اثار فيلم(المحادثة) لفرانسيس فورد كوبولا عند عرضه عام 1974 حالة من الفزع
لدى الامريكيين وجيرانهم الاوربيين من ان تكون خصوصية الفرد منتهكة الى هذا
الحد،فاستحق بجدارة نيل السعفة الذهبية في مهرجان كان.
رغم المغزى السياسي للفيلم والذي فسر على انه ادانة شديدة لادارة الرئيس
نيكسون على خلفية فضيحة ووترغيت،الا ان كوبولا ذهب بفيلمه ابعد من ذلك
محاولا استشراف شكل الحياة الامريكية في ظل انتهاك السلطة لحرمة الفرد
واخضاعه للمراقبة باستخدام احدث مبتكرات التكنولوجيا من اجل خلق مجتمع
منضبط،لكن مروض. كان امرا مخيفا بالنسبة لغالبية الناس مجرد الاعتقاد انهم
مراقبون حتى في غرف نومهم.
كان بطل كوبولا (جين هاكمان)الخبير في عمليات التنصت متفان في تتبع كل
صغيرة وكبيرة تثير الارتياب،لدرجة ان سلوكه الشخصي اصبح انفعاليا غير
ودود،خاصة حينما لا تاتي عمليات المراقبة بنتائج مثمرة بنظر المسؤولين. مع
هذا يجب الاستمرار بذلك العمل السري خدمة لسلامة المجتمع والدولة.
الامر غير السار هنا هو ان ثمة استهتار متأصل في الوسيلة الي تستخدمها
السلطة للمراقبة،فتلك اللاقطة الصغيرة التي توضع خفية في معطفك او هاتف
منزلك او سيارتك قد تقودك الى السجن او الموت،وربما تفتح شهية المتنصتين
لسماع المزيد من ثرثرات الازواج او العشاق او الموظفين التي لا تحمل غالبا
أي معنى في قاموس السلطة السياسية المنغمسة في التفتيش عما هو خطير.
السطة لا تني تبرر لجمهورها سياساتها تلك،وتفلسف فعل المراقبة بالضرورات
الامنية التي تضمن سير المجتمع من دون مفاجئات غير سارة. الرقيب ذات مطيعة
لسلطة قوية تحول الفرد المراقَب الى موضوع.ومن الناحية الفعلية الرقيب هو
ذات واقعية تمارس فعلها الشخصاني بالتجسس على الاخرين،استجابة لسلطة خيالية
لا يحضر خلال فعل المراقبة سوى قيمها واوامرها المجردة.
***
بعد مرور اكثر من ثلاثة عقود على فيلم (المحادثة) تناول المخرج الالماني
فلوريان هينكل في فيلمه المثير(حيوات الاخرين) الحائز على جائزة الاوسكار
لافضل فليم اجنبي عام 2007،الاثار المؤرقة والمآساوية التي تتركها اساليب
السلطة في التنصت على المواطنين عشية حكم النظام الشيوعي لالمانيا
الشرقية،وكيف يتسبب اخضاع الناس للرقابة المتواصلة بخلق حالة من التفكك
المجتمعي وتفشي الخوف والاحباط لدى الافراد،وتاليا ضياع فرص النمو الانساني.
ومع الصورة الموحشة لعزلة الفرد في المجتمعات الشمولية لن يكون في الافق أي
شئ متروك للصدفة،انها انظمة صارمة لا تؤمن بحريات الراي وتخشى على نفسها من
حدوث اية تغييرات،لذا تجدها محكومة بترهات التشكيك والتخوين.
في(حيوات الاخرين) يكتشف العميل المكلف بمراقبة منزل احد المثقفين المشكوك
في ولائه للسلطة،ان الحياة الشخصية للمثقف وزوجته حافلة بالمعاني الانسانية
والقيم النبيلة،حياة خيرة وليست شريرة كما يدعون،ولا يمكن تكذيب اجهزة
التنصت والكاميرات المزروعة في كل غرف البيت. هل يحق لنا مراقبة زوجين
يمارسان الحب في فراشهما؟
في كلا الفيلمين جرى مقاربة التحولات التي تطرأ على سلوك وقناعات الشخص
المكلف بالمراقبة،والى أي حد سيكون بوسعه اخيتار حريته الخاصة وسط تعنت
السلطة.
في فترة السبعينيات كانت وسائل التنصت بدائية نوعا ما ويجري التحكم بها
وقراءة شفرات محتواها باستخدام خبرات افراد مدربين للقيام بمهام سرية من
هذا النوع. اما في وقتنا الحالي فان الحياة برمتها اصبحت رهن شبكة تجسس
عملاقة تديرها الاقمار الصناعية والآلات المبرمجة وملايين كاميرات المراقبة
واجهزة التنصت،فضلا عن عملاء وكالات الاستخبارات.
***
فيلم المخرج الشاب ادم رافكن (( LOOK انتاج 2007 يطرح مشكلة اكبر تمس حياتنا الراهنة وهي الرقابة الشاملة
وغير الضرورية على افعال الناس واحاديثهم في المطاعم والمتاجر والحمامات
والكراجات والجامعات والطرق وقاعات الاجتماعات ومكاتب العمل وسواها.
ان الرقابة اصبحت وسيلة ناجعة متعددة الاغراض وغير مقصورة على السلطات
الحكومية فقط،انما باتت امرا قانونيا مشروعا في كل البلدان المتطورة،يجري
استخدامها من قبل ادارات الشركات والمصانع ومجمعات التسوق والاماكن
التجارية والساحات العامة،ويحق للافراد ايضا مراقبة ما يدور في منازلهم.
يمكن القول ان فعل المراقبة واحد وان اختلفت اهداف المراقبة
ودواعيها.المراقبة رديفة العقاب.والشخص المُراقب هو كائن مكشوف سقطت عنه
الاقنعة.
هل يمكن لحياتنا ان تكون من دون اقنعة؟ كم من السلوكيات
العجيبة،المخزية،يمكن لكاميرا المراقبة ان تسجلها على الفرد في خلوته ؟
في اولى مشاهد فيلم(انظر) نطالع بعين كاميرا المراقبة فتاتين مراهقتين
تغيران ملابسهما في منزع لتبديل الملابس في احد المجمعات التجارية. تخلع
الفتاتان الملابس الداخلية وتتحرشان ببضعهما في مزاح جنسي مثير.تسرق احدى
الفتاتين قطعة ملابس من المحل من دون ان يمسك بها. قد تكون المراقبة غير
فعالة احيانا،لكن ليس بالنسبة لشخص غير معلوم في الطرف الاخر يستمتع بما
يجري. ولكن على الرقيب ان يخلص في مهمة المراقبة لان هناك من يراقبه ايضا.
في مكان اخر من المدينة تُقدم عصابة للخطف والابتزاز على قتل شرطي في طريق
عام لدى محاولته تفتيش صندوق سيارتهم. يقتل الشرطي ويرمى على قارعة
الطريق،فيما تسجل كاميرا سيارة البوليس كل تفاصيل الجريمة التي يهتدي
المحققون من خلالها الى القبض على الجناة باستعادة فيلم الكاميرا التي تصور
الحادث من دون شريط صوتي.
رجل وزوجته يضعان كاميرا صغيرة في مكان خفي بمنزلهما لغرض مراقبة سلوك
مربية المنزل مع مولودهما الجديد خلال ساعات غيابهما.فيما تسجل كاميرا احد
المطاعم المحاولات المتكررة لشخص مختل نفسيا يسعى لاختطاف طفلة صغيرة من
امها.
يذكر الفيلم في مفتتحه ان الفرد الامريكي يجري تسجيله يوميا باكثر من 200
كاميرا مراقبة تم نصبها في اماكن مختلفة.
تكمن مصداقية هذا الفيلم الطليعي في توظيفه مشاهد صادمة مأخوذة من اشرطة
مراقبة حقيقية تمت منتجتها مع مشاهد اخرى مصورة بشكل منح الفيلم روحا
وثائقية يراد لها اثبات مصداقية ما يجري حولنا.وعبر اساليب سرد مؤثرة تخالف
ما هو نمطي يعمد الفيلم الى اثارة اسئلة حول المغزى من وراء رصف كل هذه
المشاهد التي تبدو للوهلة الاولى انها لا تتصل فيما بينها وكاننا امام
تقرير تلفزيوني،يُثبت التاريخ وموقع الكاميرا ورقهما في كل مشهد.
يبدو ان هناك من يتلاعب بنا وسيظهر لاحقا ان المخرج قد طوّر قصصا وحوادث
ذات معنى لايصال الفكرة وزيادة جرعة التشويق.وفي عدد غير قليل من المشاهد
عمد المخرج الى حجب وجوه الشخصيات الحقيقية،وناور في الانتقال من مشاهد
كاميرات المراقبة الى مشاهد اخرى جرى تصويرها من زوايا مماثلة لمواقع
كاميرات المراقبة،وهي عملية شاقة جعلت التفاعل مع الفيلم يسلك طريقا محددا
هو النظر بعين كاميرات المراقبة وعلى المشاهد ان يستدل بنفسه على نوع
المشهد الذي يراه من خلال الاختلاف اللوني فيه.
ذكاء هذا الفيلم الذي يشبه اطلاق مزحة لاذعة انه وضعنا رغما عنا في موقع
المتلصص. احيانا يسرك التلذذ بمشاهدة ما لا يمكن مشاهدته في العلن،كحالة
مدير المبيعات الذي يظهره الفيلم مرارا وهو يضاجع خفية عددا لا باس به من
موظفات المجمع التجاري الذي يعمل فيه،مدعيا انه مغرم بكل واحدة منهن.او ذلك
الاستاذ الجامعي المحافظ الذي يقع تحت ضغط الاغراء ضحية لمؤامرة تدبرها
احدى طالباته وتنتهي بمضاجعتها داخل حرم الجامعة. الانكار هنا غير نافع لان
شريط المراقبة يثبت عكس ذلك.تدان الفتاة لادعائها انها اغتصبت من قبل
استاذها،الروائي المعروف،ويدان الاستاذ لانه انكر حصول الواقعة. وعلى
الدوام الكاميرا تراقب والسلطة تعاقب.
مكان(التلصص- المراقبة)هو فسحة شيطانية جذابة،ليس من السهل سايكولوجيا
التخلي عنها،فمهما دافعنا عن حق الافراد باحترام خصوصياتهم وكتمانها،تجدنا
ضحية سهلة لاغواء فعل التلصص على حيوات الاخرين.
ولكن لا احد يجادل ان شهوة التلصص وان كانت اصيلة نفسيا قبل ان يفككها
فرويد حتى،ليس من حقها والحال كذلك ان تتسبب بالحاق ضرر ما بموضوعها(الذات
المُراقبة).
فعل المراقبة بحد ذاته اصبح ثقافة خاصة.ووسائل المراقبة(الكاميرات)المنتجة
بماركات واشكال مختلفة من قبل اكبر شركات الصناعة الالكترونية،باتت اليوم
سلعة متطلبة من الناس انفسهم الذين يشعرون بامان اكبر بوجودها داخل او خارج
منازلهم.
الا ان استعادة شريط المراقبة لحظة مشاهدته سيجعلنا نبدو افرادا
مختلفين،مزدوجي الهوية،انفصال مراوغ للذات،يصعب التعرف اليه وتسويغ آثاره.
وباستعارة عبارة رولان بارت وهو يعاين صورته:"انا الذي لا يتطابق ابدا مع
صورتي".
سينماتك في 15
أغسطس 2011
|