"أحب
قيس بن الملوح ليلى بنت سعد العامري ابنة عمه حيث نشأ معها وتربيا وكبرا
سويّا، وكانا يرعيان مواشي والديهما فأحب أحدهما الآخر فكانا بحق رفيقين في
الطفولة والصبا فعشقها وهام بها. وكما هي العادة في البادية، عندما كبرت
ليلى حجبت عنه، وهكذا نجد قيس وقد اشتد به الوجد يتذكر أيام الصبا البريئة
ويتمنى لها أن تعود كما كانت لينعم بالحياة جوارها. وهكذا هام قيس على وجهه
ينشد الأشعار المؤثرة التي خلدتها ذاكرة الأدب له في حب ابنة عمه ويتغزل
بها في أشعاره، ثم تقدم لعمه طالبا يد ليلى فرفض أهلها أن يزوجوها إليه. في
نفس الوقت تقدم لليلى خاطب آخر فزوجها أهلها إليه. فهام قيس على وجهه في
البراري والقفار ينشد الشعر والقصيد ويأنس بالوحوش ويتغنى بحبه العذري،
فيُرى حينا في الشام وحينا في نجد وحينا في أطراف الحجاز، إلى أن وجد ملقى
بين أحجار وهو ميت."
فيلم "حبيبي راسك خربان" لسوزان يوسف، حصل في مهرجان دبي 2011 على
جائزة المهر العربي لأحسن فيلم، في تلك الدورة كنت حاضرا في دبي ولكنني لم
أسعد بمشاهدة الفيلم.
بمناسبة عرضه في أبوظبي ضمن
برنامج "أفلام" الشهري
وجدت نفسي أمام واحد من أجمل الأفلام العربية التي أنتجت في الفترة
الأخيرة..
قبل أن أتحدث عن الفيلم، أخير أن أشير منذ البدء، إلى العناصر التقنية
والفنية والإنتاجية التي أحاطت بهذا العمل الذي لم يحقق نقلته النوعية إلا
بفضل ذوق مخرجته والتقنيين الذين عملوا معها عليه إضافة إلى حسن أداء
ممثليه.
تميز الفيلم بالعناصر التالية:
·
قصة عاطفية بين
شاب وشابة فلسطينيين يحلمان باللقاء ضمن حياة زوجية سعيدة.
·
(وذلك ضمن) موضوع رومانسي وشعري له علاقة بالتراث الشعري
والعاطفي العربي
·
(وفي إطار) واقع الفلسطينيين اليومي تحت الاحتلال
الإسرائيلي وتحت الحصار..
·
(وعلى ضوء) الظاهرة الإسلامية السياسية والاجتماعية وحركة
حماس كرمزية لها..
هذه هي العناصر التي أحسسنا أنها تمثل الإطار الهيكلي للفيلم، أما
بالنسبة لإبداع سوزان يوسف فيكمن في قدرتها على ترتيب هذه العناصر من حيث
أهميتها الجمالية والحكائية والفنية، بمعنى البحث ضمن هذه العناصر عما يصلح
أن يكون موضوعا أو واجهة موضوعية للفيلم؟ وأيُّها يكون إطارا لهذه الواجهة
أو خلفية لها؟ وأيها يصنع الجو النفسي العام في الفيلم ويولد الأحاسيس عند
المشاهدين ويحرك خيالاتهم.
أجوبة سوزان يوسف حسب رأينا كانت كالتالي:
حكائيا، وحسب مشاهد الفيلم، أول شيء قدمته هي قصة الحب بين الشابة
ليلى والشاب قيس ابن الملوح، بعدها برزت لنا هذه الأسماء المميزة بمضمونها
التاريخي فربطت بشكل طبيعي بين حكاية حب بطلينا الفلسطينيين والحب والعشق
وعراقتهما عند العرب وفي التاريخ العربي.
هذا الاختيار في الأسماء ميز قصة حب سوزان يوسف عن باقي حكايا الحب
التي يمكن أن نراها في أفلام أخرى فلسطينية وعربية. سوزان يوسف باختيارها
للأسماء وأشعار قيس بن الملوح التي قرأناها على الجدران وسمعناها تُنْشَدُ
على لسان بطلنا، صنعت دراما وعالما رومانسيا جديدا.
إن ارتباط قصة الحب في الفيلم بواحدة من أهم وأعرق قصص العشق في
التاريخ العربي والإسلامي وربما العالمي بما أنها كرمت عند الإيرانيين
والأتراك وغيرهم من المسلمين وكانت درسا مهما في الحب لشعوب غير إسلامية
مثل الهنود مثلا.
هذا البعد الإنساني الذي أعطاه الربط بين قصة الحب في الفيلم وقصة قيس
وليلى التاريخية جعل رسالة الفيلم غير موجهة للعرب والفلسطينيين فقط (من
باب طمأنتهم على عراقتهم التاريخية ودورهم في الاحتفاء بالحب في التاريخ
الإنساني) وإنما موجهة أيضا إلى بقية البشر في العالم لتذكيرهم بالدور
العربي في تعليم الإنسانية الحب والعشق، ومن ثم التذكير بإنسانية هؤلاء
العرب ومن خلالهم الفلسطينيين.
هنا نأتي إلى الخلفية، خلفية الفيلم أو خلفية الصورة السينمائية فيه،
إنها الحياة اليومية للشعب الفلسطيني في خضم الحرب اليومية المفروضة عليه
من إسرائيل والحصار المقيت الذي تقوم به ضده وتشاركها فيه أغلب الدول
"المتحضرة" في العالم.
بالنسبة لتواضع الإمكانيات الإنتاجية فقد جعلتها سوزان يوسف تتكامل مع
حكاية فيلمها من خلال نقطتين، النقطة الأولى المحيط الفلسطيني الذي لا يخلو
من آثار دمار وخراب في المباني، فاعتماد الفيلم على آثار دمار حقيقية
ومتنوعة لم يكن مكلفا إنتاجيا واستغل استغلالا جيدا من المخرجة ليؤكد على
مسألة مهمة في تكوين الفيلم وهو واقع الدمار المتواصل الذي لم يختفي من
حياة الفلسطينيين، خلفية الصورة هذه أبرزت أيضا واقعا اجتماعيا واقتصاديا
فلسطينيا مترديا لم يمكنه تحمل أعباء عملية إعادة بناء، الشيء نفسه رأيناه
حتى في حالة المساكن القائمة والشوارع المهملة وأثاث البيوت المتواضع.
النقطة الثانية أو العنصر الفني الآخر الذي استعملته سوزان يوسف
بكثافة لإنجاح فيلمها رغم الإمكانات البسيطة، اللقطات القريبة والمتوسطة
وذلك للتقليل من الحاجة إلى الديكور، هذا الاختيار بدا متكاملا جدا مع
مضمون حكاية الحب في الفيلم بحيث أعطت صور الكلاوز آب التي قربت إلينا شخوص
وأبطال الفيلم إحساسا جميلا بالقرب منهم والتعاطف معهم والاندماج مع
حيواتهم، التي هي عبارة عن ساعات كثيرة من المعاناة ولحظات قليلة من
السعادة المشوبة دائما بالخوف والحزن والإخفاق والموت والبكاء، إضافة إلى
ضغط المجتمع.
ونحب أن نشير هنا إلى خصوصية مهمة في لغة سوزان يوسف السينمائية وهو
استعمالها بشكل ذكي وجميل أسبقيات وخلفيات وثقافة جمهورها، فعند تفكيكها
للصور المسبقة عن العربي أو الفسطيني في التراث المرئي الغربي كانت تبني
على علم جمهورها بذاك التراث، وكذلك بالنسبة للدمار العام الذي لحق بالمدن
الفلسطينية التي صورت فيها، فلم تقل ولا مرة واحدة أن سببه هي الإجتياحات
الإسرائيلية التي لا تنتهي، وعندما دار الحديث عن المخيمات لم تتم الإشارة
إلى أن سكانها هم ممن هجَّرتهم إسرائيل خلال كل حروبها مع الفلسطينيين وذلك
منذ ما قبل 47. هذا التخفيف في المعلومات التاريخية في الحوار وغيره
والاعتماد على ذاكرة واطلاع الجمهور نجح في عدم تحويل أنظار الجمهور عن قصة
الفيلم ونأى به عن الإحساس بالملل من تكرار أشياء باتت معلومة بالضرورة...
بعد هذا التقديم المطول نسبيا أحب أن أتحدث عن الفيلم مع إثارة بعض
التفاصيل وإعطاء بعض الأمثلة.
كما في أي فيلم، أول ما ننتبه إليه جمالية الصورة وإيقاعها، وهي مسألة
نسبية، ففي فيلم "حبيبي راسك خربان" لم تسعى سوزان يوسف أن تقدم إلينا صورة
منمقة وملطفة تعكس مناظرا وألوانا أخاذة، لقد قدمت إلينا صورا عفوية ذات
خلفيات وألوان لا تطغى على مكونات الصورة من الذوات، من جهة أخرى فإن إطار
الصورة الذي له دور مهم في توجيه تركيزنا على تلك الذوات وخاصة شخصيات
الفيلم جعلنا أكثر وعيا بأحاسيس وعالم تلك الشخصيات، الأمر الذي أبقانا على
تواصل دائم بحكايتنا الرومانسية دون تحويل أنظارنا إلى جماليات الصورة
التشكيلية أو بعض المواضيع والأفكار والأحاسيس ذات الصبغة السياسية مثلا
كما نرى ذلك في أغلب الأفلام المتحدثة عن فلسطين.
من جهة أخرى تتميز صورة الفيلم رغم بساطتها بالتنويع على مستوى
التأطير والخلفيات، فنحن ننتقل خلال الفيلم بين عديد الأماكن والمواقف،
وحتى حين يكون المكان واحدا كما في مثال السيارة فإن الإطار يتبدل حسب ثلاث
عناصر:
الوقت، من خلال الليل والنهار..
الأصوات، وذلك مع وجود موسيقى قوية مثلما جرى في تلك الجولة الليلية
لليلى بصحبة الخطيب الجديد، أو بدونها كما حدث في باقي اللقطات المأخوذة في
السيارة.
الألوان، من خلال لَوْنِ داخل السيارة و-أو ملابس شخوصنا وصورة
الخارج، وذلك على غرار ما رأينا في إحدى المشاهد التي ألبست فيها سوزان
يوسف أحد أبطالها الأحمر وغطت آخر سيارتها بالأحمر أيضا ما أعطى تناسقا
لطيفا.
في البيت في الداخل وحين يتكرر تصوير هذا الداخل، نجد تنويعا أيضا،
حيث تكون خلفية الصورة إما جدارا (والفيلم اشتغل كثيرا على الجدران البسيطة
المفرغة من أي ديكور) ذو لون موحد بارد في الغالب، أو ديكور بيت فلسطيني
متواضع جدا.
في إحدى المشاهد الداخلية لبيت ليلى كانت الخلفية قاعة الجلوس بأثاثها
المتواضع لونيا وتشكيليا، وفي خضم الحكاية وقد غلب على ليلى الغضب دفعت
بأهم عنصر في الديكور وهو تلك التلفزة المتواضعة التي لم تكن تشتغل أثناء
المشهد وأسقطتها على الأرض ما أعطى وجودا لذلك الأثاث القليل الأهمية الذي
كان ممسوحا لبساطته وقلة الإضاءة عليه، أعطاه ذلك الحدث دورا دراميا في
غياب دوره التشكيلي.
وهذه الخلفية الدرامية للديكور رأيناها أيضا في إحدى مشاهد اللقاء بين
الأب أبو ليلى وابنته، حيث تكونت الخلفية من مشهد للأفراد النائمين من تلك
العائلة المهجرة أو الهاربة من الدمار الإسرائيلي، نعم كانت الصورة تستفيد
تشكيليا من ألوان الدثارات التي كانت تغطي أفراد تلك العائلة ولكن عمق
الخلفية كان يكمن في القيمة الدرامية التي تعكسها حياة تلك العائلة
الفلسطينية، والتي كانت خلفية مشهد الحوار الذي دار بين الأب وابنته وهي
تترجاه أن يسمح لها بالسفر إلى غزة وحدها دون أخاها..
هذا واقع الصورة داخل جدران البيت، أما خارجها فخلفيتها نفس الجدران،
حيث رأيناها في الليل وفي النهار، في أول مرة رأيناها من زاوية جانبية
يقبلها بطل فيلمنا "قيس بن الملوح"، ورأيناها بعد ذلك من زاوية مقابلة مثل
لوحة تشكيلية حيث أصبحت حاملة للخط المكتوب بالأحمر لشعر قيس بن الملوح
التاريخي إلى ليلى الفلسطينية، ما خلق لها المشاكل وتسبب في حبسها في
البيت..
من جهة أخرى اعتمدت سوزان يوسف في تصوير حكايتها الرومانسية في الخارج
على خلفية الواقع الأمني وواقع المقاومة التي يعيشها الفلسطينيون بشكل
يومي، وأكثر مشهد يعبر عن هذا الأسلوب هو مشهد ليلى وهي تتأمل من قريب جدا
كتابات قيس على جدار يفترض أن يكون وراءه جيش الاحتلال أو مواقع
للمستوطنين، فبينما كانت ليلى في شبه هيام مع الجدار الذي كتب عليه قيس
أشعاره، كان الأطفال يمضون ويأتون رامين بالحجارة وراء ذلك الجدار الذي
قاربته ليلى مثل رسالة غرامية.
ولكن حذار هنا أن نتصور أن هذه الخلفية الاجتماعية والأمنية التي
تتعلق بالحياة اليومية لأبطال فيلمنا كانت قد غطت على موضوع الفيلم العاطفي
وصراع الحبيبين مع محيطهما الاجتماعي والثقافي من أجل لقائهما المنشود، لقد
حاولت المخرجة أن تستعمل تلك الخلفية في حدودٍ جمالية ليس إلا، وهي لم
تقدمها بحيث يصبح الفيلم مجموعة مواقف عن الاحتلال والحصار الإسرائيلي
المضروب على كل من غزة والضفة، لم نشعر خلال كامل الفيلم أننا إزاء توزيع
للمواقف من مخرجة نسيت عالم فيلمها وشخوصه، لقد بقينا خلال الفيلم مرتبطين
بالحكاية المتينة الحبكة والقوية المعنى واقعيا وتاريخيا، وقد شاهدنا في
الفيلم، من حين لآخر، لقطات تذكرنا بأبعاد الرسالة الأساسية في الفيلم
وارتباطاتها العِشْقِيَّة وخاصة مع حكاية قيس وليلى التاريخية. في إحدى
المشاهد رأينا كيف وقف أبو ليلى متسائلا حول اسم عائلة قيس ابن الملوح حين
جاءه هذا الأخير خاطبا يد ابنته ليلى، ففي مزج بين شخصية الشاعر قيس بن
الملوح التاريخية وشخصية قيس ابن الملوح في رواية فيلمنا دار ذلك الحوار
الشبه سريالي الذي استغرب فيه أبو ليلى أن يكون في مدينة خان يونس عائلة
تحمل اسم الملوح. لقد ذهبت دراما الفيلم من خلال حوارها الطريف في المزج
بين شخصيتي الحكايتين التاريخية والفيلمية حدا جعلنا نسبح في جو من
الغرائبية أحسسنا معه بالتقاء الزمنين القديم والجديد في حياة الفلسطينيين.
ما أحدثته هذه المقاربة إلى جانب تذكيرنا بالعراقة التاريخية للعرب في
العشق، كما سبق وقلنا، أنها خففتنا من ثقل الإحساس بالواقع الحاضر العنيف
والمؤلم، بحيث ركزنا على دفئ ولطف قصة الحب بين قيس وليلى الفلسطينيين.
من جهة أخرى أثر ارتباط اسم قيس الفلسطيني باسم قيس ابن الملوح
التاريخي على التكوين الدرامي لبطل فيلمنا، حيث كانت شخصيته عاشقة هائمة
غائبة عن الواقع، هذا الواقع الذي كنا نحسه أكثر في شخصية ليلى التي لم
تبتعد عنه، كما لم تذب فيه أيضا، لأنها بقيت تطالب حتى النهاية بحقها في
الحب والعشق والفرحة..
وللتعرف أكثر على شخصية ليلى في الفيلم والتي أدتها بإتقان وطراوة
وصدق ممثلة موهوبة، قلت للتعرف على هذه الشخصية فإن علينا عدم مقارنتها
بشخصية قيس فقط وإنما مقارنتها أيضا بشخصيات الفيلم الأخرى حيث تبدو ليلى
مثل همزة الوصل بين شخوص الفيلم المختلفة، بين المشدودين منهم إلى الحب
والهوى بحيث ابتعدوا عمليا عن الواقع، والمرتبطين منهم بهذا الواقع
الاجتماعي والسياسي والتقليدي الذي عمقه وزاده تعقيدا واقع الاحتلال
والحصار الإسرائيليين.
وأكثر شخصية أخرجها عشقها عن الواقع شخصية قيس ابن الملوح وشخصية
الشاب الذي كان يحلم بالحب والذي أصابته رصاصة إسرائيلية في رأسه فقضت
عليه، وقد كان أداء الممثل الذي قام بهذا الدور عفويا وظريفا وصادقا.
أما الشخصيات التي ربما تقف على طرف نقيض من هاتين الشخصيتين فهي أبو
ليلى، أمها، شقيقها وأصحابه..
ونشير هنا إلى أن تقديم الفيلم لشخصياته "السلبية" (تلك الشخصيات التي
كانت تتحرك من خارج عالمي قيس وليلى) هي إحدى أجمل إبداعاته حسب رأينا،
فأسلوب الفيلم لا يذكرنا بأفلام الميلودراما العربية والغربية، حيث تصور
الشخصية التي تقف في وجه البطل قبيحة سوداء، الشخوص "السلبيين" في دراما
سوزان يوسف لم يكونوا سلبيين تماما لسبب بسيط هو أن سوزان يوسف لم تنزع
عنهم حقيقتهم الإنسانية.
ورغم أن هؤلاء الشخوص السلبيين كانوا يتدخلون بعنف أحيانا إلا أنهم
كانوا يتفهمون في الأخير ويصفحون عن أبطال الفيلم ولا يؤذونهما. وهذا الأمر
يصدق على أفراد عائلة ليلى، على الشابان الغريبان اللذان رأيناهما على
الشاطئ، وحتى على الجنود الإسرائيليين أنفسهم حيث كانوا "متسامحين" مع ليلى
وقيس، فرغم ضربهم وتهديدهم وابتزازهم لهما فقد قاموا في النهاية بإطلاق
صراحهما.
التكامل بين الصورة والحوار في أسلوب شعري إيحائي:
يؤكد شكل الحوار وحجمه في الفيلم على البعد الشعري للحكاية، حيث جاء
مثل الشعر مقتضبا وإيحائيا، وفي إحدى المشاهد التي صورت بطل فيلمنا في
سيارة أجرة وهو يكتسي لباسا أحمر على ما أذكر ويستعد لعبور نقطة تفتيش
ويتطلع إلى العالم أمامه بتلك النظرة التي ميزت هذا الممثل الكبير وهي نظرة
من يتعرف لتوه على عالم كأنه لا يعرفه ويخشاه في نفس الوقت، في هذا المشهد
ضمن لقطة قريبة تكشف لنا ضمن تخومها عن جزء بسيط من فضاء السيارة ما زاد من
إحساسنا بالضيق، سأل قيس بن الملوح سائق التاكسي الذي لم نره: "كم من الوقت
سننتظر؟" فأجاب سائق التاكسي دائما دون أن نراه: "ساعة ونصف". بهذا المشهد
المقتضب -ولكن المكثف جدا سينمائيا- تعرفنا على مأساة نقاط التفتيش بالنسبة
للفلسطينيين وألم الانتظار عندها وتخيلنا السجن الكبير الذي يحبس فيه
الفلسطينيون، وذلك دون أن نرى لا نقطة التفتيش ولا سائق التاكسي ولا
المسافرين مع قيس ولا طابور السيارات ولا جنود الاحتلال ولا شيء...
في نفس هذا الأسلوب السينمائي التقشفي والمبسط والمعبر في ذات الوقت
تمتعنا بذلك المشهد الداخلي الذي جاء على إثر مشهد الشاطئ الذي باغت فيه
شابان مجهولان بطلينا وهما يحاولان ممارسة الحب بين الصخور، داخل بيت قيس
في غزة وصلت ليلى محملة بخوفها مما جرى لهما عند البحر، خوف آزره إحساس
داخلي بمرارة غدرها بأبيها وخشيتها من الفضيحة، فكانت تطلب من قيس أن يتأكد
أن لا أحد يتعقبهما، وبعد إلحاح منها وخوف أحسسناه بين ضلوعنا وبعد غياب
لقيس في الخارج مليا، رجع الأخير مطمئنا وفي يده حبتي شكولاطة قال أنه
اقتناهما من المحل المجاور، أعطى واحدة منهما لليلى وأبقى الأخرى معه. لقد
أحسسنا في هذا المشهد بكل أحاسيس الخوف والرجاء ثم الاطمئنان والحب، هذا
بينما لم يكن في المشهد غير ليلى وقيس وجدار باهت كخلفية مع غياب لأي
موسيقى تصويرية... إنها صناعة الأحاسيس بمتانة الحكاية والتركيز عليها وعلى
عالم شخوصها ضمن إطار مدروس وزمن للمشهد واللقطة يأخذ من الوقت ما يلزم.
صورة الرجل الفلسطيني
في تضاد مع الصورة السلبية التي روج ويروج لها الإعلام الغربي عن
الإنسان العربي ومن ورائه الإنسان الفلسطيني، حاولت سوزان يوسف -كما في
طرحها لموضوع الحب في الحكاية- التركيز على البعد الإنساني عند الرجل
الفلسطيني، وكونه ليس "إرهابيا" أو -في أحسن الأحوال- معاد للمرأة..
وكانت سوزان يوسف في تصويرها لما يمكن أن يمثل الرجل الفلسطيني تلعب
على الصورة المسبقة السلبية تلك، الأمر الذي صنع نوعا من التشويق أثناء عرض
تصرفات شخوصها ومواقفهم، وهذا "اللعب" الدرامي أتقنته سوزان تماما وخاصة
خلال تصويرها شخصية أبو ليلى، فهذا الشخص على عكس شخصية الرجل العربي في
الإعلام والسينما الغربيين بدا شخصا متوازنا وحكيما وحبيبا لابنته، لقد
كانت المخرجة سوزان يوسف تسمح لنا بقضاء وقت مطول مع بورتري هذا الأب
الإنساني والصادق واللطيف رغم بعض شدته، كما نجحت في تصوير العلاقة بينه
وبين ابنته ليلى بشكل ودي وتلقائي، إن العاطفة الكبيرة والحب السامي لم
نلمسه في الفيلم بين قيس بن الملوح وليلى فحسب بل رأيناه وأحسسناه أيضا بين
هذه الأخيرة وأبيها، وقد أضاف جمال الممثل الذي أدى دور الأب إلى حسن أدائه
زيادة تألقٍ وأناقةٍ للشخصية.
صورة الإسرائيلي
في إطار الحديث عن نفس اللغة السينمائية المختصرة والمبسطة والمعبرة
جدا في سينما سوزان يوسف، صورت الأخيرة المستوطن الإسرائيلي الذي يقتل
الفلسطيني ويصادر أرضه والجنود الإسرائيليون الذين يقومون بتدمير الحياة
الفلسطينية بآلتهم العسكرية ويقفون على بوابات السجن الكبير الذي حبسوا
داخله الفلسطينيين، صورتهم من خلال جلبتهم وركزهم وفعلهم القمعي دون صورهم
الجسدية، وأكبر مثال للتعبير عن هذا الأسلوب التصويري (إلى جانب مثال قتل
ذاك الشاب الفلسطيني الحالم برصاصة إسرائيلية لم نرى قناصها) مشهد نقطة
التفتيش الحدودية مع مصر حيث كنا نسمع حديث وصراخ الجنود الإسرائيليين في
وجه أبطال فيلمنا وهم يضربونهم ضربا مبرحا وعنيفا ولكن دون أن نرى وجوههم
ولا حتى أقدامهم التي كانوا يطئون بها وجه ليلى ورأسها، إن هذه الصورة
السلبية للإسرائيلي أو الصورة الصوتية والفعلية له دون المرئية في فيلم
سوزان يوسف أطلقت العنان لخيال المتفرج كي يشكل الصورة التي يريدها عن
الإسرائيلي وذلك على ضوء ما يراه في الفيلم من جرائمه وتعدياته وآثار
الدمار الذي خلفته آلته الحربية..
صورة المرأة الفلسطينية
أول ما يسترعي انتباه المتفرج في شخصية المرأة في فيلم "حبيبي راسك
خربان" صورة بطلتنا ليلى التي تتميز بارتدائها حجابا إسلاميا، فقد استخدمت
سوزان يوسف هذا الأسلوب من اللباس لعدة أغراض، الغرض الأول يرتبط بأسلوبها
في استعمال نفس الصورة التي تحرض من خلالها أغلب وسائل الإعلام المرئية في
الغرب جماهيرها على الكراهية ضد العرب والمسلمين، ولكن سوزان يوسف اشتغلت
على صورة المرأة المحجبة تلك لتفكيكها ولتسمح لنا بالمقارنة بين ذلك اللباس
الذي هو مجرد اختيار شخصي وشخصية ليلى الإنسان من خلال حياتها اليومية
وتفاصيل معاناتها في صراعها الاجتماعي والثقافي وفي سعيها للمحافظة على
حريتها كإنسان وكامرأة، هذا كله في ظل احتلال إسرائيلي يهين المرأة والرجل
الفلسطينيين ويعبث بحياتهما وأملاكهما بشكل يومي.
هذا دراميا، جماليا استعملت سوزان يوسف الحجاب لتنوع -من خلال أساليب
ارتدائه وتكوين ألوانه- في لقطاتها وصورها السينمائية القريبة والمتوسطة
لليلى، كما استعملت الحجاب لصنع أحداث سينمائية من خلال خلعه في البيت
وإبراز ليلى دونه، في إحدى المشاهد في الخارج رأينا ليلى وهي تلبس النقاب،
بحيث يصبح النقاب نفسه شكلا لا يغطي شيئا غامضا محل شكوك وإنما شخصية فتاة
نعرفها حق المعرفة وهي فتاة عاشقة مناضلة حرة قوية، كل هذه الأطوار في لباس
ليلى مرت جميلة وعفوية ودون إثارات، وحتى ذاك التلاعب بالأصابع داخل سيارة
الأجرة بين قيس وليلى المحجبة –الذي افتتحت به سوزان يوسف فيلمها- لم يكن
مثيرا جدا حيث بقي على استحياء. الطور الوحيد الذي لعبت فيه سوزان يوسف على
جسد المرأة العربية المحجبة هو حين عرتها وأرتنها مع قيس في البنوار، ولكن
حتى في هذا المشهد لم يكن مشهد العراء هذا مقززا لأنه لم يكن متناقضا مع جو
الحكاية وبقي متماشيا مع صورة سوزان يوسف غير المبتذلة للمرأة عموما.
ونحن إزاء فيلم موضوعه الحب كنا ننتظر أن يكون هناك شيء من هذا، خاصة
مع موجة العري التي تجتاح السينما العربية في الفترة الأخيرة بسبب ودون
سبب، وهو عري يعكس في أغلبه استغلالا لجسد المرأة من أجل أهداف تجارية ليس
أكثر، وذلك دون مراعاة لقيمة المرأة الإنسانية وكرامة المرأة العربية التي
تعاني من عديد المظالم في الداخل والخارج..
في فيلم "حبيبي راسك خربان" (الذي أخرجته امرأة عربية ولدت في نيويورك
ولها جنسية أمريكية ولبنانية) تعرت البطلة ليلى في البنوار، المكان
التقليدي للعري وشهادات الحب في الأفلام الرومانسية الغربية، عند سوزان
يوسف، وأنا لست متأكدا حسب النسخة التي رأيتها إن كان ما جرى حدث في الواقع
أم في الحلم، رأينا ليلى وهي تدير ظهرها العاري إلى الكاميرا وهي جالسة في
وسط البنوار وقيس أمامها في كامل ثيابه يصب عليها الماء، كان مشهدا متواسقا
تماما مع عذرية حب قيس ابن الملوح التاريخي لليلى، كما كانت له ظلال شبه
أبوية، فلا يحمم الحبيب حبيبته وهو في كامل ثيابه..
من جهة أخرى وفي نفس موضوعة المرأة صورت لنا سوزان يوسف بطلتنا ليلى
وهي تخون تعهدها لأبيها حيث أخبرته بأنها ذاهبة إلى غزة من أجل التسجيل في
الجامعة ووعدت بأنها سوف تعود إليه، بينما ذهبت لتلتقي بقيس ثم قررت أن تفر
معه إلى مصر ومنها إلى هولندا. ولكن المرأة عند سوزان يوسف ليست خائنة
لعهدها رغم أنها صورتها أقرب إلى الوفاء لحبها لقيس منها لوعودها لأبيها،
كان علينا أن ننتظر المشهد قبل الأخير في الفيلم لنتعرف على صورة المرأة
عموما والمرأة الفلسطينية بشكل خاص عند سوزان يوسف، لقد انتظرنا حتى وصلت
بنا أحداث القصة عند الحدود مع مصر وبالضبط عند نقطة التفتيش الإسرائيلية
حيث تعرفنا على عمق وعراقة ووفاء المرأة الفلسطينية، فرغم التهديد والضرب
المبرح على يد الجنود الإسرائيليين، أصرت ليلى على عدم الخيانة ورفضت أن
تفر مع حبيبها قيس إن كان ثمن ذلك التجسس على "المقاومة" وخيانتها لشعبها،
وهو العرض الذي تقدم به الجنود الإسرائيليون لقيس ثمنا لمساعدته على الزواج
من ليلى...
وفي آخر مشهدين في الفيلم رأينا كيف رضيت ليلى بأن تتزوج العريس
المقتدر الذي اختارته لها عائلتها رغم أنها لا تحبه ورأينا كيف أنها ذهبت
إليه وحدها في خطوات ثابتة ربما تعكس موقفا جديدا منها اتجاه قيس بن الملوح
الذي ربما بدا ضعيفا أكثر من اللزوم، فبعد عدة اختيارات فاشلة أولها
تَرْكُهُ الجامعة والعمل في البناء وآخرها تركه هذا العمل وإتباعه طرقا
ملتوية للهجرة إلى هولندا.. قررت ليلى هجره وقرر هو الموت بعدها، حيث
رأيناه في ذاك المشهد، ضمن أسلوب سوزان يوسف السينمائي، يمشي وحده على
خلفية أنقاض بيوت هدمتها آلة الحرب الإسرائيلية فيناديه طفل لا نراه محذرا
إياه من القصف الإسرائيلي الذي ذهب بحياة مصور إيطالي في ذات المكان قبل
يومين..
ما أشبه قدر قيس وليلى التاريخيان بقدر قيس وليلى الفلسطينيين..
في الختام نذكر باعتقادنا أن فيلم "حبيبي راسك خربان" لسوزان يوسف هو
فيلم جميل ومتميز على عدة صعد وخاصة على صعيد لغته السينمائية التي اعتمدت
إيمائية وبساطة في حواراته واختصارا كبيرا في عدد ممثليه وتقشف واضح في
ديكوره، لقد تجاوزت سوزان يوسف محدودية الإمكانات الإنتاجية للفيلم لتكثف
مشاهدها وصورها سينمائيا، في مزج مبدع بين حوارات مختصرة وصور جيدة التأطير
ودراسة متميزة للألوان والخلفيات التي حتى وهي تبدو أحيانا متواضعة في
قيمتها التشكيلية تنقلب مشحونة ومكثفة دراميا بما تعكسه من حياة
الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي وظروف عيشهم في كل من غزة والضفة..
سينماتك في 12
مارس 2012
|