صلاح سرميني

 
سيرة جديد مقالات ملفات
 
 
 
 

ملفات

 

>>>

60

59

58

57

56

 

Un Chien Andalou

كلبٌ أندلسيّ

كتابة: روجر إيبرت

ترجمة: مروة أحمد

 
 
 
 

قال لويس بونويل ذاتَ مرة، أنه إذا قيل له أن لديه 20 عاماً لكي يعيشها، وسُئل كيف يريد أن يعيشها، فإن ردّه سيكون: "أعطني ساعتين فقط من اليقظة خلال اليوم، وسأقضي الـ 22 ساعة المتبقية في الأحلام، شريطة أن أستطيع تذكرها فيما بعد".

ظلت الأحلام هي الحبل السُرّي لأفلامه، فمنذ بداياته كفنانٍ سورياليّ في باريس، حتى نجاحه السينمائي في أواخر العقد السابع من عمره، كان منطق الحلم في الغالب يطغى على الواقعية في أفلامه، ذلك التحرر أضفى عليها طابعاً مميَّزاً للغاية، بحيث تستطيع التعرَّف إليها على الفور، مثلما يحدث مع أفلام ألفريد هيتشكوك، وفيدريكو فيلليني.

كان فيلمه الأول "كلبٌ أندلسيّ" (1928)، الذي كتبه بالتعاون مع الفنان السوريالي المُشاكس سلفادور دالي، لم يكن مقرراً أن يبدو العنوان "كلب أندلسي"، أو أيّ شيءٍ آخر داخل الفيلم منطقياً، لكنه رغم ذلك يظلّ من أشهر الأفلام القصيرة المُحققة في تاريخ السينما، وأيّ شخص مهتم، ولو بقدرٍ بسيطٍ بالسينما، سوف يشاهده عاجلاً، أو آجلاً، وغالبا ًأكثر من مرة.

كان الهدف من هذا الفيلم إحداث صدمة للمجتمع تقلب الأمور فيه رأساً على عقب، قال الناقد السينمائي أدو كيرو: "لأول مرة في تاريخ السينما، يحاول مخرجٌ تنفير جميع المشاهدين المحتملين بدلاً من إرضاءهم، كان ذلك في الماضي، أما الآن، فالوضع مختلف، فاليوم يتمّ استيعاب جميع تقنيات هذا الفيلم حتى مع الاتجاه السائد بأن قيمة الفيلم الصادمة أصبحت أقلّ تأثيراً، باستثناء ذلك المشهد الشهير حيث يتم شقّ مقلة العين، أو ربما المشهد الذي يسحب فيه الرجل آلة البيانو الضخمة المربوط فيها الكهنة، وتقبع الحيوانات الميتة أعلاها...

حريّ بنا التذكر أن فيلم "كلب أندلسي" لم يقدمه إلينا بونويل، ودالي، هذان العجوزان اللذان نراهما في الصور، وإنما قدمه إلينا شابان يافعان في العقد الثاني من عمرهما، لديهما الكثير من الجموح، والانتشاء، كانا يعيشان الحرية بكلّ مقوّماتها في باريس أثناء عصر الجيل الضائع.[i]

هناك صلةٌ كامنةٌ بين السورياليين، وسيكس بيستولز (Sex Pistols)، بين بونويل، ودافيد لينش، بين دالي، وداميان هيرست (الفنان الذي عرض نصف نعجة داخل مكعب من البلاستيك)، يقول بونويل في سيرته الذاتية: "رغم أن السورياليين لم يعتبروا أنفسهم إرهابيين، إلاّ أنهم يحاربون دوماً المجتمع الذي يحتقرونه، ولم تكن البنادق سلاحهم الرئيسي في تلك الحرب، وإنما إثارة الفضائح، وكشف المستور".

أصبحت فضيحة "كلب أندلسي" واحدة من أساطير السورياليين، وقد قال بونويل أنه عند العرض الأول للفيلم، جلس خلف الشاشة بعد أن ملأ جيوبه بالأحجار "كي يقذف بها الجمهور إذا وقعت أية أحداث كارثية"، لكن في بعض الأحيان، تصبح ذكريات بونويل عبارة عن إعادة صياغة للحياة مفعمة بالحيوية، والنشاط، قال أيضاً أنه عندما شاهد مع أصدقائه الفيلم السوفييتي الثوري "المدمرة بوتمكين" (Battleship Potemkin) للمخرج السوفييتي أيزنشتاين، غادروا دار السينما، وبدؤوا على الفور في تجميع الأحجار من الشوارع استعداداً لبناء المتاريس، هل هذا صحيح؟

كان "كلب أندلسي" أحد أوائل الأفلام التي نفّذها صانعوها بميزانيةٍ ذاتية محدودة، دون الاعتماد على التمويل من إحدى شركات الإنتاج، تلك النوعية من الأفلام التي سبقت أعمال المخرج، والممثل جون كاسافيتز، والأفلام الرقمية المستقلة الموجودة في عصرنا الحالي، بونويل (1900-1983)، ذلك الإسباني الذي نزح إلى باريس مدفوعاً بأحلامه الغامضة كي يصبح فناناً، عثر على وظيفة في صناعة السينما، واكتسب خبرة فيها، لكنه طُرد من عمله بسبب إهانته للمخرج العظيم آبل غاس، وانزلق من فوره إلى مدار الحركة السوريالية.

ذهب بونويل لقضاء بضعة أيام في منزل دالي، وهو صديقٌ إسباني، وأخبره عن حلم رآه، حيث تشقّ سحابة القمر إلى شطرين، تماماً "مثل شفرة حلاقة تشطر حدقة العين إلى نصفين"، وأجابه دالي، بأنه هو أيضاً رأى حلماً حيث يزحف النمل خلال يدّ بشرية، ثم سأله: "ماذا لو انطلقنا من هذه النقطة، وبدأنا في صناعة فيلم؟" وهو ما حدث بالفعل، فقد كتبا السيناريو معاً، وتولّى بونويل إخراج الفيلم مستغرقًا في ذلك بضعة أيام بعد أن اقترض المال من والدته من أجل ميزانية الفيلم.

في أثناء إعداد السيناريو، كانت طريقتهما هي إلقاء الصور، والأحداث المروّعة في مواجهة أحدهما الآخر. كان لا بدّ من موافقة كليهما قبل تضمين أيّ لقطة في الفيلم، ويتذكر بونويل مشيراً لما حدث: "أي فكرة، أو صورة تفضي إلى تفسيرٍ عقلاني، أو منطقي من أيّ نوع كانت مرفوضة تماماً في كل الأحوال، فقد كان علينا أن نفتح أبواب اللا منطق على مصراعيها، ونحتفظ فقط بتلك الصور التي أذهلتنا، دون حتى محاولة تفسير السبب في ذلك".

عقب صورة القمر، يأتي مشهد الرجل الذي يحمل شفرة الحلاقة (بونويل)، ويشق بها عين السيدة (في الحقيقة كانت عين صغير الماشية، رغم أن الأسطورة حولتها إلى عين خنزير)، ويلي ذلك صورة اليد البشرية التي يزحف خلالها النمل، والإبط المكسوّ بالشعر، واليد المقطوعة الملقاة على الرصيف، والعصا التي تعبث باليد المقطوعة، والاعتداء الجنسي على نمط الأفلام الصامتة، والمرأة التي تحمي نفسها بمضرب التنس، والمعتدي المزعوم يسحب آلة البيانو ذات الأحمال الغريبة، واثنان من التماثيل الحية كما يبدو منغرسة في الرمال، وهكذا، إن وصف الفيلم يكمن ببساطة في سرد لقطاته، لأنه لا توجد أية قصة تربط بينها.

ومع ذلك، فإننا نحاول ربطها معاً، فقد قام عددٌ لا يُحصى من المحللين بتطبيق نظريات فرويد، وماركس، ويونغ على الفيلم، إلاّ أن بونويل سخر منهم جميعاً، فنحن دائماً نشاهد الفيلم هذا، أو ذاك كي نعثر على المغزى المختبئ بداخله، وهذا يحدث بديهياً عندما نشاهد هذا الفيلم الذي لا يحمل أيّ مغزى.

طلب بونويل من إحدى الممثلات أن تنظر من النافذة إلى "أيّ شيء – ربما استعراض عسكري"، وفي الحقيقة، تُظهر اللقطة التالية المُخنث يسقط ميتاً قبالة الدراجة الهوائية، نفترض بطبيعة الحال أن الممثلة تنظر إلى الجسد الملقى على الرصيف.

من الغريب، رغم كلّ ما نعرفه عن السينما والأفلام، أن نتوصل إلى أن مشهد الرصيف يلي مشهد النافذة على سبيل المصادفة دون وجود أية علاقة بينهما، وعلى نفس النحو نفترض أن الرجل يسحب آلة البيانو (التي يتكدّس فوقها الكهنة، والحيوانات الميتة، إلخ) عبر الغرفة، لأن المرأة التي تحمل مضرب التنس رفضت تلميحاته الجنسية، لكن قد يجادل بونويل، بأنه لا توجد صلة تربط بين الأحداث – رفضت المرأة تلميحات الرجل الجنسية، وبعد ذلك، في تصرفٍ غير ذي صلة على الإطلاق، التقط الرجل الحبال، وبدأ في سحب البيانو.

عندما نشاهد فيلم "كلب أندلسي"، من المفيد أن نراقب أنفسنا أيضاً بنفس الاهتمام أثناء المشاهدة، فنحن نفترض في إطار ذلك أن "القصة" متمثلة في شخوص الفيلم – هؤلاء الرجال، والنسوة، وتلك الأحداث، لكن ماذا لو لم يكن هؤلاء الأشخاص أبطالاً بل مجرد نماذج، أو ببساطة ممثلين تمّ توظيفهم لأداء أدوار لأشخاص يقومون بأعمال معينة؟ نعلم أن العارض في ثوب السباحة الذي يشير إلى السيارة في معرض السيارات لا يملك تلك السيارة، أو قام بتصميمها، أو ساهم في صُنعها، قد يجادل بونويل بأن الممثلين في هذا الفيلم لديهم علاقة شبيهة بالأحداث التي تدور حولهم.

قام لويس بونويل (1900-1983) بتحقيق فيلم سورياليّ آخر بعنوان "عصر الذهب" (L'âge d'or) (1930)، وقد اتهم هذا الفيلم بتدنيس المقدسات، ومُنع عرضه لسنوات عديدة، كان عاملاً ماهراً لدى شركة مترو غولدن ماير في مرحلة ما، حيث أشرف على إصدارات أفلام هوليوود باللغة الإسبانية، وصنع العديد من الأفلام في المكسيك التي حظيّ بعضها بالتقدير الشديد مثل "الصغير، والملعون"، و"الحياة الإجرامية لأرشيبالدو دي لا كروز"، وفي سن الحادية، والستين، حقق نجاحاً عالمياً في فيلم "فيرديانا" الذي ضمّ مشهداً صادماً جاء على غرار لوحة العشاء الأخير للفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي، وعلى مدى السبعة عشر عاماً التالية، أنتج أفلاماً مذهلة، فيلماً تلوَ الآخر، مثل "الملاك المُدمّر"( The Exterminating Angel)، "يوميات خادمة" (Diary of a Chambermaid)، "حسناء النهار" (Belle de Jour)، "شيء ما غامض عن الرغبة" (That Obscure Object of Desire)، "سحر البرجوازية الخفي" (The Discreet Charm of the Bourgeoisie)، "تريستانا" (Tristana)، "شبح الحرية" (The Phantom of Liberty).

يكشف "كلب أندلسي" النقاب عن الكثير من العادات القديمة، وغير الواعية في مشاهدة الأفلام، فهو مزعج، ويسبِّب الإحباط، ويثير الجنون، إنه فيلمٌ بلا هدف (ومع ذلك، ما مدى وجود هدف فعليّ من مشاهدة معظم الأفلام التي نذهب لمشاهدتها؟)، ينطويّ على السخرية، ورغبة جامحة في توجيه الإهانة، لا يشعر معظم الأفراد من الجمهور الحالي بالإهانة، وربما يعني ذلك أن السورياليين فازوا في معركتهم: فقد أثبتوا أن الفن، (والحياة) لا يسيران مكبلين بقيودٍ صارمة وُضعت منذ زمن سحيق، وذلك من خلال فيلم مفعم بالحياة لا يخنع للتقاليد، فأنت لن تعرف أبداً ما قد تراه عندما تنظر من النافذة.

[1] عصر الجيل الضائع (Lost Generation): بدأ بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تجمّع العديد من الأدباء الشبان في باريس هاربين مما خلفته الحرب العالمية الأولى من أهوال في جميع أنحاء العالم، أطلقت جرتوترود شتاين هذا الاسم على الحركة الأدبية الجديدة عندما قالت لإرنست همنجواي: "إنكم جميعًا جيل ضائع". (ملاحظة المترجم).

المصدر:

الموقع الإلكتروني للناقد السينمائي روجر إيبرت (Roger Ebert).

سينماتك في ـ  09 يناير 2023

* هذه المواد نشرت في جريدة التيار السودانية، بتاريخ 20.01.2022

 

>>>

60

59

58

57

56

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004