زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"قطار الى بوسان يقدم: بيننسلا" للكوري الجنوبي يُن سانغ ـ هو.. أرض الرَدى

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
 
   

كتبنا من مهرجان كانّ السينمائي الدولي، يوم 11 أكتوبر 2016، لصالح صحيفة يومية عربية تصدر من لندن، نقداً إحتفائياً بشريط الكوري الجنوبي الموهوب يُن سانغ ـ هو، "قطار إلى سيول"، وإعتبرناه "دُرّةٌ سينمائية اخترقت صميم أبوكاليبتية "فيلم الكوارث والترويع"، ساحبة منه غلوّه الفّج لصالح محيط متقشّف، إلاّ أنه مثير بحركيته، ومُغرٍ بمتغيرات مكانه، ومُبهج بتلوّن مغامرات أبطاله المجتمعين داخل قطار سريع ومرفّه ومحصّن، يتجه من سيول إلى مدينة بوسان الساحلية". اليوم، نقارب الجزء التابع له تحت عنوان، يُثبَّت إستمرارية فكرته وعوالمها وجغرافيتها وجنونها، "قطار الى بوسان يقدم: بيننسلا"، بعد أن ضَمَنَ مكاناً بارزاً على قائمة الإختيارات الرسمية للدورة الـ 73 الملغاة، بسبب جائحة فايروس الكورونا، وحمل تبجيل المفوض العام للمهرجان تييري فريمو وفريقه عبر وسم "كانّ 2020".

هذه المرّة، نكتب بعيداً عن الكروزايت بشاشاتها وفرحتها وحشودها، مفتقدين معايشة لوثة جماعيّة، صادفناها قبل أربعة أعوام خلال العرض الخاص للجزء الأول، ضمن خانة "أفلام منتصف الليل"، تنتاب بالضرورة مهووسي أشرطة الزومبي (الموتى الأحياء) وفزّاعاتهم مثل طاعون سينمائي، وتسحرهم مغامرة البطل الشاب جُنغ سوك (الممثل غَنغ دُنغ ـ وون)، قبل أن نسمع صيحات حماساتهم، ونشهد تصفيقهم المسهب والعنيد، وهم مخطوفون بإيقاعها المدهش، ومشهدياتها المحتشدة بالعنف والديناميكية.

يبدأ "بيننسلا"، أو"شبه الجزيرة" كوصف جغرافي لبلاد منكوبة ببلاء عشائر ظلام ودّم، من حيث إنتهى القسم الأول، بوصول سيدة حامل بصحبة إبنتها البكر الى حصن عسكري وأمانه. هذه حُرْمَة لن تطول، ذلك إن جحافل أهل فتنة، قاموا من فناءاتهم، وأتوا من اللا مكان، ستكتسح كل شيء، وتهدد ما تبقى من بشر شبه جزيرة، يلفّها موت أزلي، وبالضرورة العالم لاحقا. في الفيلم الجديد الذي يُفتتح بجثة زومبي جامدة، تعود لها الحياة فجأة مع سماعها هدير سيارة كابتن مشاة البحرية جُنغ سوك، برفقته شقيقته وزوجها وإبنهما، فارين نحو ميناء مهجور، للحاق بسفينة تقلهم الى هونغ كونغ.

تتعاظم الكارثة التي لا تلوي على شيء، ومنها القيم والشفاعات، ويصبح همّها إخضاع البطل وإنسانيته الى إمتحان شرس، حين تعترضهم سيدة ورضيعتها ومعهما جدها المدمى، وتناشده إنقاذ الصغيرة على الأقل من "مستذئبين ضدّ ما هو بشريّ". يُصبح، ما يقدِم عليه العسكري الشاب، بعد حيرة قصيرة، عندما تجاوزهم ببرودة أعصاب، إثماً سيلاحقه طوال الساعتين القادمتين. ترى كيف خانته المروءة، وكيف ماتت فيه نخوته؟. هذا الغدر سيحتاج لاحقا الى إنقلاب أخلاقي، يقوده نحو كفارة دمويّة، ومضنية بالتعهدات، ومشحونة بالوجع والمخزاة والضيم.

دار الفيلم الأول برُمَّته داخل قطار فالت، يطارد الزومبي الأصفر ركابه في مقطورات ضيقة، بيد إن الناجين يجدون على الدوام حيلاً للنأي بلحمهم ودمائهم بعيداً عن إسنان "الغزاة". أما الشريط الجديد، فهو أرض مفتوحة، يحاصرها ظلام وهيبة وإرهاب عاسف طويل ومضن. يتشارك مع نظيره بثيمة درامية متشابهة هي الذَوْد عن عائلة، والإنتصار الى جماعية مهددة. كان المقطع الأول مبنياً كوحدات إيقاعية راقصة مذهلة، فيما تشكّل "بيننسلا" من سلسلة بنائية تراكمية من تشويق حركيّ، يفور تارة برونق صوريّ صادم، خصوصا مع الدخول المفاجيء لشخصيتيّ الشقيقتين الصغيرتين الى "أرض الرَدى"، وإنجاد بطل محاصر، يتماهى لهن طيفاً لأب بديل، قبل أن يخبو على مدى فصول طويلة، يصل بعضها الى حد الملل، كما هو الحال في مقاطع محاولة جَنغ سوك إنقاذ زوج شقيقته المتحولة الى زومبي، الأمر الذي حرفه عن مسار أن يكون نصّاً مجوداً لما قبله، أو على الأقل أن يأتي بنزعة أبوكاليبتية أكثر إبتكاراً مما تابعناه من مطاردات سيارات، مصممة بروحية الأسترالي جورج ميلر في "ماكس المجنون: طريق الغضب" (2015)، أو سلسلة "السرعة والغضب" (2001 ـ 2019)، أو منازلات رومانية، على غرار "مصارع" (2000) البريطاني رَدلي سكوت، أو أكوام الزومبي وهي تتعاظم ككتل من شاربي دماء وآكلي لحوم بشر، تتسلق أسوار مدينة القدس المحتلة، مثلما ظهر في شريط الألماني مارك فورستر "الحرب العالمية للزومبي" (2013)، إلا أن ما يشفع الى سانغ ـ هو موهبته في "تثوير" تكويناته البصرية ضمن مشاهد رئيسة، تتعقَّد أُطرها الى ما يشبه لعب ألكترونية ورسوم متحركة زاخرة بالحيوية رغم سوداويتها، يتواجه فيها رجل صنديد مع كائنات لا تتوقف عن "تفريخ" ذاتها، أو تصدّها موانع أو قنابل، كما تجلّت في الفصول الملحمية لتعقبها سيارة الطفليتن (بطلتا روح الدعابة في الفيلم)، ولاحقا شاحنة والدتهما مِن جُنغ (الممثلة لي تشانغ يَن) ذات الشخصية المتنمّرة والجسورة على طول الشوارع الوحشية، أو ما عُرض ضمن المشهدين الناريين لحلبة المصارعة، حيث تدفع زمرة من عسكريين سابقين وفاسدين سجناءهم الى مواجهة دموية وهالكة مع جيش من المتحولين، قبل أن يقتحمها البطل المقدام لنجدة صهره. إن وهج هذه الفصول يعود أيضا الى موهبة المونتير يانغ جِن ـ مو، الذي ترشح الى جوائز الأوسكار عن جهوده في تقطيع شريط مواطنه بونغ جوون ـ هو "طفيليون" (بارسايت) 2019، فما أنجزه هنا دار حول مناورات لولبية المسارات بين فكاهة وإرتياع، بين حماسات وتكهنات، بين تطهَّر سينمائي من هلع وإيمان بدهاء.

يستثمر شريط سانغ ـ هو، الذي توزعه شركة "ستوديو كَنال" في المملكة المتحدة، وشركة "وِل غو يو أس أي" في الولايات المتحدة الأميركية، بفطنة كل مقومات التهييج السينمائي. تارة، من باب الجزع، حين يحوَّل الحجر الصحي ما تبقى من بشر شبه الجزيرة الى ميليشيات ضالة، غارقة ببحر من تصفيات وتخابث وريبات. وأخرى، من باب التهويل، حيث يُعظَّم المخرج سانغ ـ هو من تأثير حجم وحوشه وكتلهم المتراصَّة وتكاثرهم اليقيني كفناء عارم، على منوال ما أظهرهم سيلاً دموياً محجوراً خلف زجاج مركز تجاري مهدم، قبل أن يستخدمهم البطل الشاب لاحقا سداً ضد بَغْي المليشيات وجشعها في الإستحواذ على مبلغ 20 مليون دولار، طلب منه رئيس عصابة دولية إسترجاعه مهما كلف الأمر، وهو سبب بائِخ ولا موضوعي يبرّرعودته الى العاصمة "هرباً" من المدينة الصينية، بعد أن أمضى بين أحيائها العدائية أربع سنوات عجاف من "هجرة" جبريّة، تستكمل خسارات عائلية سابقة. وثالثة، من باب التحارب، حيث تصبح العسكرة الشاملة للشريط منتوجاً عولمياً في زمن اللا دولة وموت سطوتها وقوانينها، يجب الإيمان به (التحارب) كتكتيك تلقائي، وربما كخلاص وحيد، عندما تشتدَّ علينا نوائبنا وسلطانها. يصل فيلم "بيننسلا" بمشاهده هنا الى نقطة حرجة، تقارب مفهوم القيادة وزمامها وتفويضاتها، والتي تتوزّع حصصها بعدالة بين بطل شاب، يتلبَّس مُسوح شخصية هاملت كوري غارق في غمَّ عاطفي جارح، وأم تتشبَّه بالألهة "كاوس"، الربَّة الأولى لهذه الخليقة حسب الميثولوجيا الإغريقية، والمفوَّضة بتجميع ما يتناثر من سديمنا العائلي. هو، من أجل المال والنجاة، وهي من أجل هاتف خلوي عسكري، ينقذ بنتيها من موت لازم. لكن لإنصاف هذه العدالة، فإن مَن يحقق إجَارَة هذا الرباعي في نهاية المطاف، هو فريق من الأمم المتحدة بقيادة سيدة بدينة تدعى الميجر جين التي تشدّ من عزم الطفلة الكبرى، الشاهدة تحت دموعها محاولة الإنتحار التي تزمع والدتها في إرتكابها، عوضاً عن الوقوع ضحية لأنياب موتى سائرين، بقول بائر ومنافق: "لقد إتخذت قراراً منطقياً للغاية، الأفضل لصالح الجميع"!. وهي غمزة من ناحية "هاملت الكوري" الذي نراه يفيق فجأة، ويقرر إسترداد مبدأه الذي خسره سابقاً، عندما تخلى عن الأم وطفلتها، معلناً لها: "عمك سيعيد والدتكما". في المشهد الختامي، مع إختراق مروحية الإنقاذ الشاشة، وهم جميعا على متنها، ترتفع كاميرة مدير التصوير البارع لي هُن دُك، المعروف بإشتغالاته المميزة في "قطار الى بوسان" (2016)، و"الخادمة" (2010) و"سيل حديدي" (2017)، فوق مدينة منكوبة تحت أفق كالح وفان، وكأنها تُحذرنا إن الكتلة البشرية الحداثية لم تعد تستحكم الى خيالها وجبروته، وإنما تقودها مصالحها وجدوى حياتها الفانية، وهي خطايا تعدم بدّم بارد كل نزعة إنسانية لدى أفرادها.

حاول نصّ سانغ ـ هو جاهداً إقناع مشاهده، عبر غزاة دمويين محتملين حسب أمثولة الزومبي الأصفر، بفكرة إننا سّكنة أرض رَدى، يقتلنا نفاقنا وغربتنا، ولا تغادرنا فرديتنا المتنامية، بيد أن كمية التشويق وإغواءته "غرّبت" الهدف لصالح نفس تجاري بحت، جعل من "بيننسلا" أكثر أفلام  فترة الكورونا التي نمر بها الآن، مردوداً مالياً في عروضه الأسيوية، إذ جَنَى 20.8 مليون دولار في إسبوعه الأول (19 يوليو 2020)، محيياً الآمال بشأن نهضة سوق العروض الدولية التي إنتكست بشدة نتيجة لإنتشار الفايروس، ما يوكد ما ذهبنا اليه في مقالتنا عن الجزء الأول أن "هذا "الجنر" السينمائي عابر للقارات، وأن لا والي له أو عليه".

سينماتك في ـ  22 يوليو 2020

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004