المخرج روبرت التمان يمنح أوسكار خاصا
محمد عبيدو |
المخرج والمنتج والكاتب روبرت التمان منح اوسكارا خاصا اعترافا بإنجازاته طوال حياته ولتكريم حياة رجل طالما أضاف الكثير لهذا المجال وكانت أفلامه مصدر وحي للعديد من الافلام الاخرى .، وأخرج التمان/80 عاما/ 37 فيلما كتب قصة 16منهم. وعلى الرغم من ترشيح خمسة من أفلامه لنيل جائزة الاوسكار وترشيحه هو مرتين لجائزة أفضل منتج إلا أنه لم يحصل على الجائزة في حياته. منذ الستينيات ، وروبرت ألتمان يرسم صورة مختلفة لامريكا ، في الوجه الآخر ، الذي يعرفه جيداً ، ويراه بالعين المجردة ، او بعدسة الكاميرا .ان أفلام ألتمان لاتنسى بسهولة لانها تعيد الحوار والاسئلة الساخنة، واذا كان لكل مخرج اهتمامات خاصة ترتبط باسمه ، فان ألتمان يهتم بالثقافة والسياسة والصورة معاً ، في محاولته الدائبة لاكتشاف الوجه الآخر للحياة الامريكية والثقافة الامريكية بمساراتها المتعرجة. ولا تكمن قوة افلام ألتمان في صهر الاختلاف داخل بوتقة الثقافة الامريكية بل في البعث الداخلي للاصوات المتصارعة الموثوقة . هذا الاحتفال لتعددية الاصوات والاساليب انما يعني وجود الكثير من المشاهد في تاريخ امريكا ، وافلامه عن امريكا تصف ثقافة وسكان امريكا بأنها عالقة بالوحل الى قمة رأسها ، لايمنعها من الغرق سوى قوة دورانها الذاتي الدائم . عندما نصف سينما ألتمان بأنها أمريكية ، فذاك لايعني اكثر من كونها امريكية الموضوعات والمناخات ، وعدا ذلك ، ثمة قربى بين ألتمان وأوروبا توطدت عبر مهرجاناتها في شكل خاص . ضيف مدلل على مرجان « كان» منذ سنوات بعيدة السعفة الذهبية في 1970 لـ ماش وأفضل اخراج في 1992( اللاعب ) ولقي الدلال ذاته في البندقية حيث استقبل كمؤلف أوروبي ، من أهل البيت لا كوافد من قارة بعيدة لها حرفتها السينمائية المتقدمة ، روبرت ألتمان أمريكي يتعاطى السينما كما يتعاطاها الاوروبيون ، بالرهافة والحميمية نفسها، وبروحية المؤلف الذي يهمل كل مابلغته السينما من مؤثرات وتقنيات ... ويظل مهتماً بشخصياته، مركزاً على ازماتها اليومية المبتذلة والوجودية العميقة ويتجلى ذلك في العديد من افلام مثل « ناشفيل »و«عرس» و« فنسنت وثيو» و« اللاعب» و«مختصرات».. يكمن نجاح كاميرا ألتمان ، وأداة نقل رؤياه في اصراره على ايجاد الناس والكشف عنهم في علاقتهم مع بعضهم لايعني هذا ان التمان يجد رومانسية او مجتمعاً اينما ادار كاميرته أو وضعها، إن الصور الحادة ، بالفعل غالباً ما تكون في ذاكرة اللحظة المفقودة للمجتمع الحقيقي المتواصل او الدائم . نستطيع ان نقول ان ما يهم ألتمان هو الفرد، وما نتعلم من سينما ألتمان ليس في طريقة تصرف هذه الشخصية او تلك بطريقة خاصة ولكن في كيفية سلوك الناس ، ما الذي يقومون ...؟( أو ما الذي يتجنبونه..؟)، الامر الذي يقودهم الى الاعتراف بمسؤولية حياة الآخرين . ليس العالم الذي يعرضه لنا فيلم ألتمان « في ذلك اليوم البارد في المنتزه» 1969 مجرد طرح لنفسية بطل الفيلم او الروح التي تعاني من آلام مبرحة، ولكن طرح للمجتمع الذي يخطط لاحتواء التفاعلات التافهة ، والطائشة المميزة للشاب ولشقيقه ولاصدقائه للعزلة المدروسة للعانس البرجوازية. فيلم «M.A..S.H» 1970 الذي بدأ تجارب مع البنية السردية والاهتمامات في الموضوع مع الجنس الفني والقوة التي ستكون قضايا متكررة في تصويرات ألتمان. ان الحياة في «M.A.S.H» عبارة من مقامرة ، .ومن خلال عمل ألتمان فان المقامرة التي تسمح بها ضمن مجموعة من القواعد غير المنفذة والمعروفة ، وهي منطقة مجازية لاكتشاف حدود وامكانيات الاخوة في المجتمع الامريكي . لقد كان النجاح في «M.A..S.H» نوعاً من الفشل ، وكان هذا التناقض الظاهري ليخبر عن افلام ألتمان التالية . ، يدعم فيلم ألتمان « بريوسترماك كلاود» من تشابه الفكرة العامة للثقافة الامريكية على انها سيرك ، مشهد متعدد السمات استبدلت فيه القوة غير المحدودة للسحر بقوى تكنولوجية محددة ، لقد كان الفيلم تجربة متطورة كاملة ذا بنية قصصية متزامنة وسواء بسبب نموذجه المنحرف او نقده الصريح المعارض للثقافة الامريكية ، الا انه كان فشلاً تجارياً . وكمعظم أفلام ألتمان يشترك فيلم « الوداع الطويل » 1973 في الاحساس العصري الى لفت الانتباه وبتذكيرنا بشكل خاص الى العلاقات مع السينما على انها شكل ثقافي . ويعيدنا فيلم ألتمان « انقسام كاليفورنيا» 1974 الى الفوضى من مظاهرها الاكثر معاصرة ، يتابع الفيلم فحص ألتمان لحدود وامكانيات المجتمع ، مركزاً مرة أخرى ، بفارق قليل على الاساليب التي يقدم فيها الجنس الفني والوعي الطبقي ( أو غيابه) بنيات المعنى في الحياة الامريكية ، يتناول فيلم « انقسام كاليفورنيا» موضوع الزمالة ويسهب فيها حتى في حدودها الطبيعية وغير الطبيعية . يقوم الفيلم بكامله على تطور الصداقة وانقسامها بين رجلين ، شارلي وبيل ، وعندما ينفصلان في النهاية ، فذلك اشارة الى الحقيقة المطلقة التي تدل على استهلال هذا الموضوع .يؤيد الاصدقاء في افلام ألتمان علاقاتهم بالحراك المتواصل بعيداً عن المجتمع المألوف والمتطلبات التافهة للحياة اليومية ، اوبالهرب الى عالم هامشي مستقر نسبياً . اذا كان هناك فيلم هام انتج في السبعينيات فهو فيلم « ناشفيل» الذي يعبر عن رؤية ألتمان الساخرة نحو الطبيعة الامريكية التي تنفجر على نفسها دائماً . ثم قدم ألتمان فيلم « بوفالو بيل والهنود» ، وهو مثل افلام ألتمان السابقة يتعلق بمسرحة حياتنا اليومية . إن ايحاءات الفيلم بما فيها التاريخ الامريكي هو شيء واحد يشعرنا بالرعب . ويعتبر فيلم « كونيتيت» 1979 أولى محاولات ألتمان للخيال العلمي ، والمكان هنا هو أهم الدلالات الرمزية في الفيلم ، وهذا المكان يمثل مدينة مستقبلية من الزجاج والمعدن ،وملائكة عنيفة والواناً زاهية ، انه رؤية لمكان ظاهر في القرن الحادي والعشرين . التمان مخرج متمرد ، لكنه محط اعجاب غامض ، يخصه به نجوم هوليوود ، حتى ان فيلمه الجميل « اللاعب » 1992 قد استطاع ان يحشد له نجوم هوليوود الحقيقيين ككومبارس لمشهد حفل عشاء كبير ، مع انه في هذا المشهد كما في الفيلم ككل ينقد اسلوب عيش قاطني العاصمة الفنية ، وعلاقاتها الأشبه بعلاقات المافيا مختلطة بقدر من الهيستريا والخوف الجنوني على المواقع الحالية والمستقبل الغامض . ولان ألتمان يقف ضد نظام هوليوود فانه يتناول هذا الميدان في فيلمه «اللاعب تقديم الجانب الخفي والمظلم لعالم الاضواء من خلال بطله المنتج الذي يلعب دوره في الحياة كابطال افلامه حيث يتعرض للتهديد بالقتل وطرده من عمله ، ومن خلال هذا الخيط المثير يتجول بنا ألتمان الى عقل بطله والذين يسيطرون على السينما ويبيعون الافلام للناس من خلال الشاشة . كما ذكرنا فقد حشد ألتمان نجوم هوليوود في فيلم « اللاعب » ، وهو حيال هؤلاء مثل المايسترو ، يضبط الايقاع العام ، يتيقظ لأي نبرة ( شخصية أو حدث) نشاز، لسمفونية بالصور من ثلاث ساعات وبضع دقائق ، يفيد من كامل نتاجه وخبرته المديدة في اختيار الزوايا الملائمة والتنويع في حركات الكاميرا التي ترافقت هنا وطبيعة السرد القصصي ، سلسلة خفية لانكاد نستشعر وجودها خلف الحدث . وفي فيلم « مختصرات» يروي ألتمان تسع حكايات متجانسة ومتلازمة تدور بين /22/ شخصية رئيسية تنتمي الى اتجاهات ومستويات مختلفة . كمن يخلط اوراق لعب ، يخلط ألتمان حكاياته وشخصياته لكن عوض ان ينتهي الى مزيج متضارب وغير متجانس ، تسير الحكايات كلها في خطوط متوازية وسهلة ، بعض الشخصيات تلتقي وأخرى لا، إلا قليلاً وبمقدار حاجتها العاطفية وانفتاحها على العالم ، كذلك تلتقي حكايات واخرى نتيجة التقاء الشخصيات مع ذلك لاينتج عن هذا اللقاء توحيد للخطوط القصصية ولا يهدف ألتمان او يكترث لدمجها معاً حتى القمة الدرامية ، هناك زلزال يقع في ربع الساعة الاخيرة يترك تأثيرات معينة على بعض ما يدور ، لكن الزلزال - عند ألتمان- هو ما يحتاجه الناس اكثر من غيره لعل الصدفة تعيد ترتيبهم من جديد . وهو -درامياً- ليس نتاجاً داخلياً بل خارجياً لاعلاقة بينه وبين الاخطاء والخطايا التي يقوم بها الناس . ثم يقدم ألتمان فيلماً عن مهنة اخرى لاتقل عن السينما اضواء وشهرة وجادذية وهي عالم الازياء ، حيث عرض في ( ألبسة جاهزة) لتداخلات رجال ونساء هذه المهنة ومقدار الزيف والانحلال والادعاء المعشعش في خلاياهم من النجوم الذين احتشدوا لـ(ألبسة جاهزة) نذكر «صوفيا لورين ، أنوك ايميه ، مارسيللوماستروياني ، كيم ياسنجر، ستيفن رين، تيم روبنس، جوليا روبرتس، شير»... يلتقي هذا الجمع في توقيت عاصف، فهناك من جهة اسبوع لعرض ازياء اهم الدور في باريس ، ووفاة غامضة لـ«لافونتين » الرجل الذي يدير آلة الازياء الباريسية هذه ، الى درجة الاشتباه بجريمة قتل ارتكبها «ماستروياني » الخياط الايطالي الاصل والشيوعي السابق الذي هاجر الى الاتحاد السوفييتي ومن بعد الى اوروبا ... حادثة وفاة ستتأخر الشرطة الفرنسية والتي لاتقل تهريجاً عن محيطها العام قرابة اسبوع في اكتشاف حقيقة الامر التافة ، وهي ان الوفاة بسبب قطعة من دهن الخنزير علقت في زور الرجل المهم . على هامش الجريمة والتحقيق الهزلي نتابع مشاهد لحشود ارتبطت بشكل او بآخر بكرنفال الالوان والاقمشة الباهظ والمشاهد في معظمها لاسيما المأخوذة في مواقع العروض تأخذ شكل الريبورتاج الصحفي اعتماداً على ان العين الوسيطة التي تنقل لنا ما يجري هي عين المذيعة الامريكية « كيتي بوتر » وهي مثل الوسط الذي تتحرك فيه وتبث برنامجها عنه الى امريكا ، متكلفة ، مدعية لاتفقه شيئاً مما يجري ، لكن ولان معظم الناس مثلها لايفهمون فان احداً لايتوقف امام سطحيتها ...بل ان احدى المصممات مصابة بعمى الوان لكن الجميع يتعاملون كما لو انها مبدعة كبيرة. لقد حفل الفيلم ومن بدايته الى نهايته بمشاهد في ذم اوساط الاناقة المترفة . « رجل اللحية المبتذلة » فيلم ألتمان لعام 1998 بحرفية عالية يقص فيه حكاية محام ناجح تنقلب أوضاعه المستقرة حين يقرر الدفاع عن فتاة جميلة تشكو سوء تصرفات والدها المختل . بين بداية الفيلم ونهايته يمد ألتمان اصابع الاتهام ناحية رجال السياسة والنفوذ ويجعل للحكومة الامريكية حصتها مما يكيله من شحن الاتهام. وتدور احداث فيلم روبرت ألتمان « جوسفورد بارك» في تشرين الثاني عام 1932. قصر فخم في الريف الانكليزي محاط باقطاعية كبيرة تابعة للقصر. يستضيف مالكه (وليام ماكوردل) مجموعة من اصدقائه الارستقراطيين مع زوجاتهم وخدمهم لقضاء عطلة نهاية الاسبوع في حفلة لصيد الطيور في مزرعة القصر هناك. ماكورديل يمثل الوجه البشع للعصر الفيكتوري. ، ولا يحظي الا بكراهية زوجته لعدوانيته واسلوبه المتهتك في التعامل معها. ويعتمد اقارب الزوجة وابناؤها وازواج بناتها علي مساعدات زوجها ماكورديل لهم وضمن هؤلاء كونتيسة ترينتام الفظيعة التي لا تبعث في نفس المتفرج سوي السخرية لطبيعتها النضاجة والاستعراضية مع ذلك فهي تصر علي انها تلقائية في سلوكها، الي جانب هذه الشخصيات هناك غريبان يتميزان بالجاذبية، احدهما كاتب مسرحي ويمتلك صوتا جميلا، واصطحب معه منتجاً سينمائياً من هوليوود وكلا هذين الشخصين من خلفية فقيرة وهذا ما يجعلهما في موقع المراقب للآخرين... بعد انتهاء الحفلة يقتل مضيفهم في جريمة مزدوجة وغامضة حيث يسمم اولا ثم يطعن بسكين في القلب وهوينظف مسدسه في مكتبه المعتم. لاتضيف الجريمة شيئاً الى الفيلم باستثناء غياب السيد ( وليام) من المشاهد الباقية ، مع ان حضوره ظل مستمراً حتى النهاية عبر الشخصيات الاخرى ، خاصة رئيسة الخدم وكلبه الصغير الاثير لديه ... اذ ظل بعده تائهاً لايرغب احد من الضيوف او الخدم في تدليله بل حتى رؤيته . ما يسحر في الفيلم هو عمق تشريح الجو الارستقراطي الانكليزي ، بكل ما فيه من بذخ وتظاهر ونميمة وحسد واستغلال ، الذي برع في ابرازه ألتمان... فقد وظف العشرات من خيرة نجوم السينما البريطانية وتركهم امام عدسته لكي ينسج كل دوره ببراعة دون ان تطغى شخصية على أخرى .. الفيلم يركز على نسج العلاقة البسيطة والواضحة في الظاهر والمعقدة جداً بين ساكني الطابق العلوي ( أهل القصر وضيوفه من الارستقراطيين ) وساكني الطابق السفلي ( وهم الخدم) ...علاقة هي مزيج من الطاعة والاحتقار والحسد والكراهية والاستغلال .• فما كان يسعي اليه التمان هو نقل المناخ الطبقي الذي كان يسود في فترة الثلاثينيات حيث كانت الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في خطواتها الاولي نحو الاضمحلال.. يحرص التمان على المعادلات المتشابكة ليكون الفيلم كالحياة تعرف فقط اولها وآخرها، وما بين البداية والنهاية تضيع في المتاهات التي تسلمك الواحدة للأخرى، وتتركك حائرا تحاول ان تحل ألغازك بنفسك، فاللغز الواحد له عدة حلول حسب زاوية الرؤية. ليترك لنا فيلما ممتعا خفيفا علي صعيد المناخ وعميقا علي صعيد المعمار الفني وغني خطوطه المتداخلة ببعض بشكل ساحر و يقدّم روبرت ألتمان في فيلمه الأخير " شريك في بيت ريفي " قصة برنامج إذاعي ناجح لثلاثين سنة لكن الإدارة الجديدة للمحطة تريد إيقافه. أبطاله ميريل ستريب وليلي توملين، وودي هارلسون وكيفن كلاين. شاعر وناقد سينمائي سوري |
31 مارس 2006 |