماق الشخصيات والمجتمع
والبيئة.
القسوة حاضرةٌ في الفيلم الفرنسي «ستيلا» لسيلفي فيرهايدي (يُعرض
ثانية الخامسة
والنصف بعد ظهر غد الجمعة في الصالة الثانية). الفتاة ستيلا عينان مراقبتان
بحدّة
تداعيات الحالات الإنسانية المحيطة بها. أو ربما الانهيارات. أو ربما
الانكسارات.
أو ربما التمزّقات. والداها في حالة
انفصال. الملهى الليلي مكانها الدائم، لأن
المسكن يعلوه. دراستها عادية. ليست من المتفوّقين. صديقاتها
قليلات. وحدتها واضحة.
زبائن الملهى يعرفونها جيّداً. بعضهم يحبّها، فتتقرّب إليه. بعضها يرغب
فيها
جنسياً، فتنفر منه. الانفصال بين الوالدين حاصلٌ. اصطدمت بخيانة الأم.
لكنها أشفقت
عليها عند رؤيتها باكية. الفتاة نفسها تعاني جحيم القاع. هناك الانتقال
اليومي بين
ما يشبه الريف (ضواحي العاصمة الفرنسية) والمدينة (باريس). ذلك
أن الملهى في
الضاحية والمدرسة في المدينة. اصطدام فعلي، أثّر في سلوكها والحياة. التباس
علاقة
الوالدين بها إضافة سيــئة على التأثيــر المذكور. لكنها تصمد طويلاً.
كلاكيت
إنه محمد
دكروب
نديم
جرجوره
لا أذكر اللحظة الأولى
التي التقيته فيها. لكنّي مدركٌ تماماً أنها لحظة جميلة لا تُنسى. كانت
الحرب
الأهلية مندلعة. الطرقات مغلقة. المدينة ممزّقة. وكان الهوس بالخروج على
القبيلة
العائلية مفتاحاً لاختراق معابر نابتة كالجدران السميكة بين
مدينتين. شارع الحمرا
أولاً، ومنه إلى مقاهي «بيروت الغربية» وصحفها ومجلاّتها ومكتباتها
ومؤسّساتها
الثقافية وناسها المختلفين. وكان هو حاضرٌ. في نصّ يكتبه. في تحرير يصنعه
لمجلة أو
كتاب. في كتب يجعلها مرايا الذاكرة والاختبارات. في مقاربات تجعل القارئ
المهتمّ
أكثر وعياً وأقلّ عصبيّة.
«جذور السنديانة الحمراء» عنوان يليق به. فهو، في
نصوصه واشتغالاته ونبشه التاريخ وسرده الحكايات، أشبه بعمارة شاهقة من
المعرفة
والعطاء والنبض الحيّ. وهو، بانفلاش ثقافته على محيط أكبر من
أن يستوعب اجتهاداته،
إضاءة سليمة لمنقلبين على مساحات ضيّقة من التقوقع داخل زقاق أو طائفة.
يومها،
أثناء اندلاع الحرب الأهلية في الأمكنة كلّها ببراعة الميليشياويين
والطائفيين في
إشعال النار وتحقيق الخراب، بدا الرجل مكافحاً من أجل صفاء لغة رافضة
الانزلاق في
صراعات مذهبية دموية. يومها، جعلني الرجل، بكتبه الزاخرة حبّاً بالكلمة،
أدرك أن
مكاناً ما محفوظٌ للمتمرّدين على جنون الموت وأمراء الطوائف.
وإن كان المكان
صغيراً. يومها، دفعني الرجل، بنصوصه المفتوحة على الحياة، إلى اختبار
المعنى الجميل
لمقارعة أبطال الأزقّة الضيّقة بناسها المنسحقين أمام زعيم طائفي محلي.
مرّت
الأعوام. توقّفت آلة القتل المباشر عن العمل. ظنّ الناس أن سلماً أهلياً
بدأ. لكنها
الحرب في شكل آخر. وهو، إذ ثابر على الاشتغال الحرفي في شؤون الثقافة
كلّها، ازداد
حماسة للكلمة، جاعلاً أفراداً مثلي يخجلون من قوة شبابه
الدائم. وهو، إذ بات
تاريخاً بحدّ ذاته، منح الكتابة زخماً لا يُضاهى. دقيق في متابعاته
المتفرّقة.
حساسيته إزاء التجارب الشابّة جميلة.
مرافقٌ لا يتعب لمن يناضل من أجل المعرفة.
يقرأ لكثيرين، من دون أن يأبه بأعمارهم أو التزاماتهم التي قد تكون نقيضاً
لارتباطاته الثقافية والسياسية. يُعلّق. ينتقد. لأن همّه الأول إشباع الذات
بمزيد
من المعرفة، وتحريض الآخر على ملاحقة الجديد والمفيد، من دون
أن يقطع مع الذاكرة.
ينقّب في الماضي عن أسماء وحالات أنارت الجغرافيا العربية بإبداع سجالي.
يبحث في
الراهن عن شبيه لها. وبهذا كلّه، يريد تحصين مناخ حواري سليم، وإن وسط
الحرائق
المدوّية في فضاء البلد وامتداده العربي المنقبض على الدمار
والفراغ.
روّاد
حداثة وأقطاب فكر وذكريات نابضة و«وجوه لا تموت». أعلام فن وأدب. هذه
مفاتيح تُقدّم
بعض اشتغاله منذ أكثر من نصف قرن في شؤون الثقافة والسياسة. هذه نوافذ
قادرة على
منح المهتمّ حصانة علم وابتكار. هذه دروبٌ مؤدّية إلى تحريض
العقل على التفكير،
والانفعال على التفلّت من قيد العزلة.
إنه محمد دكروب. لا داعي لقول المزيد.
السفير اللبنانية في
03/12/2009
كتــاب
فجـر يعقــوب: «فوضى
الخيال»
في إطار اهتماماته
النقدية في شؤون سينمائية متفرّقة، ترجم الزميل فجر يعقوب مؤخّراً عدداً من
الحوارات التي أجريت مع المخرج الألماني الراحل راينر فيرنر فاسبيندر،
وأصدرها في
كتاب مستقلّ عن «منشورات وزارة الثقافة ـ المؤسّسة العامّة
للسينما» في دمشق.
وفاسبيندر، بالنسبة إلى يعقوب، «مفاجأة تقبع خلف المفاجآت»، كما أشار في
مقدّمته،
مضيفاً أن «كل فيلم هو إعادة اكتشاف له ولهؤلاء الذين تتبعوا حياته
الإبداعية
القلقة، مقارنة بطريق هيرتزوغ وشلوندورف وفاندرز».
ذلك أن الألماني الراحل
باكراً في العاشر من تموز 1982 عن ستة وثلاثين عاماً فقط،
«أعاد المجد العالمي
للسينما الألمانية، التي لم تتذكّر شيئاً من هذا القبيل منذ مرحلة السينما
الانطباعية (سينما فايني وشتيرنبيرغ) في العقد الثالث من عشرينيات القرن
الفائت».
وفي الحوارات المتفرّقة المنشورة في هذا الكتاب، يتابع القارئ مجموعة من
الأفكار
والآراء والسجالات التي خاضها فاسبيندر، بالإضافة إلى «هلوساته» البديعة
وانتفاضاته
الدائمة ضد النظام الثقافي المعمول به في ألمانيا. وهي تنطلق
من لحظة تعلّمه
الإخراج السينمائي، وصولاً إلى «ألمانيا في الخريف»، ومروراً بشتّى أنواع
التحاليل
والتعابير.
السفير اللبنانية في
03/12/2009 |