قدمت الدورة الأولى لمهرجان دبيّ السينمائيّ الدوليّ "6-11 ديسمبر2004"
مبادرةً مُتميزةً لم أعهدها في أيّ مهرجان آخر, هي مستوحاةٌ ـ ربما ـ من
أعراف, وتقاليد مهرجان تورونتو, وذلك بتخصيص فيلم إفتتاح لكلّ برنامج
رئيسيّ, وكانت الحصيلة خمسة أفلام إفتتاحيّة, ومثيلها من حفلات العشاء,
بالإضافة لختام صحراويّ في خيمة كبيرة جداً, تمتع فيها الضيوف بالكرم
الإماراتيّ.
خمسة أفلام, يعقبها حفلاتٌ مسائية, هي فرصة تعارف, ولقاءات بين الضيوف من
جميع الجنسيات, ولكنها ـ للأسف ـ كانت بالنسبة للعربّ خمس دعوات لم تصل إلى
معظمهم, نسياناً, أو تهميشاً, أو إهمالاً من المدير الكنديّ, وفريق العمل
الأجنبيّ الذي يحيط به, وخناقات, وإحتجاجات, وتهديدات بفضح سلوكيات تتنافى
مع هدف المهرجان نفسه.
خمسة أفلام إفتتاحية, يعني خمس مهرجانات مُتوازية, وهكذا, في الليلة
الأولى, وبعد أن إعتقدنا بأن الفيلم الفرنسي/ المغربي "الرحلة الكبرى"
لمخرجه المغربي "إسماعيل فروخي" هو فيلم إفتتاح المهرجان, تبين لنا بعد ذلك
بأنه إفتتاح برنامج "ليال عربية" ـ فقط ـ, تبعته في الأيام التالية أفلامٌ
إفتتاحية متواضعة القيمة سينمائياً, مثل الفيلم الكنديّ "بوليوود/هوليوود"
لمخرجته الهندية "ديبا ميهتا" إفتتاح برنامج "بوليوود تلتقي هوليوود", وفي
اليوم الثالث فيلماً أمريكياً "البحث عن نيفرلاند" لمخرجه "مارك فوستر"
إفتتاح برنامج "سينما العالم المُعاصرة", وفي اليوم الرابع واحداً ليس
بأقلّ تواضعاً من سابقيّه, الفيلم الأمريكيّ "الحقد" لمخرجه الياباني "تاكاشي
شيميزو" إفتتاح برنامج "أفلام هوليوود عالية التقنية", وفي اليوم الرابع
الفيلم الأمريكي أيضاً "الغبار الأحمر" لمخرجه "توم هوبر", إفتتاح برنامج
"جسور التواصل الثقافي".
وهكذا, تخلص المدير الكنديّ من مشكلة إختيار فيلم واحد للإفتتاح العام,
وآخر للختام, وأزال أيّ حساسية يمكن أن تحدث بين المبرمجين, وأكثر من ذلك,
ألغى تماماً من أذهاننا فخرنا, وإعتزازنا بفكرة إفتتاح المهرجان بفيلم
عربيّ, وكانت النتيجة: فيلماً فرنسياً/ مغربياً مشتركاً "إحتراماً لمشاعر
البلد المُضيف للمهرجان, وربما ضغطاً من مسعود أمر الله ـ مُبرمج الأفلام
العربية الطويلة ـ, أو عبد الحميد جمعة ـ المدير التنفيذي لمدينة دبيّ
للإعلام", في مقابل ثلاثة أفلام أمريكية, ورابعاً كندياًّ.
ولن أتحدث هنا عن إختطاف المهرجان, وتحويله إلى تظاهرة سينمائية كندية
تُمولها أموالٌ عربية, ولكن, لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ, ولمعرفة
المزيد, تابعوا معي قراءة السطور التالية.
ماهي الحكمة من إختيار أفلام تجارية "تتبايّن في قيمتها السينمائية" عُرضت,
أو سوف تُعرض في الصالات عاجلأ, أو آجلاً, وهي تتواجد مُسبقاً في جدول
الموزعين المحليين.
ونعرف, بأنّ أيّ مهرجان يبحث عن النوعية, وبفضلها تأخذ تلك الأفلام طريقها
للعرض في القاعات التجارية, وتلتفت إليها أنظار محطات التلفزيون لشراء حقوق
عرضها, ويُسلط الإعلام المرئيّ, والمكتوب الأضواء عليها, ويُساهم في
ترويجها, وإنتشارها.
وليس دور المهرجانات السينمائية تقديم أفلام تمتلك كلّ حظوظ العرض في السوق
المحلية, والدولية, وليست بحاجة لمهرجان دبيّ, أو غيره, للترويج لها, إنها
مهمّة الموزعين.
تكتسب المهرجانات أهميتها في إكتشاف سينما لا نعرفها, التعريف بمخرج, ممثل,
أو تقني, وأن يكون التكريم متميزاً, لا أن تسلط الأضواء على أحد صُناع
السينما الذي شبعت أفلامه عرضاً, وتكريماً في كلّ أنحاء الدنيا "عمر
الشريف" مثلاً, أو ممثلة مسلسلات رعب مثل "سارة ميشيل غيللر", أو ممثلاً
أفروـ أمريكيّاً يدافع عن حقوق السود, ولكنه أكثر تعجرفاً من أجدع نجم
هوليووديّ أمريكيّ "مورغان فريمان".
من جهة أخرى, لا أنكر أهمية أفلام كثيرة توزعت في البرامج المختلفة
للمهرجان, والتي شارك في إختيارها 12 مُبرمجاً "بما فيهم المدير الكنديّ
نفسه", وبشكلّ خاصّ, برنامج "ليال عربية", والذي تضمّن 15 فيلماً "روائياً،
وتسجيلياً" من إنتاج عربيّ خالص, أوعربيّ/ مشترك, أو أجنبيّ, تخلف إثنان
منها عن الموعد لأسباب خارجة عن إرادة المُبرمج: "باب المقام لمخرجه
السوريّ محمد ملص, وبابا عزيز للتونسيّ الناصر خمير", وقد أظهر ذلك
البرنامج جهداً كبيراً, ومتابعةً مضنيةُ, وإختيارات صارمة جسّدت خلاصة
الإنتاج السينمائي العربيّ, والعربيّ/ المُشترك خلال السنوات الثلاثة
الماضية.
وبالتوازي مع الأفلام الطويلة, تميّزت الدورة الأولى ببرنامج آخر للأفلام
العربية الروائية, والتسجيلية القصيرة "12 فيلماً عربياً, و4 أفلام
إماراتية", كانت بدورها من إختيار "محمد مخلوف".
وبدون البرنامجيّن, والشخصين نفسهما, ما كنا صدقنا بأنّ المهرجان ينعقد في
مدينة عربية.
وكانت حصيلة البرامج الأخرى كالتالي:
·
"جسور التواصل الثقافيّ": ستة أفلام روائية, وتسجيلية, منها فيلمين من
فلسطين, وآخر من الإمارات, وثالث من إنتاج فرنسا/ إسرائيل "حائط" لمخرجته
الفرنسية من أصلّ مغربي "سيمون بيتون".
·
سينما العالم المُعاصرة: 11
فيلماً روائياً طويلاً.
·
بوليوود تلتقي هوليوود: 4 أفلام
روائية طويلة.
·
سينما شبه القارة الهندية: 4
أفلام روائية طويلة.
·
أفلام وثائقية: خمسة أفلام.
·
أفلام هوليوود عالية التقنية: 3
أفلام روائية طويلة.
·
تكريم "عمر الشريف": 4 أفلام
روائية طويلة.
·
تكريم المخرج الهندي "سبهاش
غايّ": فيلمان روائيان طويلان.
·
تكريم المخرج المصري "داود عبد
السيد" فيلمان روائيان طويلان.
ويصبح عدد الأفلام المُشاركة في المهرجان 73 فيلماً, منها 16 فيلماً
تسجيلياً, وروائياً قصيراً "برنامج الأفلام العربية القصيرة", وفيلميّن في
البرامج الأخرى.
وبحصر الدول المُشاركة في جميع الأقسام "إنتاجاً كاملاً, أو مُشاركةً في
الإنتاج":
·
الولايات المتحدة, المملكة
المتحدة , فرنسا, كندا, ألمانيا, هولندة, السويد, إيطاليا, الدانمارك,
بلجيكا, سويسرا.
·
الهند, إيران, بنغلاديش,
باكستان, سيريلانكا, الفيليبين, هونغ كونغ/الصين.
·
مصر, تونس, المغرب, سورية,
فلسطين, لبنان, الأردن, الإمارات العربية المتحدة.
·
البرازيل.
·
روسيا.
·
إسرائيل: فيلم "حائط" لمخرجته الفرنسية من أصل مغربيّ "سيمون بيتون", وعُرض
بإسم فرنسا, وتغاضى المهرجان عن الجانب الإسرائيليّ المُشارك في الإنتاج".
ويتضح بأنّ 29 بلداً تمثلت في المهرجان بأفلام روائية, أو تسجيلية, طويلة,
أو قصيرة, أكانت من إنتاجات وطنية خالصة, أو مُشتركة, ومن مجموعها, حصلت
"الولايات المتحدة", و"المملكة المتحدة" على النصيب الأكبر من الأفلام "18
فيلماً", وكان عدد الأفلام الهندية المُشاركة "7 أفلام".
ومابين هوليوود, و بوليوود, مروراً بالسينما العربية عن طريق أوروبا
الغربية, كانت أفلام دول المعسكر الإشتراكيّ السابقة غائبة, إلاّ من فيلم
روسيّ واحد: "العودة" لمخرجه "أندريه زفياغينتسيف".
وأُختصرت كلّ دول أمريكا اللاتينية في الفيلم البرازيليّ "يوميات الدراجة
النارية" لمخرجه "والتر ساليس".
بينما غابت السينما الأفريقية تماماً "بإستثناء السينما المصرية,
والمغاربيّة المُشاركة في برنامجيّ السينما العربية".
ومن الطبيعيّ ـ بالنسبة لمهرجان عربيّ ـ بأن يكون النصيب الأكبر فيه
للأفلام العربية, ولكن, ليس من المنطقيّ ـ بالنسبة لمهرجان عربيّ, أو
دوليّ ـ بأن يكون للولايات المتحدة, والمملكة المتحدة "18فيلماً", وحتى في
مهرجان كان العتيد, لم تصل الأفلام الأمريكية, والبريطانية في أقسامه
الرسمية إلى هذا العدد.
إذاً, كيف يكون المهرجان دولياً, بينما تُسيطر على برامجه الأفلام
الأنكلوساكسونية, وتغيب عنه قارات بأكملها "دول المعسكر الإشتراكيّ السابق,
أفريقيا السوداء, أمريكا اللاتينية"؟.
ومع هذا الخلل الواضح في تمثيل السينما العالمية, كيف للمدير الكنديّ "نيل
د ستيفنسون" بأن يدافع عن جهله أمام مقولة سموّ الشيخ "أحمد بن سعيد آل
مكتوم" ـ رئيس مهرجان دبيّ السينمائيّ: "إن إدراكنا لدور السينما المُميز
كأداة مثالية للتفاهم المُشترك بين الثقافات المختلفة حول العالم, دفعنا
لإعتبارها الفكرة الرئيسة, والموضوع الذي يتمحور حوله مهرجان دبيّ
السينمائيّ الأول, في سعيّ منا لبناء جسر ثقافيّ عالميّ جديد, وتحديداً في
هذه المرحلة من تاريخ العالم, حيث أننا بأمسّ الحاجة, وأكثر من أيّ وقت مضى
لبناء أواصر الصداقة, والتواصل بين شعوب العالم, وثقافاتها".
وكيف أصدقُ كلماته في إفتتاحية الكتالوغ: "تتميز برامج هذا المهرجان بصبغة
دولية شاملة تعكس مايسود مجتمع دبيّ, ومايميزه من إنفتاح, وتعددية, وتسامح.
إننا نطمح عبر هذا المهرجان أن نبني جسراً ثقافياً جديداً مهماُ يساهم في
التأسيس لمساحة للحوار الشامل, والمُثمر حول قضايا العالم الهامة..".
وإنطلاقاً من ميزانية المهرجان الضخمة, والمُعلنة "عشر ملايين دولار",
وبغضّ النظر إن كانت الأفلام قد جسّدت فعلاً الإنتاج السينمائيّ العالميّ
من شرقه إلى غربه, ومن شماله إلى جنوبه", تعالوا نقارن عدد الأفلام التي
شاركت في الدورة الأولى لمهرجان دبيّ السينمائيّ الدوليّ مع آخر مهرجان
تيّسر لي حضوره, ومتابعة فعالياته, "مهرجان أفلام القارات الثلاث" في مدينة
نانت الفرنسية, وهو مهرجانٌ متخصصٌ بأفلام أفريقيا, أمريكا اللاتينية,
وآسياـ, ويُعتبر من المهرجانات الصغيرة, ولا تتجاوز ميزانينه1/20 من
ميزانية مهرجان دبيّ.
وقد إنعقدت دورته الـ26 خلال الفترة من 23 إلى 30 نوفمبر, أيّ قبل أقلّ من
أسبوع واحد من بداية مهرجان دبيّ.
وقد وصل عدد الأفلام المٌشاركة في جميع الأقسام "طويلة, وقصيرة, روائية,
وتسجيلية" إلى "91 فيلماً, منها 12 فيلماً قصيراً", عُرضت في خمس صالات
مختلفة, صغيرة, ومتوسطة الحجم.
ويكفي الدخول إلى موقع المهرجان للتحقق من ذلك:
http://www.3continents.com
وقبل ذلك, في مدينة أميان الفرنسية, إنعقدت الدورة الـ24 لمهرجان الفيلم,
وهو مهرجانٌ متخصصٌ أيضاً بالسينما الأفريقية, والأسيوية, وأمريكا
اللاتينية, وخلال أيام المهرجان عرض أكثر من 300 فيلماً طويلاً, وقصيراً,
ومن كلّ الأنواع" روائيّ, تسجيليّ, تجريبيّ, تحريكيّ", بالإضافة للندوات,
واللقاءات, والورش الإحترافية.
ومن لا يصدق هذا الرقم"أكرر: 300 فيلماً طويلاً, وقصيراً", يكفيه الدخول
إلى موقع المهرجان للتحقق من ذلك:
http://www.filmfestamiens.org
وبصراحة, لم أرغب مقارنة برمجة مهرجان دبيّ مع المهرجانات الكبرى التي
يحاول المدير الكنديّ تقليدها شكلياً, كي لا تكون المقارنة ظالمة جداً,
جداً.
وإذا أراد "نيل د ستيفنسون" تقديم مهرجان يتباهى به أمام العالم, ويكون
بحجم ميزانيته, وطموحات البلد المُضيف, ومموليه, عليه أن يتوقف عن التقليد
السطحيّ للمهرجانات الكبرى, بإحتفالياتها, وتنظيمها الذي يناسبها وحدها,
ويخلع بدلة السموكن, ويرتدي بنطلون الجينز, وينتقل من مهرجان إلى آخر, كي
يحقق برمجةً متميزة, فيها الكثير من الإكتشافات, والحنكة, والدراية,لا أن
يطلب من 11 مبرمجاً بأن يجمعوا له أفلاماً من هذا المهرجان الكبير, أو ذاك,
ويكون محصولهم 73 فيلما طويلاً, وقصيراً, هي متوسط برمجة تظاهرة متواضعة في
إحدى القاعات الباريسية.
ولكن, قبل أن ينفذ المدير الكنديّ إقتراحي, ويفعلها, أتمنى بكلّ الصدق,
والجرأة, بأن تفكر الإدارة الإماراتية العُليا بإعادة النظر كلياً في
الهيكلية التنفيذية للمهرجان, قبل أن يتحول إلى نسخة مشوهة من مهرجان
تورونتو, ومنذ اليوم, أرجو من المسؤولين في الإمارات العربية المتحدة
التفكير بالطاقات المحلية, والعربية.
وللتشريح بقية ......