ما انفكت السينما الأمريكية عن التواصل في إنتاج المزيد من الأفلام التي
تصور الأمة الأمريكية ممتحنة بحروب وكوارث وصعاب واعتداءات شتى، سواء من
سكان الأرض بمختلف أجناسهم ومذاهبهم أو من مخلوقات الفضاء الخارجي المفترضة
والغريبة . وقد درجت العادة ان تحدث على الشاشة الكبيرة تصفية حسابات
أيدلوجية وسياسية في إطار قصص سينمائية أدمنها المشاهد وباتت نهايتها
المفبركة معروفة للجميع. ومع وفرة هذه الأفلام المبالغ فيها نكاد نجزم انها
تتشابه (إن لم نقل تتناسخ ) في تأكيدها وإعادة إنتاجها لثيمة الإرادة
الاستثنائية للأمريكيين في مواجهة أي خطر خارجي يتمثل بدول معادية أو تهديد
داخلي تمثله جماعات إرهابية أو مافيات سياسية عميلة. وتلك المعالجات
السينمائية بمجملها برعت على مدى العقود الماضية في تقديم صورة نمطية مغرية
للبطل الأمريكي. بطل أسطوري ؛معقد وسطحي في آن واحد ،تختزل صورته
السينمائية كل القراءات الممكنة في نموذج تسويقي يمكن عده في المحصلة
النهائية رمزا من رموز الثقافة الشعبية الأمريكية وجزء حيويا من
ميكانزماتها المتغيرة تبعا لمؤثرات سياسية وأخلاقية عديدة .
وإن اختلف من مخرج إلى آخر إلا ان هذا النمط من الأفلام يلتقي غالبا عند
فكرة الترويج لصورة أمريكا المعتدى عليها من قبل عدو همجي ناقم على حضارتها
ورفاهيتها. وحيث تعد الولايات المتحدة كعبة العالم الحديث ،فالأشرار كما
تراهم هوليود لابد أن يكونوا من صنف اؤلئك المختلين والحاقدين على تطور
البشرية وازدهارها في دول الغرب. وإذا ما اقتضى الصراع القائم بين
الأمريكيين وخصومهم تدخلا حاسما وأسطوريا، فان الرئيس الأمريكي نفسه لن
يتأخر عن توظيف عضلاته لمنازلة الخصم اللدود وان جرى ذلك على متن الطائرة
الرئاسية الأولى كما فعلها قبل سنوات النجم هاريسون فورد .
1- صورة
واحدة للعالم
المتابع لهذا النمط من الأفلام الأمريكية الرائجة تجاريا سيصاب لا محالة
بنوع من الدوار والامتعاض من طغيان مشاهد العنف والدم ،وستطارده كوابيس
مزعجة من وحي سيناريوهات لا تحتمل، كما ليس من المستبعد ان يشعر مع تقادم
الوقت بعقدة مزيجة من الدونية والضعف والخوف ،لا لشئ إلا لكونه غير أمريكي.
وبقدر ما يحق للأمريكيين الفخر بتاريخ أمتهم ومكانتها ونفوذها فان واقعية
الحلم الأمريكي المشفوع بأكثر الأفلام السينمائية انتشارا وتأثيرا في جمهور
المتلقين لا يسعها الاستمرار من دون الإبقاء على وجود (الآخر )،ذاك المجهول
الساعي دوما إلى سلب الأمريكيين نعم حياتهم ومصادر قوتهم ،خاصة بعد أن
رسّخت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الذهنية الأمريكية واقع الحياة
المهددة من قبل (الآخر) القريب أو البعيد على حد سواء.
اليوم هنالك فقط صورة واحدة للعالم يجري تداولها في وسائل الاتصال العالمية
بنكهات مختلفة،فيما بقية دول العالم في الغرب أو الشرق اصطفت (في أدائها
السياسي والإعلامي والشعبي) في ضفة متقاربة إزاء تلك الصورة وجعلت من
(الآخر) منبعا للشر المحض بعد ان منحته السينما الأمريكية ( قبل وبعد أحداث
سبتمبر 2001 ) ملامح وهوية متخيلة حينا وواقعية حينا آخر، لكنها بكل
الأحوال،صورة مؤثرة لن تقبل الجدل.
بشكل أو بآخر أصبحت تلك السرديات السينمائية اقرب إلى ما يصفه المفكر
"ادوارد سعيد" بـ(المُعتَمد المُكرَّس) وهو المفهوم الذي يشير إلى نمط من
التصورات والمعتقدات التي رسخت بوصفها صحيحة وموثوقة ومقدسة تاليا.من هنا
تصبح بضاعة هوليود البراقة هي العين الوحيدة الممكنة والجذابة التي سترى
الأجيال البشرية من خلالها صورة العالم الراهن في أطره المرسومة،والتي
ستزداد رسوخا ومصداقية كلما اتسعت دائرة العنف وتصاعدت وتيرة الإرهاب في
غير مكان من عالمنا هذا.
2- لا يحب
الله سوى أمريكا
إذا كان (الآخر) المصاغ بصور مختلفة في السينما الأمريكية هو ذاته عنصر
التشويق الدرامي الذي يمسك بكل خيوط الحكاية الفيلمية ويمنحها مغزاها
وتأثيرها المطلوب ،فان محاولات إبدال أطره الخارجية أمر ضروري أدركته
السينما بوقت مبكر منذ فيلم (الوصايا العشر) للمخرج سيسيل دي ميل الذي كشف
عن شغف الأمريكيين برواية الأصول التاريخية والأسطورية المنتقاة بحس
كولونيالي يواصل صيرورته في قهر الخصوم ولو في عقر دارهم.
ان صورة الفلم الأمريكي التقليدية التي تعرضت لضربات موجعة على أيدي مخرجين
سينمائيين كثر من بينهم (اوليفر ستون وفرانسيس كوبولا وترنس ماليك وديفيد
فينشر وآخرين) ما زالت حتى الآن (بل أكثر من أي وقت مضى ) مفرطة في إعلانها
عن احتقار كل ما هو غير أمريكي لأنه طارئ ومريب ومبتذل ووافد من العالم
القديم،وربما الأهم لان الله أوكل لأمريكا وحدها تحديد مصير العالم منذ
رسائل الآباء المؤسسين. وما عادت ثمة مسافة فاصلة يمكن التوقف عندها لفحص
الحقيقة في أكاذيب ارنولد شوازينيغير لأنها حقيقية ولأنه بها استطاع
التحليق من شاشات هوليود إلى سدة حكم ولاية كاليفورنيا ،وبالتأكيد بعضلات
سينمائية مُجَرِبة. وبذلك الحس الأبوي لم تنفك آلهة الكون عن رعاية بطلها
الأمريكي باعتباره بطلا للجميع ومن اجل الجميع وان اختلفت تحديات ونتائج
أسفاره. فهو وحده من يمكنه النجاة من مصيدة الموت الوشيك في اللحظة الأخيرة
(الأمريكية بامتياز) في حين تضل القذائف النووية طريقها إلى البيت الأبيض
وإن أطاحت ببعض ملاهي لاس فيغاس البراقة،فقد استجابت السماء في النهاية
لصلوات أبناء العم سام الذين يضحكون في سرهم عند استعادة تاريخ طويل زاخر
بسحر الصور الكاريكاتيرية التي تظهر خصوم أمريكا من الدب الروسي إلى
العمائم الإسلامية مرورا بالتنين الصيني،ناهيك عن مخلوقات المخرج "رولاند
ايمريش" الغرائبية الساعية لتدمير أمريكا والسيطرة على العالم.
3- وجه
آخر للصورة
مؤسسة هوليود كانت استمدت قوتها وتأثيرها من الاعتماد على مستوى تقنياتها
الفائقة ورعت بذلك أفكار السياسيين الأمريكيين،مثلما حمت بحماس قل نظيره
الذاكرة الأمريكية المفعمة بالتحديات والأمجاد من شتى ضروب التهديد . وقد
نجحت إلى حد كبير في جعل الفيلم الأمريكي دون غيره وفي حلبة منافسيه ضربا
من التذكر الأصيل يعيد صياغة الواقع على هواه إلى الحد الذي يحفز استعداد
المتلقين للتماهي مع صورة للعالم مضمخة بالغواية والانقياد والإذعان لإرادة
واحدة. لكننا نشهد اليوم بالتزامن مع اتساع حروب أمريكا ونزاعاتها العسكرية
لاسيما في العراق وأفغانستان ظهور رؤية سينمائية أخرى تعيد اكتشاف قتامة
عالمنا وبؤسه على نحو واقعي معبر يخلو من قصص البطولات الكلاسيكية ويعرض
الجراح الأمريكية خارج أطار السيطرة على الوقائع والتلاعب الماكر بها. تلك
الأفلام (وهي ليست قليلة بالطبع) ترتكز على تقاليد فنية وثقافية راسخة في
معارضة شروط الإنتاج الهوليودي والخروج على البروباغندا الإعلامية للمؤسسات
المالية الكبرى.وجدير بالذكر ان بعض هذه الأفلام السينمائية قد حملت تواقيع
مخرجين كبار اجتهدوا في تقديم رواية مغايرة للأشياء والوقائع كما في فيلم
(رَوقب) للمخرج بريان دي بالما الذي يتناول الحرب الأمريكية على
العراق،وأفلام أخرى لمخرجين أمريكيين سنتوقف عندها في مناسبات قادمة.
* ناقد سينمائي عراقي
سينماتك في 31
يناير 2009
|