شعار الموقع (Our Logo)

 

 

"أنا أكتب ليس من أجل لذة الكتابة نفسها, بل لكي أتغير بمقدار ما أكتب". كان هذا, على الدوام, فعل ايمان الكاتبة الألمانية آنا سيغرز, التي كانت أحد أكبر الأسماء في تاريخ الأدب الاشتراكي, ولا سيما في المانيا الشرقية, حتى وان كانت أعمالها الأولى والكبرى صدرت قبل أن تكون هناك ألمانيتان.

آنا سيغرز لم تحصل أبداً على جائزة نوبل, وكان هذا يحز في نفسها, لكنها حازت جوائز وطنية عدة, بما فيها جائزة كلايست, كما حازت في العام 1959 جائزة لينين التي كانت تعتبر أعلى جائزة تمنح في العالم الاشتراكي. أما هوليوود فقد كرمتها من طريق المخرج فرد زينمان, أحد مضطهَدي اللجنة الماكارثية السيئة السمعة في الولايات المتحدة, الذي حقق فيلماً لا بأس به انطلاقاً من أشهر رواياتها "الصليب السابع". أما القراء التقدميون في العالم كله - يوم كان لهذه الكلمة من معنى - فقد قرأوا أعمالها على نطاق واسع. وحتى توحيد المانيا بعد سقوط جدار برلين وسقوط المعسكر الاشتراكي, لم يهز كثيراً سمعة هذه الكاتبة التي لا شك في أن كثراً فكروا فيها حين شاهدوا حديثاً الفيلم الألماني "وداعاً... لينين" من دون أن يكون لها أية علاقة بهذا الفيلم.

المهم ان آنا سيغرز كانت حالاً شعبية في الأدب الاشتراكي. وإذا كانت أعمال كثيرة لها ساهمت في اسباغ تلك المكانة عليها, لا شك في أن روايتها "الصليب السابع" كانت ذات الدور الأساس في ذلك كله. إذ ان هذه الرواية التي نشرت للمرة الأولى في العام 1941, وكانت النازية وصلت الى ذروة انتصاراتها وضروب رعبها, انتشرت بسرعة في العالم كله, وأقبل عليها ملايين القراء, بمن فيهم أولئك الذين ما كان من شأنهم أن يستسيغوا أسلوبها الواقعي - الاشتراكي الفج, والذي - على أية حال - لم يكن اتخذ بعد قوانينه الستالينية الرسمية على يد جدانوف وأضرابه. ولنقل, مثلاً, في هذا السياق, ان عكس ما يمكن أن نتصور كان هو الذي حدث: كان يروى عن جدانوف ومعلمه ستالين, أواخر الأربعينات, انهما كانا يذكران "الصليب السابع" - مع بعض التحفظات القليلة - كنموذج لما يجب أن يكون عليه الأدب!

في شكل أساس, تروي "الصليب السابع" حكاية سبعة سجناء المان يهربون من معسكر الاعتقال النازي معاً, وتتمكن السلطات من القبض على ستة منهم, بعد أن تكون نصبت سبعة صلبان ليموتوا عليها. وهكذا يصبح الستة المقبوض عليهم مصلوبين, بينما يظل الصليب السابع خالياً, ذلك ان السجين الفار الذي نصب هذا الصليب من أجله, يظل طليقاً وتعجز سلطات النازيين عن القبض عليه, ما يبقي ذلك الصليب بخلوّه من شاغله رمزاً للأمل والحرية.

آنا سيغرز لم تستخلص تجربة الاعتقال من خيالها, أو مما روي لها خلال فترة أو أخرى من حياتها, بل انها استقتها من تجربتها الشخصية, اذ انها كانت من أوائل الكتّاب الذين اعتقلهم النازيون ما إن وصلوا الى السلطة في العام 1933, وكانت تهمتها الانتماء الى الحزب الشيوعي الألماني. وقد تمكنت آنا سيغرز, مثلما ستكون حال غيورغ, بطل روايتها "الصليب السابع" لاحقاً, من الفرار الى خارج المانيا حيث واصلت النضال ضد النازيين, مصدرة كتاباً بعد الآخر, ومشاركة في شتى أنواع النضال... وكانت النتيجة انها عاشت أكثر من عقد في الخارج, ولم تعد الى المانيا إلا في العام 1947, حيث استقبلت استقبالاً يليق بكبار المناضلين والكتّاب. في "الصليب السابع", هذه الرواية التي لا تخلو من نزعات ملحمية تمتزج في شكل طيب مع نزعتها الواقعية, تتابع آنا سيغرز, في شكل خاص إذاً, مسيرة غيورغ, الذي سيبقى مواصلاً طريقه فيما يقع رفاقه الهاربون في أسر النازيين من جديد واحداً بعد الآخر. والحال ان هذه الحرية "الفردية" التي يتمكن غيورغ من الوصول اليها, ليست غريبة عن كتابة آنا سيغرز, إذ ان تحرر الفرد المضطهد, عبر مسيرة يخوضها وتنقذه وتكسبه وعياً وتحرراً وحباً للناس المضطهدين, هو ما يشكل الموضوع الأساس ليس في "الصليب السابع" وحده, بل في عملها الأدبي كله.

ان معسكر الاعتقال الذي يفر منه غيورغ ورفاقه, يقع في مكان ما بين مايانس وفرانكفورت. غير ان مسيرة الهرب, ليست متطابقة تماماً مع مسيرة الرواية, ذلك ان فصول الرواية لا تفتأ تعيدنا بين الحين والآخر الى المعسكر (وهو معسكر "وستهوفن"), حتى وان كان القارئ يتابع, على الدوام, مسار غيورغ في هربه... غيورغ الذي هو, كما أشرنا, الوحيد الذي تمكنه شجاعته واخلاص رفاقه وسلسلة من الظروف المتتابعة من اكمال مساره. والحقيقة ان الكاتبة, حتى حين تترك, بين الحين والحين, بطلها متابعاً طريقه نحو الحرية وتعود الى أماكن أخرى, فما هذا إلا لكي تسمع الآخرين وهم يتحدثون عنه وعن بطولاته, وعن الأمل الذي يزرعه لدى البعض (زوجته, رفاقه في الهرب), كما عن الهلع الذي يزرعه عند آخرين (القائد فاهرتبرغ)... وفي الحالات كلها, يظل غيورغ هو البطل وهو موضوع الحديث: هو الفرد الذي ينعتق دائماً في روايات آنا سيغرز وقصصها, البطل الايجابي في نهاية الأمر, الذي تقدم أفعاله, نموذجاً يحتذى في رسم المضطهدين والبروليتاريين. وفي سبيل توضيح هذا, ها هي آنا تعود بنا الى ردود الفعل التي تحدثها مسيرته وأفعاله لدى الآخرين, وكأن الكاتبة تحاول بهذا أن تفرض على قارئها مزاجاً معيناً, يبجل بطولة غيورغ, ويحتذيه. وفي الوقت نفسه من الواضح ان الكاتبة تود أن ترسم من هذا كله - وتنجح فيه على أية حال - تلك العلاقات التي يمكن أن تقوم بين البشر, سواء أكانوا من المناضلين الذين يعملون, سراً, داخل المعسكر, من أجل الحرية, أو من اللامسيسين الذين لا يريدون إلا أن يتركهم الآخرون ليعملوا في سلام ودعة "من دون مشكلات أو وجع رأس", كما يقول أحدهم ذات لحظة, وصولاً الى أولئك الذين بعدما يكونون مناصرين كلياً للنظام النازي وأيديولوجيته, يبدأون على ضوء ما يتناهى اليهم من حكاية غيورغ ومغامرته البطولية, بطرح أسئلة تقلقهم من حول هذا النظام وارتباطهم به - كما هي مثلاً حال الصغير هولويغ - وهنا علينا أن ننتبه الى ان حال هولويغ تكاد تكون استثنائية وفريدة, إذ ثمة الى جانبه الكثير من النازيين الآخرين الذين يقبضون على السلطة ويواصلون استخدامها واساءة استخدامها حتى النهاية - ذلك أن آنا سيغرز لا تحاول هنا أن تزرع أية أوهام, أو ان تقول لنا ان الاختيار النازي أو الاختيار التقدمي, ليسا في نهاية الأمر سوى اختيار شخصي ارادي. فالآخرون ليسوا, بعد كل شيء, كلهم مثل غيورغ الذي أبدعت سيغرز في رسم شخصيته, إذ انه في البداية يكاد يكون شخصاً محايداً... لكن وجوده في المعسكر هو الذي يسبغ عليه وعياً وشجاعة في الوقت نفسه (وهذا ما سنلاحظه نحن مباشرة, ولكن سيقوله لنا الآخرون أيضاً). وهكذا, بمقدار ما يتقدم غيورغ في هربه ومساره, تزداد مقاومته للتعب والمصاعب والعقبات, حتى من دون أن يعرف أنه يعيش "أيضاً" داخل ذاكرة أو كلمات أولئك الذين عرفوه. وهذا ما يجعله يتحول بالتدرج الى ما شاءت له آنا أن يكونه: انساناً من لحم ودم من ناحية, ورمزاً اسطورياً من ناحية أخرى. ومن خلال هذا الرمز وشتى المواقف منه تمكنت آنا سيغرز, في الحقيقة, من رسم صورة حية لألمانيا النازية في ذلك الحين.

آنا سيغرز ولدت العام 1900, وكان اسمها الأصلي نيتي رضواني. وهي درست التاريخ وتاريخ الفن ولغة الصين في كولونيا قبل أن تنصرف الى الأدب وتلتحق باكراً بالحزب الشيوعي الألماني. وهي عاشت طوال القرن العشرين, تنشر أعمالها تباعاً وتراكم شهرة فوق شهرة, الى درجة انها بعد الحرب العالمية الثانية, صارت أكثر شهرة من أي كاتب الماني آخر, كما صارت في المانيا الشرقية, بطلة قومية حقيقية. وكتبت آنا سيغرز, اضافة الى "الصليب السابع" أعمالاً كثيرة لم تقل شهرة عن ذلك العمل, ومنها: "ثورة صيادي سانتا بربارا" (1928) و"الموتى يبقون شبانــــــاً"(1949) و"خلية النحل" (1953) و"القرار" (1959).

جريدة الحياة في  9 فبراير 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

بسام الذوادي ـ لقاء

      مهرجان البندقية.. يكرم عمر الشريف

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

آسيا جبّار عبّرت عن الهواجس الدفينة للمرأة

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"الصليب السابع" لـ" آنا سيغرز":

هكذا يتكون البطل

إبراهيم العريس *

* ناقد وصحافي لبناني ولد في العام 1946م في بيروت، ألف وترجم عدداً من الكتب الفنية والسياسية والإقتصادية. من مؤلفاته السينمائيية: (الصورة والواقع)، و(الكتابة في الزمن المتغير)، و(رحلة في السينما العربية). كما أصدر كتاباً عن (شابلن)، وآخر عن (هيتشكوك)... يشرف حالياً على ملحق "سينما وفضائيات" الأسبوعي، والذي تصدره جريدة الحياة اليومية.