زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

الجونة السينمائي الثالث

"نوتردام النيل" للأفغاني عتيق رحيمي..

الدّم عند أبوابها!

بقلم: زياد الخزاعي

 
   
 
 

تصف الكاتبة الراوندية سكولاستيك موكاسونجا الموقع الرئيس في روايتها "نوتردام النيل" (2012)، التي صدرت ترجمتها العربية عن "الهيئة المصرية للكتاب" بالقاهرة، بجمل مدائحية وتفخيمية على شاكلة " ليس هناك مدرسة ليسيه أفضل من ليسيه نوتردام"، أو "في أغلب الأحيان يُضلَل الغيم الليسيه"، أو" كم يبدو مظهر ليسيه نوتردام النيل مدعاة للفخر"، أو "الليسيه مبنى كبير مكون من أربعة طوابق، أعلى من الوزارات في العاصمة"، وغيرها، ذلك إن الحيز الذي يحمل أسم كاتدرائية سيدة الشفاعات الشهيرة بباريس، هي رحم طبقي لسلالة مَنْ سيتبوأن مقاليد المجتمع الحاكم في راوندا. أفلمة الروائي والمخرج الأفغاني الفرنسي عتيق رحيمي التي حملت عنواناً بديلاً هو "سيدتنا عند النيل"، المعروضة ضمن المسابقة الرسمية للدورة الثالثة (19 ـ 27 سبتمبر 2019) لمهرجان الجونة السينمائي، تبدأ مع فتيات الليسية وليست عن جدرانها. ترشدنا المشاهد الإفتتاحية الى موقعها الباهر فوق قمة جبل، يُتفرض إنه حصن طبيعي لمنبع النيل، وهي "إشارة قداسية" تجعل من خريجات المدرسة المشرفة على أرض الله الأفريقية، منتخبات بقوّة الكنيسة ورعايتها لإداء مهمات قيادة الأمة، ذلك إن "الذين يقبلون تحدى إختيار الله، يتوقع منهم أن يطيعوه، فيكرسون حياتهم لخدمته"، كما تقول موازين الإيمان. لرواية موكاسونجا نهجها القائم على تأريخية تعميد المدرسة، ولاحقا تأريخية دماء الحقد العرقي التي ستدق أبوابها، وتنكل بـ"ملائكتها"، فيما وضع رحيمي إهتمامه حول المصائر، وكيفية تُرسّمها كقرابين سهلة لذلك الحقد، عبر  تصوّير يوميات مدرسة داخلية كاثوليكية لنُّخبة نسويّة جديدة. مراهقات ينتمين الى عائلات ثرية أو أُسر ديبلوماسيين رفيعي الشأن أوعسكريين من ذوي النفوذ، يعشن تكافلاً محصَّناً بالإيمان وتزمَّت الإدارة والتقاليد الأفريقية. بيد إن ما يحاك خارج أسوار "الليسيه"، المشادّة على إرتفاع ألفي متر "أقرب ما نكون من السماء" حسب مديرتها الفرنسية، هو إعلان سياسي لخصومات عميقة، ستغيَّر مصير الصبيَّات الحالمات بمستقبل واعد، مثلما ستدفع بالجميع الى أتون حرب عرقيّة دمويّة.

في أربعة فصول (براءة، مقدّس، تدنيس، تضحية)، وخمس فتيات وكثير من تآمر، وتعليق شعريّ بصوت جدة البطلة مودستا عن "أرض تعاني من فوضى"، و"كولونياليين يسعون الى إستعمار العالم عبر ضياع أنفسهم"، يصوّغ رحيمي تاريخاً مصغَّراً لعقيدة وميثولوجيا ضاربتين في القدم، وحاضر مفعم بدسائس ورياء وإنتقام، تتجسّد في شخصيات لئيمة كالأم الرئيسة وصرامتها وقسوتها، والقس الأسود وإستغلاله لسطوته، والمدرسين الفرنسيين والبلجيكيين وغضّهم الطرف عن دّم الإبادات من حولهم. ضمن حيّز إجتماعيّ مَوْتُور، تقع البطلات الصغيرات تحت طائلة كذبة عابرة وسوء نيّات الثنائي مودستا وغلوريوزا، وإدعاء تعرضهما لإعتداء زمرة من الشباب "التوتسي"، ما يحولهما الى بطلتين لدى"الهوتو"، قبل إن يرد أولئك الشباب على التُّهمة الزور بإقتحام المدرسة، والتنكيل بالجميع، ما يعدّ بداية مجازر ستحصد أرواح مليون إنسان.

الفيلم الروائي الثالث لرحيمي، الذي ولد في كابل عام 1962، لعائلة ليبرالية مشهورة. إستقر في فرنسا منذ العام 1985. أصدر أول رواياته "أرض ورماد" عام 2000 (أفلمها رحيمي عام 2004). تبعها بعد عامين بـ"ألف غرفة للحلم والرعب"، ومن ثم "حجر الصبر" (2008) ، التي حاز عنها جائزة "الغونكور" الأدبية، بعد صدور طبعتها الفرنسية عام 2012،  بشاشته العريضة والفريق المميز لممثليه، هو نكاية سينمائية لهشاشة البشر، وإنقيادهم الليّن للكراهيات وإستغلال المكانات والنفوذ، مثلما هو إستعارة ساخرة لقناعات بغيضة تتكشَّف على لسان راهبة سوداء، تقول أمام طالباتها إن: "أفريقيا جغرافيا. أوروبا تاريخ. السبب إن الإفارقة أميون"!.

سينماتك في ـ  23 سبتمبر 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004