صلاح سرميني

 
سيرة جديد مقالات ملفات
 
 
 
 

ملفات

 

>>>

120

119

118

117

116

 

موت النقد السينمائي "العربي"

عاشت ثرثرة الفيس بوك

كتابة: صلاح سرميني/ باريس

 
 
 

منذ شهورٍ كنتُ أنويّ تخصيص عدد كامل من المجلة الإلكترونية "شورت/كُراسات الفيلم القصير" لإشكاليةٍ جدليةٍ تحت عنوان "موت النقد السينمائي".

ولكن، حالما تبيّن لي بأن القارئ/الجمهور العربي ليس بحاجةٍ إلى نقدٍ، ولا مجلة، ولا ثقافة سينمائية، يكفيه استهلاك السينما كما أيّ سلعة أخرى.

في كلّ الأحوال، أتحدث هنا عن النقد السينمائي "العربي".

وبدون الدخول في تفاصيل الأسباب.

سوف أقدم مثالاً يمكن أن ينطبق على أيّ مهنة.

عندما يصبح كلّ واحدٍ منا طبيباً، فلن يحتاج أحدٌ إلى طبيب.

وبالمثل، عندما يصبح كلّ واحد منا، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعية، ناقداً، يُدلي برأيه كما يشاء (وهذا من حقه)، يعني ذلك، وتدريجياً، ومع مرور الوقت، بأننا لن نحتاج إلى نقاد سينما كما كان الحال مع متابعتنا لجيل النقاد القدامى الذين رحلوا.

فوضى النقد السينمائي، وتحوله إلى ثرثرة في صفحات التواصل الاجتماعية، سوف تقتل النقد السينمائي.

تماماً كما قتلنا بأنفسنا صالات العرض، وتخيرنا المُشاهدة المنزلية، القانونية، وغير القانونية

وتجعل الناقد السينمائي المُحترف حبة رملٍ في صحراء شاسعة.

*****

عندما بدأتُ الكتابة عن السينما، تأثرتُ بكتابات النقاد العرب عن السينما الجادة، والبديلة، والمُحترمة، وكنت أحتقر، وأسخر من أيّ فيلمٍ لا يدخل في هذا الإطار الضيق عن السينما، وهكذا، كنت أشنّ حروباً نقدية على الأفلام السورية، واللبنانية المُنتجة من طرف القطاع الخاص، والسينما المصرية التجارية حتى سافرت إلى فرنسا، وعشت فيها، وبدأت أشاهد السينما بكلّ أنواعها، ومستوياتها النوعية، ويوماً بعد يوم، اكتشفت بأن النقد السينمائي العربي خدعني، ولم يكن نزيهاً، ومنصفاً، وموضوعياً في حقّ السينما في عمومها، كما اكتشفت بأن الذوق السليم، والعالي لا يتحقق فقط بمُشاهدة الأفلام التي يحتفي بها النقاد العرب، ولكن، هناك أذواقٌ تختلف من شخصٍ إلى آخر، وحتى عند الشخص نفسه، وهذه الأذواق المختلفة تتوافق مع كلّ نوعيات الأفلام من أكثرها نخبويةً، إلى أقلها تواضعاً، وهكذا بدأت أهتمّ بمشاهدة كل شيء في السينما، وأصبح ذوقي ينتقل بسهولةٍ من الأفلام التجريبية إلى الأفلام الهندية، إلى أفلام الرعب، إلى الأفلام ضعيفة المستوى "الدرجة الثانية، والثالثة".

وكما كنت أدافع عن السينما النخبوية، بدأت أدافع بنفس القدر عن الأفلام متواضعة المُستوى، ولا أحصر ذوقي في نوعٍ معينٍ من السينما، ولا أوجّه المتفرج نحو مخرج، أو فيلم بدلاً من مخرجٍ، أو فيلمٍ آخر.

مشاهدة الأفلام النخبوية، أو الجيدة، أو الممتازة من وجهة نظر الناقد، والمتفرج لا يجب أن تمنعه عن مشاهدة الأفلام الجماهيرية، والأقلّ جودة، وحتى المتواضعة إلاّ إذا كان ناقد أفلام معينة، وليس ناقد سينما.

ومشاهدة الأفلام المتواضعة، لا يعني بأنها لا تقدم نفس المتعة التي تقدمها الأفلام الجيدة، إلاّ إذا كان هذا الناقد لا يستمتع أصلاً بحياته.

ومشاهدة الأفلام المتواضعة، والكتابة عنها، وتحليلها، لا يعني بأن الناقد قد تخلى عن مهمته.

على العكس، الناقد الذي يوجه المتفرج إلى نوعيةٍ معينة من الأفلام، ويحذّر من نوعياتٍ أخرى، ناقدٌ لا يتمتع بالصدق، والموضوعية، والنزاهة، وهو يخدع المتفرج، والقارئ، والمتابع، ويريد أن يكون وصياًّ على اختياراتهم، وأذواقهم.

لحسن الحظ، والتقنيات العلمية الجديدة، أصبح المتفرج اليوم يعتمد على نفسه في المشاهدة، ولم يعّد بحاجةٍ إلى الناقد كما السابق، وسوف يأتي اليوم الذي تضع الأجيال القادمة كلّ كتاباتنا النقدية في الصناديق، بينما تنتقل الأفلام من متفرجٍ إلى آخر.

*****

إن لم يكن النقد السينمائي (العربي) قد مات فعلاُ، أتوقع بأنه سوف يموت، أو بكلمةٍ أقلّ كآبةً، سوف يختفي.

أول هذه الأسباب، أنّ الأجيال الجديدة لم تقرا كتابات النقاد القدامى، ولم تصلهم أصلاً هذه الكتابات ماعدا القليل من الذين حرصوا على اقتناء التراث النقدي الورقي، والاحتفاظ به، وقراءته.

ولهذا، تمتلك هذه الأجيال الجديدة فكرة "صنمية" عن النقاد القدامى تمّ سماعها، وتداولها بالنقل، تماماً كما حدث، ويحدث مع التراث الديني.

وهكذا، سوف تجد بأنّ معظم القراءات النقدية ليست أكثر من تلخيص حكايات الأفلام، والدوران حول الفكرة، والشخصيات، والأحداث، مثل الحكواتية في زمنٍ مضى.

ولكن، من أين جاءت هذه الطريقة في الكتابة؟

ببساطة، من قراءة ما وصل إلى هذه الأجيال من كتابات النقاد القدامى، والتي كان معظمها لفّ، ودوران حول الحكاية، وكأنّ الناقد يكتب عن رواية، وليس فيلماً.

من تمكن من قراءة الثقافة السينمائية بلغةٍ أجنبية يتقنها، تخلص قليلاً من تلك الطريقة الحكواتية التي أصبحت مقياساً، ونموذجاً.

وهنا الورطة الحقيقية، حيث أصبح كلّ من يريد أن يخرج من هذه الدائرة (المقياس/النموذج)، شخصاً غريباً على النقد السينمائي (العربي)، وحتى ضرورة مواجهته سواء من المتفرج/القارئ، أو النقاد الحكواتية أنفسهم.

*****

كيف يمكن تفسير نقداً يكتبه ناقدٌ قديمٌ عن مخرج احتفى العالم السينمائي به، وهذا الناقد يكتب عنه نقداً تقريظياً، وببعض السطور ينسف سينما بلده؟

هناك من سوف يقول، ولكن من حقّ هذا الناقد، أو غيره إبداء رأيه بمخرج ما.

طبعاً، من حقه أن يفعل ذلك، ولكن، عندما ينجز هذا المخرج أفلامه بأسلوب خاص به، يتوافق مع أسلوب سينما بلده، تماماً كحال السينما الهندية، وخصوصيتها، فإنّ أولى مهمات الناقد أن يدرس، ويحلل هذا الأسلوب بدون أن يُسقط على المخرج، وسينما بلده أسلوباً آخر مستوحى من أساليب سينماتٍ أخرى.

وكما أكتب دائماً:

مهمة النقد "البناء"، وليس "الهدم".

مهمة الناقد أن "يقرّب" المتفرج من الفيلم لا أن "يُبعده" عنه.

مهمة الناقد أن يجعل المتفرج "يحبّ" هذا الفيلم، أو ذاك، حتى لو افترضنا بأنّ الناقد "لا يحبّ" الفيلم.

وأخيراً، سوف أقدم مثالاً :

كلّ من يشاهد أفلاماً أفريقية، يعرف بأنها تمتلك خصوصيةً لا نجدها في سينماتٍ أخرى، هنا، وحتى إن كان الناقد لا يميل إلى السينمات الأفريقية، فإن مهمته المهنية أن يقرّب المتفرج منها، ويشجعه على مشاهدتها بتحليل خصوصيتها.

وكما ينطبق هذا المثال على السينما الأفريقية، ينطبق أيضاً على السينما الهندية، وعلى أيّ سينما في العالم.

ذئابٌ لا تأكل اللحم

(ذئاب لا تأكل اللحم، إخراج اللبناني سمير أ. خوري، إنتاج مصر/لبنان/الكويت عام 1973)، هذا الفيلم، لو شاهدته منذ سنواتٍ، وأقصد عندما كنت متحمساً للنقد المُراهق، لكنتُ اعتبرته واحد من أسوأ الأفلام العربية، وحفرت بمعولي النقديّ حفرة عميقة له..

اليوم، وبعد أن هدأ ذاك الحماس النقدي، أعتبر هذا الفيلم "قطعة سينمائية أثرية"(وهذا التوصيف يختلف عن معنى "التحفة الأثرية") يتوّجب علينا إعادة قراءته من منظوراتٍ مختلفة بغضّ النظر عن المستوى النوعيّ للفيلم الذي يتناسب ونوعية أفلام جماهيرية أُنتجت في فرنسا فترة السبعينيّات، وكانت تجذب إليها جمهوراً واسعاً.

هناك تقاطعاتٌ مثلاً بين "ذئاب لا تأكل اللحم"، وأفلام المخرج الفرنسي جان فرانسوا ديفي الذي كان يبحث عن الإثارة فقط، بينما أيّ مخرج عربي، ولأسبابٍ رقابية رسمية، وغير رسمية، لا يكتفي بها، وإنما يمزجها مع مشهيات سينمائية أخرى.

مثلاً، من بين الملاحظات التي خطرت على بالي: إمكانية تصوير الفيلم بكامله في دولة الكويت في بداية السبعينيّات (مع مشاهد العريّ الكامل لبطلاته، والمثلية الجنسية النسائية).

أكان التصوير في الكويت، أو في مصر، أو في أيّ بلد عربيّ آخر، فهذا يعني، بأن السينما وقتذاك كانت أكثر حريةً من اليوم، وبالتالي، كان الجمهور العربي منفتحاً، ومتسامحاً إلى درجةٍ كبيرة.

من خلال أفلام كهذه يمكن قراءة تلك المجتمعات، أو إعادة قراءتها: العادات، السلوكيات، التفكير، الأخلاقيات....

ومن أجل هذه الأغراض الدراسية، والبحثية مترافقة مع متعة مشاهدة تراث السينما، فإنّ مشاهدة هذه الأفلام، وحتى إعادة عرض مختاراتٍ منها في الصالات التجارية، ضرورة حتمية سوف يثبتها المستقبل القريب.

غرام في إستانبول

كان الخطأ الأكبر الذي وقع فيه مخرجو القطاع الخاص فترة الستينيّات، هو استخدام الممثلين من سورية، ولبنان اللهجة المصرية بدون أيّ مبرر (مثال : "غرام في إستانبول" للمخرج "سيف الدين شوكت"، وإنتاج عام 1967)، وكانت الحجة تسويق هذه الأفلام في السوق المصرية، وكان هذا الاستخدام السيء للهجة ـ برأييّ ـ من أكثر العوامل التي ساهمت في إبعاد تلك الأفلام عن مصر(بالإضافة إلى مشكلة التقليد).

ولكن، أعتقد بأنه حتى مع استخدام اللهجات الشامية، ما كان لهذه الأفلام أن تصل، والدليل بأنه منذ الستينيّات وحتى اليوم، لم تتمكن السينمات العربية، وبسبب مجموعة من الذرائع، من اكتساب مكانة لها في السوق المصرية في الوقت الذي وجدت بعض الأفلام العربية لها مكاناً في الصالات الأوروبية، وخاصة فرنسا.

تحتاج هذه الإشكالية إلى إعادة تفكير، خاصةً وأن السينما المصرية، ومنذ تاريخها، تستقطب ممثلين عرب، كما أن الجمهور المصري، ومنذ بعض السنوات، تعوّد على مشاهدة المسلسلات السورية، والاستمتاع بها، وحتى الحديث عن منافسة مع المسلسلات المصرية.

يبدو لي، بأن هذا التهميش للسينمات العربية ناتجٌ عن "السياسة السينمائية المصرية" نفسها قبل أن تكون لهجات، وجمهور...

ومع الأزمات، والقضايا الخلافية الحالية، أتجرأ القول، بأن السينمات العربية، وحتى سنواتٍ قادمة، لن تجد لها مكاناً في الصالات السينمائية المصرية.

والحل: هو إنشاء صالة صغيرة متخصصة تبدأ من القاهرة، ويتمّ تعميمها تدريجياً في المدن الكبرى، تعرض أفلاماً من كلّ أنحاء العالم، ومنها أفلاماً عربية.

أتوقع بأن تكون هذه المبادرة مشروعاً سينمائياً، ثقافياً، وتجارياً بالآن ذاته، فقط، يحتاج إلى منتجٍ "ثوريّ" بحقّ لا يكتفي بالشعارات، والبيانات، والاحتجاجات.

سينماتك في ـ  24 يناير 2023

* هذه المواد نشرت في جريدة التيار السودانية، بتاريخ 27.11.2022

 

>>>

120

119

118

117

116

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004