زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

الجونة السينمائي الثالث

"عيد القربان" للبولندي يان كوماسا.. لن يغسل الدناسات

بقلم: زياد الخزاعي

 
   
 
 

يُقدَّم البولندي يان كوماسا شّريطه الروائي الثالث "عيد القربان"، المعروض ضمن المسابقة الرسمية للدورة الثالثة (18 ـ 27 سبتمبر 2019) لمهرجان الجونة السينمائي، على إنه مقاربة لـ"سرّ تجربة روحيّة فرديّة، سواء في قداساتها أو أدناسها. تواجه فيها الشخصية الرئيسة دانييل رهان دعوتها الى مواجهة قيود تفرضها بُنى تقليدية، بيد إنه يجد من المستحيل إستخدام أي من عطاياها (الدعوة) لإحداث تغيير حاسم. إنه صدام مأساوي وسط محنة مجتمع منعزل ومضطرب، يكتم لوعة عميقة". من قلب هذه الغُمَّة، يطرح نصّ كوماسا أسئلة مباشرة وشجاعة: كيف نقارب مفهوم الإيمان وتقواه والثبات فيه؟. أيّ مسار ناجع نراهن عليه كي يغيَّر نفوساً معذَّبة، تظن إنها لن تعثر على خلاصها؟. هل الإيمان بكثرة صلواته أم بترهب عميق وأعمى؟. أين يقع الخط الفاصل بين النجاة والتضحية واللعنة والإنتقام لدى مّنْ هو مزيَّف؟. مَنْ هم الأقربون الى الله، هل مَنْ نالتهم المصائب أم مَنْ إختبروا عطاياه، ورضوا بها؟.

تضع هذه الأسئلة الإستفزازية الشاب دانييل (إداء لافت من باتروش بيلينيا) في قلب مفارقات سوداء، تقوده الى قلب الريف البولندي حيث البطريركية الكاثوليكية متحكّمة في حيوات بشر، يعيشون في عالم متكافل لكنه شديد التنافر. فلاحون تجمعهم مصيبة حادث أودى بأحبتهم، وينتظرون إشارة ربّانيّة، تُنهي تشظّيهم الجماعيّ، تتجسّد لاحقا في شاب ذا سوابق إجرامية، يبلغ من العمر 20 عاماً، ينجح في الإفلات من الإصلاحية، ويجد نفسه مأخوذاً بلعبة تخفّيه تحت رداء ديني، إختلسه من الشخص الذي علمه الكهنوت في كنيستها الفقيرة: القس توماش، مقدماً نفسه مبعوثاً لقيادة أرواحهم المضطربة، متحاشياً في آن "عبودية" العمل في ورشة النجارة، والخضوع الى إرادة صاحبها الفاسد.

مستوحياً من أحداث حقيقية، يصوغ كوماسا، الذي ولد في مدينة بوزنانيو في العام 1981، ودرس الإخراج السينمائي في مدرسة لودز للأفلام. عرض فيلمه القصير الأول " سعدنا برؤيتك" في مهرجان كانّ السينمائي، ضمن مسابقة "سينفاونديشن" (2004)، ونال الجائزة الثالثة فيها. شارك في تظاهرة "بانوراما" في مهرجان برلين السينمائي بباكورته الروائية "غرفة الإنتحار" (2011)، نصّ مواقف مليئاً بالوقاحات والدهشة، يبدأ بفعل عنيف يمارسه نزلاء ضد شاب، وينتهي بمشهد صاعق، صوره بيوتر سوبوجينسكي بكاميرا محمولة إستفزازية، يتحوّل فيه دانييل الى وحش دموي، لإن الخلاص الذي عاشه بين الريفيين لم يصل الى عمق إنسانيته. فكلما سعى للإفلات من ذنوبه، يبقى ماضيه شاخصاً أمامه، تارة عبر شخصية نزيل سابق يحاول إبتزازه، أوعبرعودة قس الإصلاحية الساعي الى إعادته لأرض قصاصه وثوابه، بعد إكتشافه السرقة الشائنة. الصاعق، إن دانييل الذي "يُقلِد" ما تعلمه من ذلك الكاهن، يُرغم الأهالي من دون قصد على "الإيمان" بـ"معجزاته"، وإتباع "إسلوبه المتحرّر في العبادة ومخاطبة الربّ"، لكنه عندما يخترق عناد القرويين ورفضهم دفن المتسبب بالحادث لإنه "آثم"، يواجه بعنف سؤاله العصيّ: ترى كيف ينظر مرتكب السوابق الى خطاياه الخاصة؟. 

فيلم كوماسا، الذي حقق شريطه الطويل الثاني "وارسو 44" نجاحاً تجارياً كبيراً في بولندا، بعد أن أنجز عدداً من النصوص الوثائقية منها "التجمع الحاشد" (2007)، و"إنتفاضة وارسو" (2014)، يملُك طاقة درامية هائلة، ويمزج بحصافة بين كوميديا سوداء، تُحيط بعالم مغلق لشاب مازال ـ في العرف القانوني ـ طريداً، ولا يتوانى من إتباع غرائزه في تعاطي الهيرويين، الى إغواء أول شابة يلتقيها ويمارس الجنس معها من دون تردد، مع ميلودراما محسوبة الخطوات، تُنسج بتأن حول رعية غارقة في يوميات مكرورة وحيادية، وأسيرة لكربها وعداواتها التي نراها تتهاوى لاحقا مع خطبة دانييل البطولية في المشهد الختامي، حين يُعلن بشجاعة نادرة ومفاجئة، كاشفاً عن وشوم إنتمائه الى عالم وضيع: "إنني قاتل"، من دون أن يُقِنع أحداً بعاره، ذلك لإن النجدة التي جلبها الى نفوس أعماها الخصام ونوايا الثأر، لن تُمحى (أوعلى الأقل) لن تخترقها الريبات.

سينماتك في ـ  21 سبتمبر 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004