لا تعد السينما “الدوكمنتارية” موضوع الدراسات الخاصة. والمقاربة الاكثر نسقية هي المقاربة التي يلتزم بها الباحثون الذين يحاولون تعريف السينما الأنثروبولوجية. يتمثل أحد ابتكارات هذه المقاربة في كونه يمزج بين النظرية وممارسة الإخراج. في الواقع، لم تزل المقاربات بين السينما والأنثروبولوجيا “متلعثمة”، نزاعية وموضوعا للمراهنات. في العام ،1959 خلال عصر فيلم “انا أسود”، تلقى جون لوك جودار هذه الصياغة: “محملا بالأبحاث في متحف الانسان، هل هناك تعريف طيب عن السينمائي؟”، آنذاك حاز جون روش جائزة لوي - دولوك عن هذا الفيلم، والأثنولوجي - السينمائي فتح طريق السينما الى “التعشيق المباشر” مع الواقعة، الثرية بصور غير محدودة وغير مطبوعة، في مقابل افلام العصر الاخرى التي تتبدى “ليس غير مفيدة فقط، وإنما تافهة: كريهة تقريباً”. من دون رغبة في النقاش أوتطوير هذه الملاحظات، استدعي ببساطة الدور الذي تؤديه افلام جون روش، في الاصل تعتبر عملا اثنولوجيا، بالنسبة للموجة الجديدة. عندما استدعينا روسيليني بملء الارادة، وهنا يطيب لي ان أتذكر “في بلاد السحب السوداء”، اول افلام “الشاعر والساحر الغالي”، الذي خرج كتتمة برنامج سترومبولي. بذا تتحاور السينما الإثنوغرافية مع السينما بأسرها. ومن جهة اخرى، ولد الفن السابع على سبيل انه رابطة “حقق أحد الاستعمالات الاولى للمدفع الكرونوفوغرافي الذي اخترعه ماري MAREY آنثروبولوجيا، وهو الدكتور رنيولت الذي درس بفضله السلوك المقارن بين الاوروبيين والآفارقة”. هذا الميل العلمي الاصيل لم يترك البتة ما نسميه “الفن الجديد”. إذن، نستطيع ان نجد في كل فيلم قيمة اثنوغرافية. في العام ،1948 لم يقل آندريه لوروا جورهان اي شيء في مقاله المؤسس: “هل يوجد الفيلم الإثنوغرافي؟”، لما ميز فيلم الوسط، المصور بلا مقصد علمي، غير انه، يأخذ قيمة اثنولوجية تصديرية مثل مغامرة عاطفية في وسط صيني أو فيلم عن عمالقة نيويوركيبن، اصبح من رسامي العادات الفضولية حينما بدل القارة”. بالعكس، كل فيلم إثنوغرافي، هل قال شيئا للسينما؟، على اي حال، ليست أرضا مميزة في التحليل لدى الجماليين والسيميولوجيين، على اعتبار انها تحلل الواقعة التي تؤفلمها، وهذا النمط السينمائي نزع جزءاً طيبا من لذة التحليل الفيلمي وصلته بالموضوع. على سبيل المثال، كيف نجرى القسمة بين شفرات الفيلم وبين ما يتبدى من الواقعة؟ فقط أو تقريبا، عرف النقد البازاني الاحتفال بالجمال، الغوامض والفضائل. في المنظور الاثنولوجي، وحد اساس الانعكاس على هذا النوع السينمائي: بقصد دراسة مزيدة عن المشروعية العلمية. ميز لوروا - جورهان بين اتجاهين في الدوكمنتارية الإثنولوجية: من جهة اولى، الكاميرا المستعملة كدفتر مذكرات، تسمح بتجميع وثائق العمل القابلة بأن تكون محللة في ما بعد، ومن جهة ثانية “الفيلم المعد، المنظم كمطبوعة بحيث ان الاثنولوجي يكتبه بالأفلام الخام، حول موضوع معطى”. لكي يدرك هذه النتيجة، يجب ان تظهر السينما الإثنوغرافية انها من الممكن ان تكون شيئا آخر عن أفلمة سلسلة من الظواهر الملحوظة او الرسم البسيط للشرح. ايضا لا يتعلق الامر، في هذه الابحاث، سوى بالانعكاس “مع” على السينما، انعكاس مرتبط بممارسة الاخراج. اذاً، عندما يستطيع الإثنولوجيون عرض اعمالهم تحت شكل الفيلم، فإن الامر ينطوي على تكونها في التعبير السينمائي. في المقام الاول، من وجهة النظر العلمية، اهمية السينما واضحة بما انها تمكن من تسجيل - بصورة ميكانيكية - تلاصق الانشطة الانسانية. حينذاك، نترك الأثر، كي نقول “الحياة”: الشخصيات، الطقوس، الاعمال الحرفية، أو الاعمال الاخرى التي اختفت اليوم. لكن بالاختلاف مع الملاحظ المباشر الذي يرتب ويختار، نجد ان الكاميرا تسجل ميكانيكيا ما يمر امام عدسته المرئية - على اساس ان هناك نورا كافيا -، ولا تستطيع أفلمة كل شيء، المجموعة الاتصالية النهائية للواقع في آن معا، إذ ان زاوية رؤيتها محددة ليست هذه العين ميكانيكية، فدائما منقولة بواسطة الأثنولوجي الذي عالج، في الزمن وفي الفضاء، أشكالا كي يسطر ويسجل الاحداث التي يود إمساكها. هنا، توجد وظيفة الصورة، الإطار واللصيقة معا، وبالتالي لا يتعلق الامر بالمجازفة والانعكاس الجمالي، وانما بالنظام التعبيري المعروض امام من يود تحليل الظواهر الممكنة الكاملة والواضحة للغاية. الكاميرا، وقد سجلت النشاط الانساني، تمسكه من ثلاثة أبعاد: البعد المادي، البعد الطقسي والبعد الجسدي. مع ذلك، حسب الانشطة، تسيطر على هذا البعد او ذاك. والإثنولوجي يجب ان يسطر هذه الخاصة الغالبة، وهي تؤدي الإمكانات التعبيرية للسينما. تأطير القاعدة حسب “كلودين دوفرانس”، أصلاً، يجب تحديد “تأطير القاعدة”، اي نمط التأطير الذي يطوق العملية الملاحظة: مجموعة من الشخصيات المعنية، فضاء محيط او جزء من الجسد في حركة: هذا التأطير للقاعدة من الممكن تحديده حسب الوضع العريض أو الضيق “حتى يسطر اي تفصيلة على الشاشة” وتحديده امر اساسي لمعرفة اي بُعد للعملية المسجلة، مثلا. قدمت “كلودين دوفرانس” مثالا عن فيلمها: “تقنيات التمارين العضلية”، حيث، خارج النظرات الإجمالية للفيديو، عرضت ان التمارين نفسها، تبعا للإطار، تتبدى كأنها “تبرز تارة من حركة الرياضي على جسده وتارة اخرى على الموضوع المادي”. هذا الهم للفاعلية التعبيرية يعمل على إقصاء الحقل الآنثروبولوجي، مثلا “أفلام بيار ديسكين المحققة في تشاد والمكونة اساسا من لقطات قريبة للجسد، حيث وضع السينمائي المشاهد في هذا النطاق الوسيطي، المضطرب نسبياً، لكن لأن هذا النمط من الإدراك يقتضي، من ناحية الإثنولوجي السينمائي، سلطة العرض، إذ انها تعرف إظهار الفنانين، والسعي الى ترتيب الأفلام التي تتأتى من قائمة نتاجات الجماليين واستبعادها من الآنثروبولوجيا”. القيود العملياتية تكشف إمكانية أفلمة المجموعة الاتصالية للواقعة التمفصلات التي تحدد الاشكال المكانية والزمانية. تقترح كلودين دوفرانس مفهوم القيد، مستلهمة اصطلاح وضعه آندريه لوروا - جورهان “القيود العملياتية”. كل حركة تسبب علاقات دائمة، في الفضاء نفسه بين الذوات وبعضها بعضا، بين الذوات والاشكال، وتدوّن في رسامة زمنية. يمكّن هذا المفهوم للقيد من تحليل الموضوعات والاشياء، وتفاعلاتها الابدية في آن معا. يستوجب تعدد ودقة هذه التفاعلات، وكذا نمطها “القيود المادية أو الطقسية” يتطلب تقسيمات وتفريعات متعددة. لنأخذ ببساطة مثالين اعطتهما كلودين دوفرانس. في “كوارث منتظمة” لجون - دومينيك لاجو، مجموعة من الفلاحين، يصاب كل فرد منهم بكارثة في محصول قمحه، فحدد “قيدا لا مرئيا” ضروريا لهذا الأثر المادي. اما الفيلم الآخر، نساء قبيلة الزولو في جنوب افريقيا وهن يرقصن “البيثون”. “النسوة ملتصقات، وكل واحدة خلف الاخرى وتمسك بكتفي من أمامها”، يؤسس قيدا طقسيا عبر الاتصال الراقص. هل تستطيع هذه الإنعكاسات وهذه الممارسة الاهتمام بالسينما الخيالية أو الطموح الفني؟ نعم، في جزء كبير بالعكس. لم يعالج السينمائي القيود، المجموعة الإتصالية التي يجب ان يقطعها، لكن على العكس: اعطى حس التواصل عبر المقاطع. اذا استطعنا الكلام عن القيود، فإنه يختلقها. من جهة اخرى، هدفها ليس قبل اي شيء إخباري، نستطيع ان نتخيلها - بتناول الأبعاد الثلاثة الخاصة بالانشطة الانسانية - عبر التخيل، وبذا سيكون من الملائم ان يوضح السينمائي الكتاب الطقسي للنشاط المادي أو الجسدي، بينما يتمسك بالبعد الجسدي للنشاط الطقسي. العرض والفيلم لكن، وأكرر، هذه الابحاث تعمل على توطيد صلاحيتها العلمية. بين الحالات الاصطلاحية الممكنة - دَون لوروا - جورهان بعضها -، هناك حالتان اساسيتان لدى كلودين دوفرانس: “الاولى تستخدم الفيلم كوسيط لعرض النتائج المكتسبة عبر وسائط التحقيق الاخرى مثل السينما “فيلم العرض”، الثانية تستغله كوسيط للاستكشاف “فيلم الاستكشاف”. غير انها تؤكد ان هذا الفصل مصطنع “في المقياس الذي يحتوي كل فيلم فيه على اتجاهين”، أيا كان المفهومان مفروضين كرونولوجيا. ينطلق العرض من المسلمة التي ترى ان احدا لا يريد الملاحظة المباشرة السابقة على البحث الذي يحدد العناصر الواجب أفلمتها. حذر الآنثروبولوجيين يسكن في الخاصية المقطعة من التسجيلات، المرتبطة بالفترة المحددة لبكرات الفيلم. منذ ذاك، تبدت امكانية تحريك الصوت المتزامن وتجهيز فترات طويلة لتحويل الابعاد. اليوم، تهيئ أداة الفيديو عملية ترقية وسيط الاقتراب من سينما الاكتشاف. في الطور العالي من هذه المرحلة، الحركة الاولى للمخرج هي الأفلمة، لا يوجد مسعى سابق، اذا لم يكن هناك طور قصير للتدوين، لكن على الفور اخذت الأفلمة ورؤيتها مكانهما. الطور الاستكشافي فرصة لأخراج النظرات الاجمالية التي تحيط بطرق متعددة للعملية المؤفلمة - هذا غير ممكن بالتأكيد اذا لم يكن الطور مكررا. هذا المبدأ ساعد على تطويق الظواهر. بين الإسهامات المقدمة من اي نمط للمقاربة هناك إسهامان. التسجيل المتزامن للصوت يعيد ليس فقط الكلام وصخب الشخصيات المؤفلمة، وانما ايضا الحوار الذي يتأسس بينهما وبين المؤفلم. وبذا يلاحق الأثر الذي تستدعيه الكاميرا في الوسط. هذه طريقة للتأكيد على كون السينما الإثنوغرافية لا تتملك سذاجة التفكير لكي تعيد الواقعة ايا كانت وأيا تكون من دون الكاميرا، لكن على العكس، هناك ادارة مشهد/ إخراج: إخراج الشخصيات المؤفلمة “بتغيير سلوكها، درج اي موضوع” وإخراج المؤفلم “التأطير، المكان وايضا التعليمات الشفهية للشخصيات المؤفلمة”. النتيجة تقريبية - حتى تصارعية - بين هذين الإخراجين. إذن لا نستطيع الكلام عن “الطبيعي”. الطبيعي ليس سوى الطبيعي. الذي يقابل هذا الوضع المؤكد. مكن تسجيل الفيديو، بإمكانية الرؤية المباشرة، من اشتراك الشخصيات المؤفلمة في اعداد المنتج النهائية، هذه الإيماءة، التي ترتبط مع إيماءة فلا هارتي والتي طورت بكراتها لكي تظهر بداية “الإنويين” الذي شرع في تصويرهم، وكذا تمكن من التخلص من اخطار العرقية المركزية والنزعة الرؤيوية اللتين تحلقان أعلى سيرة الاثنولوجيين السينمائيين. جريدة الحياة في 29 يناير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
من بكرات الفيلم إلى سلطة العرض قبيلة الإثنولوجيين بقلم: جاك كيرمابون ترجمة: أحمد عثمان |
|