|
بين مفهوم (الجمهور عايز كده) المُروَّج له ـ ضمنياً ـ عبر شركات متاجرة في
مجال الإنتاج السينمائي السعودي، وبين تجارب هواة متحمسون ـ عديموا الأهلية
الفنية أوالخبرة العملية والعلمية ـ بدت مفارقة تحقيق الأفلام السعودية
طاغية في إنتحائها نحو موضوعات وأساليب بعيدة كل البعد عن الملامسة الفنية
الواعية للحياة السعودية، ((تجاوزاً نطلق صفة أفلام))، وغدت نائية عن ما
يمور به الواقع من حراك وتفصيلات من شأنها أن تشكل طروحات سينمائية ثرية
تماهي متعة الفن وتجذب إهتمام الجماهير، ناهيك عن المساهمة في تشكيل ثقافة
شعبية حتى إن كانت على مستوى نطاق إقليمي ضيّق، لا سيما والوسيلة لم يألفها
المجتمع ولا يزال متردداً في قبولها أو دعمها، بل ومتناقضاً ومختلفاً حول
أهميتها ومرتبكاً في تحليلها ـ دينياً ـ أو تحريمها.
ومن يراقب الأخبار والتقارير الصحفية ويشاهد الأعمال الروائية الطويلة
الثلاث أو الإسكتشات التلفزيونية المنتحلة صفة أفلام سينمائية: (كيف الحال،
صباح الليل، مناح) والمنتجة من قبل شركات كبرى، آخذة في الظهور بزخم إعلامي
واسع يكرّس بشكل حاد زج ذائقة المتفرج وإيهامه بأن ما يتم إنتاجه وعرضه هو
الفن المؤكد والمساير لرغباته، والمتماشي مع الخصوصية الإجتماعية والدينية
والفنية له، وأن هذه الأفلام تتناول وتعكس همومه ومتطلباته، ولهذا هي تستمد
ضمانات نجاحها من ما تم عرضه في التلفزيون.
وإن كان الحال كذلك فشركات الإنتاج تعلم، أو ربما لا تريد أن تعلم وتتجاهل
أنها نائية عن إنتاج أعمال سينمائية مرموقة وفق آلية إحترافية محكمة،
وتتناسى، بالضرورة، أن خديعة (الجمهور عايز كده) فكرة واهية إستخدمتها بعض
السينمات الشعبية العربية في عقود سابقة بهدف حلب جيوب السواد العريض من
الجماهير، ومن أنها أيضاً منتهية الى سقوط كبير ومفضية الى تسطيح ثقافي
مدوٍ.
سعودة أول
إسكتش عربي
المفارقة (السينماثقافية) بدت واضحة وآخذة في فرد سطوة حضورها وتشكيلها
للملامح الأولى للسينما التجارية.. بدأت تُنضم حبّات عقدها في خريف 2006،
مع عيد الفطر تحديداً، حيث ضجت الآلة الإعلامية بالترويج لعرض أول فيلم
سعودي روائي طويل بعنوان "كيف الحال"، مصحوباً ببروبغندا مدفوعة لعرضه في
إحدى الفضائيات. وعشية تَهيُئ الجماهير وإمتناعهم عن التنزه ليلة العيد،
وقت العرض بغرض مشاهدة الفيلم، بإعتباره الجزء الأهم من الإحتفال بالعيد
كما رُوّج له.. أستوعب المشاهدون المغرر بهم صدمتهم بعد إنتهاء الفيلم
بحقيقة أن ما شاهدوه مجرد (إسكتش) أو تمثيلية لطيفة وعابرة، لا تبتعد
كثيراً عن شكلانية السهرة التلفزيونية المفتقدة بطبيعتها للغة السينمائية
الحقيقية، وزاد في إرباك المشاهدين عدم أصالة سعودية الفيلم لركونه الى
ممثلين (فقط) من السعودية (سامي خالد، هشام عبدالرحمن، مشعل العنزي) وبقية
الممثلين وفريق التقنية توليفته عربية عجيبة تلتقي لأول مرة: الإخراج
إيزدور مسلم "فلسطيني" مقيم بكندا، والقصة لمحمد رضا "اللبناني"، السيناريو
لبلال فضل "المصري"، وينسحب ذلك على المصورين والمونتير ومصمم الأزياء
وفنيوا الإضاءة والمكياج، ورغم ذلك تم الإصرار على زعم سعودية الفيلم، وكان
الأجدر تعريفه بأنه عمل عربي شارك به ثلاثة ممثلون سعوديون.. إن سيناريو
الفيلم وما ترتب عليه من إيقاع متوتر لا يمهد للدخول في عالم الفيلم،
ومدعوماً بموسيقى مصاحبة غير مدروسة درامياً، ومبثوثة بالتأكيد فقط على
الحالة المرحة التي يتلبسها الفيلم، ثم طريقة التمثيل المرتبكة والحوار
المتعدد اللهجات، بالإضافة الى آلية حركة وإلتقاطات الكاميرا (الزوايا
والأحجام والأبعاد) كلها عناصر بعيدة عن لغة السينما وزجت بالعمل في خانة
التلفزة.
وأيضاً الماكنة الإعلامية الفَرِحة بأية بارقة صابة في تأسيس سينما سعودية
إحتفت وهللت كثيراً لتجارب لاتحقق الحد الأدنى من إحساس بالسينما، ورغم
ضخامة ميزانية أعمال مثل "صباح الليل" و"مناحي" على أساس أنها أفلام
كوميدية مستندة الى قابلية جماهيرية متأتية من خلال المسلسل التلفزيوني
(بيني وبينك). إلا أن الأحساس الأقوى الذي يسيطر على المشاهد لحظة الفرجة
هو: أن مايراه ليس سوى (تمثيلية تلفزيونية) فكاهية خاطفة، معتمدة على
الأفيهات والمفارقات المتكلفة، وإن كانت عرضت في عيدي الفطر والأضحى بمدن
جدة والرياض والطائف على أنها أفلام سينمائية تجارية أو أحداث مفصلية في
الثقافة السعودية، فإن الجماهير تسائلت عن حقيقة أخرى أرادت الشركة المنتجة
تمريرها وهي السماح لوجود السينما (دور العرض)، وغاب أو تم تغييب السؤال
الأهم حول تأسيس صناعة السينما بمفهومها الواسع .
سقطة راشد
الشمراني
وهكذا فإن عرض فيلم (صباح الليل) بإنتاج وتأليف وتمثيل راشد الشمراني
(المأسوف عليه) ـ المتوهم بنجاحه نتيجة التبجيل الإعلامي ـ وإخراج مأمون
البني "السوري" صاحب المسلسل التلفزيوني مرايا مع بطله ياسر العضمة ـ
يستعرض بشكل كوميدي فانتازي ضعيف الحبكة، مدعم بديكورات وسينوغراف مفتعل
الى حد التبسيط الفج ما يبصم العمل بالهشاشة والضعف الفني.. يتناول العمل
ثلاثة حوادث مفصلية في التاريخ العربي: حادثة داحس والغبراء، وحرب البسوس،
وحادثة عمرو بن كلثوم مع عمرو بن كلاب، من خلال تدخلات شخصية "أبوهلال"
القادم من العصر الحاضر، سائق الشاحنة الشهير المتحدث بلهجة خليط بين
الحجازية والعامية البيضاء، وصفها البعض بالسوقية المغلفة بتمتمات وعبارات
مخترعة أو مقتبسة من جيوب الأزقة والحارات في قيعان المدن، في مقابل تحدث
بقية الممثلون بلهجة عربية تميل الى السورية المفصحة.
والغرابة في كل ذلك أن ممثل خبير ومتعلم بدرجة دكتوراة في الدراما النفسية
كراشد الشمراني يسقط منهجياً ومضمونياً، معتقداً أنه يحقق جاذبية جماهيرية
بإستعادة شخصية "إبي هلال" بعد مرور 23 سنة على ظهورها في سهرة تلفزيونية
بعنوان (محمود ومحيميد)، وانخراطه في فكرة الكوميدي "السوبرستار" المعتادة
في المنتج السينمائي العربي منذ إسماعيل ياسين قبل 60 سنة ودريد لحام قبل
نصف قرن وعادل إمام ومحمد هنيدي ومحمد سعد.. الخ. رغم تخلي السينما
العالمية عن هذه القولبة منذ أفلام الممثل البريطاني "نورمان ويزدام"
والأمريكي "جاك ليمون" والفرنسي "بيتر سيلرز". وعوضاً عن تحقيق الآمال
المنعقدة على الشمراني في قيادة الشبيبة الناهضة إنجرف وراء منهجية
"الجمهور عايز ـ ويعوز ـ كدا" سعياً وراء المال والشهرة وإنضواءاً وراء
شعار (نحن رواد السينما السعودي)، مبتعداً تماما عن إحساس السينما وعن
نظرية الفيلم في أبسط تطبيقاتها ليؤكد بأن ثقافة السينما بكل حمولاتها غير
متجذرة في المجتمع السعودي،.
بروبغندا
للحدث وليس للفيلم
فيلم "مناحي" حظي بالقدر الأكبر من التضخيم الإعلامي وصدّر على أنه أول
فيلم تجاري يعرض في مدينتين (71 حفلة) نظير مقابل مادي للدخول (شباك
تذاكر). فيما تكرر ما حدث في "كيف الحال" من جهة الإعتماد على كوادر عربية،
فكاتب القصة مازن طه "سوري"، والمخرج أيمن مكرم "مصري"، والبطولة لمنى واصف
"سورية" وعبدالامام عبدالله "كويتي".. وبطل الفيلم هو فايز المالكي بمشاركة
الشابة السورية دانا فرج، ويروي الفيلم قصة مناحي القروي الذي يعيش مع
والدته العجوز متمسكاً بأخلاق البيئة البدوية كالصدق والشهامة والمروءة.
ويمتلك مناحي مزرعة صغيرة لتربية الاغنام والدواجن، ويجمع مناحي من أهل
القرية مدخراتهم المالية ليدخل بها سوق الأسهم ويخسر، ثم ينقلب الحال وتربح
أسهمه فيعيد أموال القرويين.
القصة والتمثيل وأسلوب الإخراج المعتمد على حوارات لا تنقطع لحظة ومرتبطة
بموسيقى تأثيرية مصاحبة ممتدة على مدار الثانية بما يسبب ضوضاء بصرية
وسمعية لا مثيل لها في أي فيلم أنتجته البشرية على الإطلاق (ربما فقط في
فيلم "آي آي" لمحمد عوض وليلى علوي في بداية التسعينات).. كل ذلك قائم على
أسس تجارية لا تنتهج الحد الأدني من الإحترافية، رغم تصريحات القائمين على
الإنتاج على أنهم يتبعون أدق الأسس الإنتاجية، الأمر الذي يجعل المفارقة
مضحكة مبكية إذ هكذا تبدأ السينما السعودية أولى خطواتها غير متأسية بما
ينتج في دول خليجية على سبيل المثال (الإمارات، سلطنة عمان) وهي حديثة
العهد بالسينما كما هو حال السينما السعودية المزعومة. وإن كان الوضع
قائماً بهذه الحالة فهو أشد قسوة على الأسماء العربية اللامعة المتعاونة
معها من جهة زجها في أتون الوضاعة الفنية هذه بما يمثل مأزقاً تراجعياً
يفضي الى الحسرة والشعور بالخيبة.
* ناقد سينمائي
سعودي
سينماتك في 5
مارس 2009
|
