منذ وقت
مُبكر, أدهشت السينما(أندريه بروتون), وأصدقائه, وبينما كان أعضاء مجموعة
السوريالييّن غير مُبالين بالموسيقى, وفيما فرض الرسم نفسه متأخرا نوعاً
ما, أصبحت السينما, وحتى قبل أن تتشكل المجموعة, رمزاً للعبادة, والورع.
التأنق ضدّ الثقافة
من خلال عنفه, (أشباح)”1913-1914”, الفيلم المُتكوّن من أجزاء, لمخرجه
(لويّ فويّاد) أدهش الشعراء, والرسامين : ماكس جاكوب, أندريه بروتون,
أراغون, وأبّولينير, والتي كانت السينما بالنسبة لهم فناً شعبياً باقتدار,
بعد تلك السلسلة الأولى, تتابعت في عاميّ 1915-1916 (مصاصيّ الدماء), وحيث
كان عنوان كلّ حلقة إفتتاناً خالصاً لمن أصبح فيما بعد سوريالياً : الرأس
المقطوع, الخاتم القاتل, العيون المُبهرة, سيّد الصاعقة,..ولن ننتظر هنا
أيّ خطوة ثقافية, أو سينمائية.
لم يكن السورياليون الشباب يعرفون أبداً اسم (فويّاد), أو لم يمنحوه أيّ
اعتبار, ولكنّ البطلة هي التي سحرتهم : إيرما فيب, صنف من مصاصيّ الدماء,
مثلتها الممثلة (موسيدورا), وجسدها المُلتف بالأسود الذي أثار أحلام
المتقرج.
وحتى (أندريه بروتون) نفسه, قذف في أحد مساءات يوليو من عام 1917 باقةًً
كبيرةً من الورود الحمراء على خشبة مسرح (بوبينو), ما أن انتهت من تمثيل
مسرحية بعنوان مثير: (المايوه الأسود).
وبالنسبة لـ(فيليب سوبولت), فإنّ (موسودورا), و(الأشباح) جسدت الانطلاقات
الكُبرى للتمرّد, والحبّ المجنون.
لم تكن (موسودورا) بدون منافس, الأمريكية (بيرل وايّت) بطلة فيلم (أسرار
نيويورك)” 1915” لمخرجه(لويّ غانيّير) نافستها على مكانتها في وسط
السورياليين.
في تلك الفترة, نحن في قلب سينما شعبية, جماهيرية, مع جرعتها المُعتادة من
الغموض, والعنف, والشهوانية.
صحيحٌ, بأنه في تلك الفترة, لم تكن السينما بعد أكثر من وسيلة تسلية, على
الرغم من بعض المحاولات المُضخمّة بما يكفي, لمنحها مكانتها النبيلة دعماً
كبيراً بممثلين مشهورين, وكتّاب سيناريو أكاديميين.
في الأوساط المُتعلّمة, كانت ترتسم ابتسامة متعجرفة على الوجوه, عند الحديث
عن ما لم يُطلق عليه بعد بـ(الفنّ السابع), وذلك بالتحديد, وفي جانب كبير
منه ما أعجب السورياليين الشباب, والذين أظهروا تأنقاً أكيداً (ضدّ ـ
الثقافة).
من الحركة الدادائية, احتفظ السورياليون برفضهم للفنّ الجادّ, ومنحوا
قليلاً من الأهمية للمحاولات الطليعية لـ(جان أبستاين), ولتلك الثقافية
جداً لـ(مارسيل لوهربيّيه), والذي يبحث على دفع فنّ السينما إلى صف الفنون
الكبرى.
ولم يُعيروا انتباها لتجارب السينما الصافية, أو التجريدية القادمة من
فنانين تشكيليين, مع أنهم كانوا قريبين منهم, مثل : مارسيل دوشّا, فيرنان
ليجيه, أو في ألمانيا : هانز ريختر, وفيكينغ إيغلينغ.
"في صالة تعرض, ما تعرض"
من جهة أخرى, لم يكن الذهاب إلى السينما هو ما يحمسهم.
الشهادات, متعددة, وبدون لبس, تُظهر قليلاً من الأهمية, إنّ لم نقلّ أيّ
اهتمام للأفلام نفسها, والتي لم تكن في أيّ حال من الأحوال معتبرةً كأعمال
فنية.
في رواية
Nadja,
ينبش(بروتون) من النسيان, بدون شك, وباستحقاق كبير, المسلسل العديم الأهمية
(عناق الإخطبوط): هذا الفيلم, من أكثر الأفلام التي أثارت انتباهي.
و(بروتون) نفسه يحكي : عندما كنتُ في عمر السينما, لم أبدأ بالإطلاع على
برنامج الأسبوع, لمعرفة أيّ فيلم إمتلك الحظ كي يكون الأفضل, ولا معرفة
موعد عرض هذا الفيلم, أو ذاك.
كنت أتفاهم بشكل خاصّ مع (جاك فاشيه) كي لا أُعجب بأيّ شئ أكثر من اقتحام
صالة تعرض ما تعرض, وفي أيّ مكان كنا, أو ننزل مع الاقتراب الأول من الملل
ـ الاكتفاء ـ كي ننتقل باستعجال نحو صالة أخرى, حيث كنا نتصرف بنفس
الطريقة, لم أعرف أبداً أكثر مغناطيسيةً: وبدون أن أقول,, بأنه في أغلب
الحالات, كنا نغادر مقاعدنا بدون حتى معرفة عنوان الفيلم, والذي لم يكن
يهمنا بأيّ طريقة, المهمّ بالنسبة لنا, أن نخرج من هناك (مُحمّلين) لبعض
الأيام.
تتأتى القدرة السحرية للسينما, بأن يحشر السورياليون أنفسهم في صالة
معتمة, بالصدفة, كما نغوص ليلاً في أحلامنا, بدون معرفة أيّ واحد منها سوف
يُولد في وعينا النائم.
مع قليل من السخرية, والتهكم, والصلافة, لا يخفي (مان رايّ) طريقته الخاصة
باختيار الأفلام : أذهب إلى السينما بدون اختيار البرامج, وحتى بدون النظر
إلى ملصقات الأفلام, أذهب إلى الصالات التي تحتوي على مقاعد مريحة.
السيناريوهات التي كتبها في تلك الفترة(بنجامان بيريه), و(روبير دينوس), أو
(فيليب سوبولت), تترجم جيداً (بدايةً من عناوينها : أسرار المدينة, هناك
مسامير في لحم الخنزير المشوية, منتصف الليل في الساعة الرابعة عشرة,
بولشيري يريد دراجة) ذوقاً نضالياً من أجل السينما الأكثر شعبيةً, هي
غالباً وريثة سباقات على طريقة مخرج الأفلام الصامتة (ماك سينيت).
ابتذال التكوين تعكس, بما يكفي, تلك الطريقة التي تعتمد على الدخول,
والخروج بدون مبالاة.
صحيحٌ أيضاً, بأنه حدث, ولكن فيما بعد, شغفاً جماعياً بأفلام أكثر جديةً :
(المدرعة بوتمكين) لـ(إيزنشتين), و(نوسفيراتو) لـ(مورناو) والتي أُعيد
عُرضها في عام 1928.
وحيث العبارات التفسيرية المكتوبة على الشاشة : ما أن عبرت الجسر, جاءت
الأشباح للقائه, أبهجت السورياليين لوقت طويل, قبل أن تظهر (لويز بروكس) في
فيلم (لولو) لـ(بابيست).
وفيما كان الذهاب إلى السينما أكثر أهمية من الفيلم الذي يعرض, سبباً
بسيطاً لانطلاق الحلم, فقد منح السورياليون قدسية لهذه العملية, حيث يتحدث(
روبير دينوس) عن عتمة مباركة, خاصّة بالأوهام.
وبالنسبة لـ(بروتون) : هناك طريقةٌ للذهاب إلى السينما, مثلما يذهب آخرون
إلى الكنيسة, وأعتقد, بأنه من زاوية خاصة, مستقلةٌ تماماً عما تمنحه, وهنا
بالذات, يتظاهر السر الوحيد, الحديث بشكلّ مطلق.
كلبٌ أندلسيّ(1929)
الشاب( لويّ بونويل) مؤلف فيلم (كلبٌ أندلسيّ) ليس سوريالياً, وعلى الأقلّ,
لم يكن بعد في لحظة إنجاز فيلمه, وعرضه, وقد كتب في السنوات اللاحقة :
بصراحة, في البدايات, لم تكن السوريالية تهمني كثيراً.
جاء (لويّ بونويل) إلى فرنسا في عام 1925 لينخرط في العمل السينمائيّ, كان
مساعداً للمخرج (لويّ ديلوك) في فيلم (موبار, وسقوط عائلة أوشر), فيلمٌ/
فنارة من تلك الطليعة التي لم تعجب السورياليين, ويمكن بفضل أموال والدته
تمويل فيلم قصير.
لقد وُلد (كلبٌ أندلسيّ) مصادفةً من محادثة اعتيادية بين صديقيّن,
كان(لويّ بونويل) ضيفاً لبعض الأيام في(Cadaquès)عند
(سلفادور دالي) بمناسبة أعياد الميلاد لعام .1928
هذان الاسمان الكبيران جداً في عالم الفنّ للقرن العشرين, كانا وقتذاك
مجهولين تماماً, وتعود صداقتهما إلى سنوات دراستهما في (مدريد).
يحكي (بونويل) عن تلك الفترة : يقول لي دالي, أنا, هذه الليلة حلمتُ بنمل
يتكاثر في يدي.
وأنا, أيوه أنا, حلمتُ بأننا نقطع عين شخصاً ما.
وهكذا وُلدت فكرة (كلبٌ أندلسيّ), وكُتب السيناريو في ستة أيام, وقت
العطلات, بمقتضى طريقة يذكرنا بها (بونويل) أيضاً:
ـ على سبيل المثال, تستحوذ المرأة على مضرب تنس, كي تدافع عن نفسها ضدّ
رجل يريد مهاجمتها, وهو بدوره ينظر حوله, ويبحث عن شيئ ما,...
و(أتحدث مع دالي):
ـ ماذا يرى؟
ـ ضفدعاً يطير
ـ خطأ
ـ زجاجة كونياك؟
ـ خطأ
ـ حسناً, أرى حبليّن
ـ حسناً, ولكن, ماذا يوجد خلف الحبليّن؟
ـ الرجل يشدهما, ويسقط لأنه يجرّ شيئاً ثقيلاً جداً
ـ آه, شئ رائعُ بأن يسقط,
ـ الحبلان مشدودان إلى يقطينتيّن كبيرتين جافتين.
ـ ماذا أيضاً؟
ـ أخوين راهبين
ـ وبعدين ؟
ـ مدفع
ـ خطأ, من الضروري بأن يكون هناك كرسيّ فاخر
ـ لا, بيانو بذنب
ـ جيد جداً, وعلى البيانو, حمار, لا, حماريّن مذعوريّن
ـ رائع
....
بمعنى, كنا نخرج من بواطننا صوراً لاعقلانية, بدون أيّ تفسير.
هذا المونتاج لأحلام متلاصقة, بدون أيّ تدخل من رغبة كاتبيّ السيناريو,
فتحت للسينما أبواب السوريالية, دالي, وأنا, وخلال العمل على سيناريو فيلم
(كلبٌ أندلسيّ), فقد مارسنا نوعاً من الكتابة الأوتوماتيكية, لقد كنا
سوريالييّن, بدون أن نلصق بطاقةً على جباهنا تصفنا بذلك.
يعود (بونويل) إلى (باريس), وفي جعبته السيناريو, وهناك, وفي منطقة (الهافر)
أيضاً لمشهد على شاطئ البحر, تمّ تصوير الفيلم خلال 15 يوماً من شهر مارس
عام .1929
بونويل, والمجموعة السورياليّة
لم يكن (بونويل) يعرف السوريالييّن مباشرة في تلك الفترة, على العكس, كانت
نصوص, وتحريضات (بنجامان بيريه) تُضحكه كثيراً, وسمع عن فضائح حرضتها
المجموعة بانتظام.
بما يخصّ السينما, فقد أعجبه قليلاً فيلم (نجمة البحر) لـ(مان رايّ),
وبوضوح, وصرامة, أحبّ (القوقعة, والقسيس) لـ(جيرمين دولاك), الفيلم الذي
افتعل السورياليّون ضده ضجةً تستحق الذكر.
وقد حدث اللقاء بين (بونويل), ومجموعة (بروتون) في نهاية شهر يونيو من علم
1929, بواسطة (فيرنان ليجيه) الذي قدمه لـ(مان رايّ) الذي كان يبحث عن
تكملة برنامج لفيلمه(غموض قصر ده) الذي تمّ إنجازه بطلب من الكونت,
والكونتسية (دو نوايّ) حول البيت الذي انتهيا للتوّ من بنائه في مدينة(إيّير)
وفق خرائط (روبير ماليه ـ ستيفنس).
و(كلبٌ أندلسيّ) الذي كان يُعرض منذ 6 يونيو في صالة (أستوديو أورسولين)
يمكن أن يكون مناسباً لذلك العرض, وكما تحدثنا عن سورياليته, فقد أيقظ ذلك
شكّ (بروتون), وأصدقائه, المتغطرسين دائماً فيما يتعلق بمنح صفة سورياليّ
بدون موافقتهم الواضحة, وهكذا, في مناخ من عدم ثقة مُتبادلة, ذهب
السورياليون لحضور عرض فيلم, وقدمه (بونويل) لهم, لأنه احتفظ بذاكرته
الاستقبال الذي حصل عليه قبل شهور فيلم (القوقعة, والقسيس), خلال العرض,
وقف المخرج خلف الشاشة كي ينفذ شريط الصوت للفيلم (في تلك الفترة, مازالت
السينما صامتة) بمساعدة اسطوانات بالتبادل مابين موسيقى رقصة الـ(paso-dobles),
ومقتطفات من أوبرا(تريستان) لـ(فاغنر).
يحكي (بونويل) بأنه اهتم بملئ جيوبه بالحصى, كي يرميها على السوريالييّن,
لو أظهروا استقبالا سيئاً لفيلمه.
ولكن, كان ردّ الفعل بالإجماع, ومشجعاً : وأصبح (بونويل) مباشرةً
السينمائيّ الرسميّ للمجموعة.
نجاحٌ مرفوض
أعجب الفيلم جمهوراً خارج حلقة التأثير السوريالي,ّ وقد عُرض بدءاً من 1
أكتوبر عام 1929, ولمدة ثمانية شهور متواصلة في صالة (ستوديو28) مُحدثاً
تقيّئاً, وإجهاضاً, وثلاثين (أو أربعين, أو خمسين بمقتضى الأقوال المختلفة)
شكوى للشرطة.
لم يغضب السورياليون من تلك الفضيحة, على العكس تماماً, كانوا يحصدونها
كسلاح متميز, ولكن, لم يكن النجاح أبداً مناسباً لمذاقهم.
حيث وقع (بونويل), و(دالي) مذكرة احتجاج مفاجئة إلى حدّ ما في مجلة (ميرادور)
بتاريخ 29 أكتوبر من عام 1929: لقد حصل (كلبٌ أندلسيّ) على نجاح لا سابق له
في باريس, ما يثير فينا السخط كما أيّ نجاح جماهيريّ آخر, ولكن, نحن نعتقد
بأنّ الجمهور الذي صفق للفيلم, هو جمهور تتغاباه المجلات, وانتشار
الطليعية, والذي يصفق انطلاقا من التفاخر بكلّ ما يبدو جديداً, وغريبا,ً
هذا الجمهور لم يفهم المضمون الأخلاقي للفيلم, والذي يتوجه مباشرةً ضدّه,
بعنف, وفظاظة كاملتيّن.
إنها بالضبط, نفس الحالة التي حرّكت (أندريه بروتون) كاتباً بحروف كبيرة في
البيان الثاني للسوريالية عام 1930:
أطالب باختفاء عميق, وحقيقيّ للسوريالية.
العصر الذهبيّ(1930)
كان نجاح فيلم (كلبٌ أندلسيّ) السبب بجذب انتباه (ماري لور) و(شارل دو
نواي)ّ نحو المخرج الذي بدأ العمل مباشرةً في إنجاز فيلم ثان.
فيلمٌ بدعمّ ماليّ
وعلى الأرجح, التقى (لويّ بونويل) بالكونت, والكونتيسة (دو نوايّ) بمناسبة
عرض فيلمه في المنزل الخاصّ بهذا الثنائيّ الثريّ جداً, والذي كان منذ بعض
الوقت البيت الثاني لعدد من الفنانين الطليعييّن.
وهما اللذان طلبا من (مان رايّ) تصوير فيلم مستوحى من أجواء منزلهما, الذي
بنيّاه مُجدداً في أعالي مدينة (إيييّر)/جنوب فرنسا, وسوف يصور (كوكتو)
لحسابهما فيلمه (دمّ الشاعر).
وهكذا, اقترح (شارل دو نوايّ) على (لويّ بونويل) تمويل فيلم قصير.الفيلم,
والذي كان من المفترض بأن يكون عنوانه (الوحش الأندلسيّ) تمّ التفكير به
وُفق نفس خطوة فيلم (كلبٌ أندلسيّ) : سيناريو (لويّ بونويل), و(سلفادور
دالي), وإخراج (لويّ بونويل).
في النشرة الخاصّة بتقديم الفيلم في عروضه الأولى, كتب (سلفادور دالي) :
تمحورت فكرتي العامة بالكتابة مع (بونويل) لسيناريو (العصر الذهبيّ) بتقديم
السلوك المستقيم, والصافي لكائن يُلاحق الحبّ من خلال الأفكار الإنسانية
المُقززة, والوطنية, وميكانيزمات أخرى بائسة للحقيقة.
ومع ذلك, (سلفادور دالي), هذه المرة, يتابع من بعيد كتابة الفيلم.
يتحدث (بونويل) : في تلك الفترة, وضعنا, أنا, ودالي, حدّاً لصداقتنا, وقد
حدث ذلك بالضبط ثلاثة أيام بعد بداية تعاوننا.
وهكذا, يمكن اعتبار(بونويل) المؤلف الرئيسي للسيناريو.
وقد انقطع التفاهم بين الصديقين, واعتبر كلّ واحد منهما مساهمة الأخر سيئة
جداً.
ويعتبر الفيلمان, وعلى الرغم من روح عامّة مشتركة بينهما, مختلفين إلى حدّ
ما.
في(كلبٌ أندلسيّ), لا يوجد نقداً اجتماعيا, ولا نقداً من أيّ نوع.
في(العصر الذهبيّ), نعم, هناك رغبة مسبقة بالهجوم على ما يمكن أن نسميه
الأفكار المثالية للبورجوازية: العائلة, الوطن, والدين.
الفضيحة
أكثر تطوراً من سابقه, المجموعة السوريالية تعتبر(العصر الذهبيّ) واحداً من
البرامج القصوى من الاحتجاجات المقترحة على الوعيّ الاجتماعي حتى يومنا
هذا, أحدث فضيحةً أكبر.
صُور من مارس إلى مايو عام 1930, وتمّ عرضه بدايةً يوليو في منزل (دو
نوايّ), وحصل على ترخيص الرقابة في الأول من أكتوبر, ولكن استقبل في سينما
(بانتيّون) استقبالا بارداً من طرف الباريسيين المدعوّين من طرف
الثنائيّ(دو نوايّ) في نهاية الشهر.
غير الإشارات الواضحة جداُ لمُمارسة العادة السرية, بعض الصور(مفتاح
القربان المقدس على الأرض), وبعض الجمل الحوارية في برنامج العرض(الكونت
بلانجيس هو المسيح بالطبع) كانت صادمة جداً في معايير تلك الفترة, في 28
نوفمبر, عندما عُرض في (أستوديو 28) أحدث الفيلم غضباً المتفرجين الذين
هاجموا الصالة, ومزقوا عدداً من اللوحات السوريالية المعروضة على جدران
مدخل الصالة, وعاودت الصالة عرض الفيلم, ولكن بحماية الشرطة, وفي 11 ديسمبر
مُنع الفيلم نهائياً من العرض, وتمّت مصادرة النسخ.
وفي عام 1981 فقط, تمكن الجمهور أخيراً من مشاهدة (العصر الذهبيّ),
وعن ذلك, كتب (بونويل) بفرنسيته الضعيفة إلى الكونت (دو نوايّ) في 29
ديسمبر عام 1930 من (بيفرلي هيلز):
ـ هاهي نتيجة فيلم, كنت اعتقده حانياً على الرغم من عنفه, والذي يترك
الجمهور حالماً, بدل أن يجعلهم يغوصون في كابوس.
كنتُ أنتظر هذه النتيجة, على العكس من فيلم (كلبٌ أندلسي).
لم تتمكن السينما السوريالية تجاوز تلك الفضيحة, فقط, استمر(بونويل) وقتاً
بتطعيم أفلامه بمشاهد, أو صوراً سوريالية, قبل أن يُخرج, بدءاً من
الستينيّات, أعمالاً أكثر مباشرةً مستوحاة من السوريالية مثل : (الملاك
المُحطّم), وأفلامه الثلاثة : (الجاذبية الخفيّة للبورجوازية, شبح الحرية,
تلك القطعة المُعتمة من الرغبة), ولكن, مع ذلك التاريخ, كانت المغامرة
السوريالية مُسبقاً جزءاً من الماضي.
السوريالية
يُعتبر(كلبٌ أندلسيّ), و(العصر الذهبيّ), مع عدد قليل جداً من الأفلام
السوريالية, وربما, هما الفيلمان الوحيدان ولأنهما اللذان حصلا على
الموافقة التامة, والكاملة للمجموعة, السوريالية في السينما يجب إذاً,
وبأفضلية بأن يُنظر إليها من خلالهم, ومن أجل هذا الغرض, من المهم معرفة
كيف أنّ التقنيات الثلاثة للإبداع العزيزة على السورياليين: الكتابة
الأوتوماتيكية, الجثة الشهيّة, والكولاج, وجدت تعبيراتها في السينما.
الكتابة الأوتوماتيكيّة
تُعتبر(الكتابة الأوتوماتيكية) بمثابة حجرا لأساس للسوريالية, ولكنّ المخرج
على عكس الكاتب, أو الرسّام, ليس وحيداً بمواجهة عمله في علاقة مستقيمة,
وآنيّة تسمح للاوعيّ بالتعبير.
في معظم الحالات, يتطلب إخراج فيلم طاقماً, تقنيةً, وعملاً جماعياً, وفي
خطوات التصنيع, يمرّ الفيلم بمراحل متعددة: كتابة, تصوير, مونتاج..
الارتجال, والذي لا يخصّ إلاّ جزءاً من هذه المراحل المختلفة, لا يمكن
بأيّ حال تشبيهه بالكتابة الأوتوماتيكية, وربما هي غير ملائمة للسينما.
ومع ذلك, في حالة(كلبٌ أندلسيّ) “ولم تكن حالة العصر الذهبيّ”, كتابة
السيناريو, اعتمدت جوهرياً على نوع من الكتابة الأوتوماتيكية مع شخصين, كما
كان حال (الحقول المغناطيسية), القطعة السوريالية الأولى التي أنحزها
(أندريه بروتون), و(فيليب سوبولت).
يتحدث (بونويل) : لقد عملنا على التقاط الصور الأولى التي كانت تعبر
مخيلتنا, وأهملنا بشكل منتظم كلّ ما يمكن أن يأتي من الثقافة, أو التربية,
كان من المفترض بأن تكون صوراً تفاجئنا, وأن تحظى على موافقتنا نحن
الاثنين, بدون نقاش.
هذه الصور الأولى, التي كانت تأتي لمُخيلتنا, تكشف تماماً عن تجارب كان
السورياليون يحققونها في الفترة نفسها, ولكن, حالما تنقضي تلك المرحلة من
كتابة السيناريو, من الكتابة, والتقطيع إلى التصوير نفسه, كان مخططاً لكل
شئ.
ولم يكن للصورة من مهمة أخرى, غير أن تحتفظ على الشريط الحسّاس الشعر
المُتخلّق في الكتابة.
(العصر الذهبيّ) فيلمٌ واعّ تماماً لخطوته, وأغراضه, كي نتمكن الحديث عنه
عن الكتابة الأوتوماتيكية, حتى فيما إذا عدد من الصور, والأفكار, أو
المشاهد يمكن أن تظهرها.
حجم التطوير, العبارات ضد التقاليد, والثقل الاجتماعي المطالب به, يفرض على
مؤلفه بأن يتبع خطاً لم يكن موجوداً في الفيلم الأول, وفيما يخص ذلك كان
أكثر حرية في البناء.
الجثة الشهية
(Cadavre
exquis),
هي لعبةً جماعية تعتمد على تكوين جُمَل بدءاً من كلمات يكتبها كل واحد من
المجموعة واحداً بعد الآخر بدون معرفة مسبقة بكلمات الآخرين, واسم هذه
اللعبة جاء من الجملة الأولى التي قدمها السورياليون عندما اخترعوا اللعبة
: الجثة الشهية شربت خمر الموسم الجديد.
المثاليّ بالنسبة للمجموعة السوريالية, بأن تتجمّع العبقرية في إنجاز
مُشترك, وهكذا, يُولد العمل من اللقاء الصدفويّ لأفراد مختلفين جدا فيما
بينهم.
كانت (لعبة الجثة الشهية) طريقةً للحصول على إقترابات غير منتظرة, وإخراج
ما هو مدهش من الحقيقة اليومية.
كان هناك (جثث شهية) متكونة مع كلمات, وأخرى مع رسومات, الشاعر الفرنسي
(بول إيلوار) يحكي في كتابه(للمشاهدة) : كنا غالبا,ً وطوعياً نلتقي لتجميع
كلمات, أو نرسم بالتتابع شخصيةً ما, كم من المساءات مرّت, ونحن نخلق بحبّ
شعباً من (الجثث الشهية), كنا نتنافس على من يجد جاذبيةً أكثر, وحدةً أكثر,
جرأة أكثر لهذا الشعر المُنجزة جماعياً, بدون أيّ همّ, بدون أيّ ذكرى
للتعاسة, الملل, والتعوّد, كنا نلعب مع الصور, ولم يكن هناك خاسرين, في
السينما, من المُفترض أن يجتمع عدد من المخرجين, وتنظيماً إنتاجياً,
وإخراجيّاً هائلاً.
ولكن, أليس باستطاعتنا إيجاد تكوين على طريقة (الجثث الشهية) في طريقة
تتابع القصص المختلفة لفيلم (العصر الذهبي), حيث نتأرجح من مشهد إلى آخر من
تفصيلة ما, على سبيل المثال: ريش المخدة التي مزقها العشيق, تتحول إلى ثلج
ديكوريّ للمشهد الأخير؟
وهكذا, كان من الممكن أن يكون الفيلم على صورة (جثة شهية) هائلة, وخلالها,
يتتابع ستة مشاهد لا يجمعها بشكل مشترك إلاّ تفصيلةً تسمح بالتتابع.
الكولاج
في الرسم, تقنية(الكولاج), والتي تعتمد على استخدام عناصر من الصور موجودة
سابقا,ً وبتجميعها, تُولد صورةً جديدةً متحررةً من أيّ عائق, وجدت تطوراًُ
خارقاً بفضل (ماكس أرنست).
بطريقة ما, كل شئ ينطلق بالضرورة من الكولاج في السينما, من اللحظة التي
نلصق لقطتين, الواحدة بعد الأخرى, فإننا نمارس الكولاج, وبالآن, حالما نضيف
شريط صوت إلى شريط صورة, وفيما إذا كان التتابع الزمني يسمح بتتابع لقطتين,
وتشابه تجميع صوت وصورة, لا يوجد هناك ما هو مفاجئ, وما كنا تحدثنا عن
الكولاج, ويمكن الحديث عنه بشكل آخر, فيما إذا مونتاج العناصر تظهر نفس
الثقل الشعريّ كحال اللقاء الأشهر لمظلة, وماكينة خياطة فوق طاولة
العمليات.
ينتهج (بونويل) في فيلميّه إلى نماذج متعددة من الكولاج:
صورة/ صورة : غيمةٌ منهكة مقتربةً من قمر مُكتمل+شفرة حلاقة مقتربةً من
عين(كلبٌ أندلسيّ).
صورة/ صورة/ صوت : سائق دراجة+ملابس دمية+أوبرا تريستان لفاغنر(كلبٌ
أندلسيّ).
صورة/ صوت : عاشقان في حديقة+صوتٌ من خارج الكادر, حوارٌ بين نفس
العاشقيّن”صوت الرجل ليس هو صوت الممثل, ولكن صوت الشاعر بول إيلوار”(العصر
الذهبيّ).
نصّ/ صورة:
جملةٌ مكتوبةٌ على الشاشة(أحياناً, يوم الأحد)+واجهة مبنى يتهدّّم(العصر
الذهبيّ).
نلاحظ جيداً, بأنّ المخرج قد استخدم الإمكانيات التي يسمح بها المونتاج
السينمائيّ في روحّ سوريالية, ليمنح تجمعات شعرية جديدة, ويهرب من روح
الجدية, وبهذا الاكتشاف, كان أول من استخدم ما سوف يصبح تقليداً منتشراً
فيما بعد, لصوت التفكير(المونولوغ الداخلي).
يمكن أن نعثر على تطبيقات أخرى لمبدأ الكولاج في (العصر الذهبيّ), مع
اعتماد المخرج على مواد موجودة مسبقاً, صورٌ تسجيليةٌ حول العقارب, وشرائط
إخبارية خلال إظهار (روما الخالدة), ومن ثمّ بمناسبة المحادثة التلفونية
بين العاشق, ووزير الداخلية.
في كلّ تلك الحالات, يستدعي الكولاج اللاعقلانية, ويظهر اللقاء الفظّ
لحقائق مُتباعدة بقوة الواحدة عن الأخرى.
موقعٌ مُتناقض
تعتبر السوريالية واحدة من الحركات الجمالية التي أثّرت بعمق القرن
العشرين, يمكن أن نندهش, انطلاقا من الأهمية المُعتبرة التي حصلت عليها عن
طريق السينما في هذه الحركة, مع أنها منحت القليل من الأعمال.
إنه من المفاجئ حقا,ً في تاريخ السينما, لا نجد مع السوريالية المُعادل
بالغزارة, وبالنوعية, أعمالاً انطباعية, أو واقعيةً جديدة.
هناك, ربما, مدخل لتفسير هذه الطاهرة, في حقيقة أن (بروتون), وأصدقائه
أحبوا السينما, ولكنهم أحبوها قبل كلّ شئ كمتفرجين, كانت الأمور غير
القابلة للتفكير, إنجاز السيناريوهات التي كتبوها, وعلى الأرجح, لم يفكروا
بتصويرها, كانت السينما بالنسبة لهم محرضاً, أكثر منها وسيلة تعبير فنية,
الإعجاب الذي أثاره بينهم فيلم أمريكيّ, أكاديميّ جداً, مثل( بيتر إبيستون)/1935
ل(هنري هاتاوايّ) يظهر ذلك جيداً, تعظيم الأفلام المُتواضعة غالباً, إن لم
نقل بصراحة غبية, تلك التي انجروا نحوها, ولا يمكن تفسير ذلك إلاّ ببعض
الاحتقار للسينما.
وحده, عرف (بونويل) كيف يفكر بشكل سورياليّ فيما يتعلق بالسينما, والسينما
بمقتضى السياقات, والأهداف السوريالية, قدرته الإبداعية سمحت له بأن يمنح
صوراً تخطّت قوتها صور الشعراء, والرسامين, لقد عرف عن طريق السينما الولوج
إلى أعماق الكائن الحيّ, ويجعل من فيلميّه, (نداء للاعقلانية, والعبث, وكلّ
الغرائز المُنطلقة من الأنّا الجمعية العميقة).